الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
أغنية (القلب يعشق كل جميل) وحكايتها- الجزء الثاني
(القلب يعشق كل جميل) أغنية دينية ذات طابع خاص ومميز يختلف عن باقي أغاني أم كلثوم، وكان في هذه الأغنية آخر لقاء جمع أم كلثوم بكل من محمود بيرم التونسي ورياض السنباطي، كما كان في هذه الأغنية آخر ظهور لأم كلثوم على الإطلاق على خشبة المسرح عام 1971.
تقول الكاتبة نسرين علّام: لم تكن "القلب يعشق كل جميل" الأغنية الدينية الوحيدة التي تتغنى بها أم كلثوم، ولم تكن اللحن الوحيد الذي يؤلفه رياض السنباطي لأغنية دينية - ولكن عنصراً مهماً في هذه الأغنية، يضعها على حدة بين باقي أغنيات أم كلثوم الدينية.
كتب بيرم التونسي قصيدة "القلب يعشق" باللهجة المصرية القريبة من لهجة عامة الشعب، لهجة الفلاح البسيط الذي يمني نفسه بزيارة بيت الله الحرام. أما أغنيات أم كلثوم الدينية الأخرى، فكانت قصائد بالعربية الفصحى مثل "نهج البردة" و"سلوا قلبي" عام 1946، وقصيدة "إلى عرفات الله" عام 1951، وكلها من شعر أحمد شوقي وألحان رياض السنباطي.
وكذلك الأمر عندما شدت أم كلثوم بالأغاني الدينية عبر شاشة السينما، في فيلم "رابعة العدوية" عام 1963، جاءت أغنياتها فيه بالفصحى مثل "الرضا والنور" و"لغيرك ما مددت يدا"، وكلاهما من شِعر طاهر أبو فاشا. وفي عام 1967 شدت أم كلثوم بقصيدة "حديث الروح" للشاعر الباكستاني محمد إقبال، التي ترجمها من اللغة الأوردية الشيخ الصاوي شعلان، وهو من علماء الأزهر.
لقد كانت (القلب يعشق كل جميل) عملا فنيا مؤثرا على صعيد العالم العربي، شمل مختلف شرائح الشعب العربي. وأذكر أحد الأساتذة المتدينين جدا في الموصل كان يفتح جهاز الراديو في حديقة بيته، وبأعلى صوته، كي يُسمع الجيران هذه الأغنية المؤثرة بكلماتها الشعبية البسيطة ولحنها الجميل الذي تُحلّق به الروح عاليا.
لقد تحدث الشيخ الجليل الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي (1929- 2013م) من على المنبر عن الكلمات البسيطة باللهجة العامية التي صاغها قلم بيرم التونسي معبرا عما يجيش بخاطره في رحلته للحج وهو يقول:
دعاني لبيته لحد باب بيته .. واما تجلى لي .. بالدمع ناجيته
وقد عقّب عن ذلك الشيخ البوطي وهو متأثرا وتكاد الدموع تغمر عينيه: " هذا لسان حال كل عاصي".
https://www.facebook.com/100010393143305/videos/653639364379101
لقد كان بيرم التونسي شخصا عاصيا لم يكابر متفردا عاش حياته للهو والمتعة، وعاش عمره مطعوناً في دينه، مشتبكاً في خلافات مع التيار الديني المتشدد وشيوخه، وله معهم معارك ساخنة ومواقف طاحنة.
وفي إحدى ليالي موسم الحج جاءته دعوة في المنام للزيارة بيت الله العتيق، فنهض في الصباح الباكر وأكمل أوراقه الرسمية ومعدات السفر.
يُعبِّر بيرم التونسي عن ذلك في قصيدته قائلا:
كنت ابتعد عنو ... وكان يناديني
ويقول مصيرك يوم ... تخضع لي وتجيني
اختفى بيرم التونسي وأعتقد الناس أنه سُجن أو تم نفيه، لكنه لبى دعوة ربه الكريم:
دعاني لبيته ... لحد باب بيته
ولما تجلى لي ... بالدمع ناجيته
وفي الكعبة المشرَّفة رأى بيرم الوف الحمام يطوف حولها، فبدأت دموعه تنهمر، ثم بدأ يكتب القصيدة باللهجة العامية المصرية ويصف الأجواء الروحانية الطاهرة في بيت الله العتيق وفي المسجد النبوي الشريف:
مكة وفيها جبال النور ... طلة على البيت المعمور
دخلنا باب السلام غمر قلوبنا السلام بعفو رب غفور
فوقنا حمام الحمى عدد نجوم السما ..طاير علينا يطوف ألوف تتابع ألوف
طاير يهني الضيوف بالعفو والمرحمة
لقد كتب بيرم التونسي أروع ما كتب عن لقاء العبد بربه في الحج، وقد شدت به أم كلثوم بعد وفاة بيرم بعدة سنوات.
تتحدث هذه الأغنية عن الحب الإلهي، وعن السلام الداخلي الذي يتحقق بزيارة بيت الله الحرام، وتنتهي بمشهد يتخيل فيه الشاعر نفسه (وإن لم يقل ذلك) في الجنة، ويتمنى أن يكون مصير كل أحبابه مثل مصيره. ثم يختتم القصيدة بالدعاء للجميع بأن ينالوا مثل ما نال:
يا ريت حبايبنا ... ينولوا ما نلنا
يا رب توعدهم ... يا رب واقبلنا
وبعد عودة بيرم التونسي إلى مصر أعطى القصيدة إلى صديقه وتوأم روحه الشيخ زكريا أحمد (1896-1961) لكي يُلحنها لأم كلثوم فلحنها، لكن أم كلثوم اعترضت على بعض الجُمل اللحنية مما أدى إلى حدوث خلاف بينهما دام عشر سنوات. وظلت الأغنية حبيسة الأدراج حتى العام 1969.
https://www.youtube.com/watch?v=IBcC7zXlE9U&t=4s
بعدها بعام توفي زكريا أحمد، فأخذ الأغنية رياض السنباطي وأعاد تحينها لتغنيها أم كلثوم في العام 1971. وفي العام نفسه أنشدتها أم كلثوم في حفلة أبو ظبي في عيد الجلوس الخامس للشيخ زايد بن سلطان وبحضور نجله خليفة بن زايد آل نهيان.
https://www.youtube.com/watch?v=bo6TjDFUj0U&t=8s
وفي سنة 1975 توفيت أم كلثوم بسبب فشل كلوي، وبعد وفاة أم كلثوم غنتها الفنانة اللبنانية نجاح سلام وهي محجَّبة في حفل تكريم أم كلثوم.
يقول الدكتور محمد أبو الفتوح غنيم، الأستاذ في قسم موارد التراث في جامعة الملك سعود في السعودية، في مقال نشره في جريدة "الجزيرة"، إن "أغنية القلب يعشق كل جميل جاءت لتتوج هذا العطاء المتميز (لكل من أم كلثوم والسنباطي)، حسَّاً وتعبيراً، عاطفةً وصوفية، وإن كانت بالعامية المصرية. ويكاد يجمع من يسمعها على صوفية روحها، وعلى رقة كلماتها، وعذوبة لحنها، وحسن إنشاد أم كلثوم لها، بل ويتأثر بها ويكاد تدمع عيناه من فرط التأثر بها".
وكما كانت "القلب يعشق كل جميل" الأغنية الدينية الوحيدة لأم كلثوم بالعامية المصرية، فقد كانت أيضاً الأغنية الدينية الوحيدة لمؤلفها الشاعر المصري التونسي بيرم التونسي، صاحب الأغاني العاطفية مثل "هو صحيح الهوى غلاب" و"أنا في انتظارك" و"الحب كده".
لقد تضافرت كلمات بيرم وصوت أم كلثوم مع لحن السنباطي وقد "نجح السنباطي بعبقريته الموسيقية، في أن يجمع في لحنه بين الإحساس بالجلال والعظمة والشجن من جهة، والبهجة والمحبة والفرح من جهة أخرى، فكان لحناً خفيفاً ذا إيقاع مرح سريع، يختلف عن ألحانه المعتادة للأغنيات الدينية التي لحنها لأم كلثوم من قبل، أو لغيرها من المطربين والمطربات، أو حتى لنفسه، وهو الأسلوب الرصين الذي كان أشبه ما يكون بالابتهالات الدينية ذات الإيقاع الثقيل".
ولعل "السلطنة" والانخطاف اللذين يستشعرهما المستمع في صوت أم كلثوم، من أسباب خلود "القلب يعشق كل جميل" في ذاكرتنا الجمعية رغم مرور نحو نصف قرن على صدورها، وارتباطها ارتباطاً وثيقاً بموسم الحج.
فالحج، لا سيما في ريف مصر، تتويج لأعوام من الشوق لزيارة الكعبة المشرفة، ولأعوام وأعوام من الادخار والاستعداد المادي والروحي لدى كثيرين. ومن بينهم من لم يبرحوا قراهم قط، يقتصدون في قوتهم القليل، العام تلو الآخر، حتى تكتحل أعينهم برؤية الكعبة، وزيارة بيت الله.
وكعادة الكثير من المصريين الذين يعربون عن فرحهم بالزغاريد والتمايل والرقص، فإن نغمة البهجة والانتشاء التي تشيعها الأغنية، تملأ القلوب بالفرح بمعناه الروحي والجسدي، إذ تقول: "واحد مفيش غيره.. ملا الوجود نوره.. دعاني لبّيته.. لحد باب بيته.. وأمّا تجلاّلي.. بالدمع ناجيته".
ويقول الموسيقي والباحث العماني مسلم بن أحمد الكثيري في مقال نشره في جريدة (عُمان): "إن لحن السنباطي لـ (القلب يعشق كل جميل) جاء مغايراً للكثير من ألحان الأغاني الدينية، التي يُكثر فيها المنشدون أو المغنون من استخدام الآهات أو الترنمات للاستعاضة بها عن استخدام الآلات الموسيقية".
ويضيف الكثيري: "إن السنباطي لم يجد في استخدام الآلات الموسيقية انتقاصاً من روحانية الأغنية الدينية أو هيبتها، بل طوّع استخدام الآلات الموسيقية لزيادة روحانية الكلمات وتأثيرها".
ويلاحظ الكثيري "دور آلة القانون البارز من خلال أداء الأستاذ محمد عبده صالح (1916-1970) الذي يكاد أن يكون ثاني المؤدين بعد أم كلثوم نفسها، فيما يشترك في الصولو الأخير معهما عازف الكمان الشهير الأستاذ أحمد الحفناوي (1916- 1990)".
وتقول الكاتبة نسرين علّام: في هذه الأغنية الانتصار للتدين الشعبي، وهذا ما نجده في قول بيرم التونسي: "لا يعاتب اللي يتوب ولا بطبعه اللوم"، ويقول أيضاً واصفاً كرم الله تعالى وعطاءه "أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم، وانا اللي علمتك من غير ما تتعلم.. واللي هديته إليك لو تحسبه بإديك تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم".
يمكن القول أن بيرم التونسي في هذه الأبيات ينتصر للتصور الشعبي للدين والتدين وليس للتصور المؤسساتي، ولعل هذا أحد أسباب ذيوع وانتشار "القلب يعشق كل جميل" حتى يومنا هذا. والدين كما تصوره الأغنية دين رحمة وعطاء وكرم وسخاء، والله عفو رحيم يقبل التوب من التائبين.. لا ذكر لعذاب أو عقاب في الأغنية، بل فيها كل ما يبهج وينتشي به القلب كما لو كان قد ارتوى من كؤوس العشق والهوى.
ويقول كتاب "الإسلام الشعبي: الإيمان، الطقوس النماذج"، وهو من إعداد مركز (المسبار للدراسات والبحوث): "إن الإسلام الشعبي قدّم مشروعاً موازياً للإسلام التقليدي ذي الطبيعة الصارمة، فيأتي ليكمل المرجعيات التقليدية كالأزهر الشريف، وجامع الزيتونة، بمرجعيات روحية مثل الأولياء والصالحين والدراويش والأساطير، مركزاً على الممارسات الدينية الشعبية بدل التركيز على المؤسسات الدينية التقليدية في الإسلام، فيعيد تأويل النصوص لصالح الممارسة".
ويقول هذا الكتاب أيضاً: "إن الإسلام الشعبي يختزن مجموع التصورات الدينية والطقوسية والشعائرية مثل الموالد والطهور والحفلات وزيارة الأولياء والتصوّف الشعبي وصنوف الاعتقاد، وهو ممارسة تلقائية وعفوية للشعائر بعيدة عن الرقابة الرسمية والمؤسساتية، وهذا النمط من التدين الإسلامي مفتوح على العالم والثقافات وغير صِدامي".
وهذا التصور البهيج غير الصِدامي للدين، الذي تحلق فيه الحمائم في سماء صافية حول الكعبة، والذي يتقرب فيه الحجيج لرب غفور رحيم يقبل التوب، هو ما تصوره (القلب يعشق كل جميل). ولعلها لهذا التصور الذي تملؤه السكينة والرضى للدين تخلد في ذاكرتنا الجمعية، وتبقى صنواً لحلم الحاج في أن يروى عطش روحه برؤية الكعبة ولرجائه أن يغفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه بعد الحج.
اللهم اكتب لنا ولكم ولكل المشتاقين الحج يا رب العالمين.
المصادر:
- نسرين علّام "القلب يعشق كل جميل”: أم كلثوم تغنّي فرحة الحج بلغة البسطاء"، 2024.
- مصادر أخرى.
521 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع