د. ضرغام الدباغ
الرقم : 454
التاريخ : حزيران / 2025
النظريات السياسية الاسلامية
بين الفكر والممارسة
في المرحلة التي تراجعت فيها مكانة وهيبة مؤسسة الخلافة، كان هناك أمام الخلافة مشكلات عديدة، ولكن أبرز تلك المشكلات الدستورية تمثلت :
آ / حكم الولايات والمقاطعات البعيدة : وحيال الحقائق السياسية الواقعية الجديدة اعترافاً بها وتكيف الفكر السياسي معها، أجتهد الماوردي نوعين من الإمارات :
* أمارة استكفاء : وهي إمارة يسند فيها الخليفة بإرادته، قيادة تلك الولاية أو المقاطعة لأحد القادة النافذين في الدولة، أو من أبناء تلك المناطق (كما حدث ذلك غالباً) وتتفاوت درجة صلة ذلك الأمير بعاصمة الخلافة بحسب طموحاته، وكذلك بحسب التوازنات المطروحة في الساحة السياسية / العسكرية.
* إمارة استيلاء : وتتمثل باستيلاء قائد عسكري أو قبلي على حكم ولاية أو مقاطعة بالقوة ويضطر الخليفة للاعتراف بولايته، مسبغاً عليه الشرعية مقابل علاقة شكلية بالعاصمة.
ب / طبيعة الوزارة في العاصمة : أما في عاصمة الخلافة، فقد شهدت أوضاعاً سياسية لم تكن مألوفة فيما مضى، وعلماء السياسة العرب المسلمون كانوا يصرون كما أسلفنا ويقرون فقط بهيمنة الخليفة على شؤون الدين والدولة معاً. ولكن الظروف السياسية شهدت مواقف كثيرة، ومراحل فقدت فيها مؤسسة الخلافة هيمنتها المطلقة على قيادة الدولة، وبدرجات متفاوتة تتحكم فيها معطيات عديدة أبرزها: طبيعة الطغمة المسيطرة، عسكرية كانت أم قبلية، ودرجة قوتها وتمسكها بالدين، وقوة شخصية الخليفة وحسن علاقته بالولايات والأمصار ومتانة صلاته مع المجتمع والفعاليات الأساسية فيه.
وفي جميع الأحوال فإن مؤسسة الوزارة التي استخدمها العباسيون أساساً، فرضت نفسها كمؤسسة سياسية / تنفيذية في الدولة، والوزير فيها (رئيس الوزراء) مثل مرتبة مهمة في بروتكول الدولة (المرتبة الثانية بعد الخليفة في الأحوال الاعتيادية)، ولكن البويهيين والسلاجقة على التوالي، اتخذوا لقب أمير الأمراء، والسلطان وهو منصب مستحدث يلي منصب الخليفة ويتقدم على منصب الوزير.
وحيال هذه التطورات، لم يقف المفكر العربي المسلم جامداَ، بل أجتهد في استيعابها. وقرر الماوردي أن هناك نوعين من الوزارة :
الأولى وزارة تفويض : وهي أن يستوزر الإمام (الخليفة) من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده.
الثانية : وزارة تنفيذ : ويقصد بها الماوردي تلك الوزارات الاعتيادية التي كانت تحكم في سالف الأيام حيث كانت سيطرة الخليفة على الموقف السياسي والديني تامة. وعن تلك يقول " وشروطها أقل لأن النظر فيها مقصور على رأي الخليفة وتدبيره والوزير هو وسيط بينه وبين الرعايا والولاة (ولاة الأقاليم). ومما يستحق الذكر أن الماوردي يسمح لوزير التنفيذ أن يكون من أهل الذمة(غير مسلم).
ثالثاً : الفكر بين النظرية والتنفيذ :
صاغ الماوردي بعضاً من أفكاره السياسية في إطار التنفيذ في مؤلفه"نصيحة الملوك" ويهدف الماوردي في كتابه هذا ليس فقط أزجاء النصيحة إلى الملوك والحكام انطلاقا من أحكام الشريعة في وجوب تقديم النصيحة إلى الحكام، ووجوب استشارة الملوك للعلماء وأصحاب الرأي والنافذين في المجتمع والدولة. وتلك مبادئ ملزمة في الشريعة ولكن دون وجود آليات لتنفيذها. والماوردي يطرح هنا مبادئ سياسية تصلح لصياغة نظريات عمل وحكم.
ومن أفكاره التي تستحق الإشارة إليها، هو تحذيره الحكام والرعية على السواء في اجتماع العناصر الذاتية الداخلية، والموضوعية الخارجية التي تؤدي في محصلتها إلى نهاية الدولة قائلاً " وأعلموا أن دولتكم تؤدي من مكانين: أحدهما غلبة من الأمم المخالفة لكم(المعادية لكم)، والثانية فساد أدبكم" (88) وفساد الأدب هنا يتمثل بفساد العناصر الذاتية للدولة من أجهزة ومؤسسات والعناصر القيادية فيها.
ويقدم الماوردي تحليلاً رائعاً في تصارع الإرادات والأهداف والسباب والنتائج المفضية إلى ذلك بقوله " لا بد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن إخراجها، ومن خير يشكل معناه (يستعصي معناه)، وأثر تختلف التأويلات في فحواه على مر الأيام. فإذا دفعوا إليه اختلفت الآراء في المسائل وتفرقت الأهواء في النوازل، وصار لكل رأي تبع ومشرعون وأئمة ومؤتمون. ثم مع طول الزمان ازدادت لها أنصار ومتعصبون وأعوان ومحامون، فكان سبباً لاختلاف الأمم وانشقاق عصاها. ولا يخلو دين من الأديان ولا ملة من الملل من منافقين فيها ومعادين لها. فإذا وجودوها مختلفة متباينة متعادية، أظهروا مكايدهم ومطاعنهم المكنونة، فدسوها في مذاهبهم واخترعوا اختراعات كاذبة فوضعوها في أخبارهم، وافتتنت بذلك عوامهم وفسدت أغمارهم ". نلاحظ هنا الرؤية العميقة في ظهور الانشقاقات السياسية والدينية، وأنها لعبرة يسوقها الماوردي..!
رابعاً : أراء في السياسة الداخلية والخارجية والحرب :
يتعامل الماوردي بمرونة سياسية عالية حيال قضايا النزاعات المسلحة، الداخلية منها والخارجية، ومن أبرز ما يستحق الإشارة إليه، أن الخارجين على الإسلام في رأي الماوردي، هي تلك الحركات الخارجة على الإمام العادل.
والإمام العادل هنا إشارة لم يشأ الماوردي الإفصاح عنها صراحة، والإجابة على سؤال حاسم: هل يجوز الخروج وقتال الإمام الظالم..؟ أو بالأحرى يطرح التساؤل نفسه بصيغة أخرى، إذا كان الخروج على الإمام العادل يعد بغياً، فهل يعد الخروج على الإمام الجائر عدلاً..؟ الإشارة هنا في محل التلميح وليس التصريح...!
وحيال هذه القضايا الشائكة، يطرح الماوردي أفكاره بهدوء، فهو لا يميل في أي من مباحثه إلى التشدد، بل يبدي الميل لسماع الآراء وتقبلها، وهو يفضل المبالغة في إيقاع العقاب حتى على المخالفين والمسيئين، ويظهر الماوردي القدرة على تقبل الرأي الآخر، ولا يرضى بالتعسف وإصدار القرارات على الشبه، وعنده الحوار الشوروي(الديمقراطي) هو السبيل إلى تفاعل الآراء، وهو الفقيه الشافعي الذي علمه إمامه إدريس الشافعي من مقولته الشهيرة:" رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ ويحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه " وكذلك قوله " الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية "، وعلى هذا النهج يقول الماوردي " ثم إن ظهر في الدين بدعة خرق بها إجماع الأمة وناقض بها التوحيد وأصول الشريعة أو خرج منها بشيء منه ودخل فيه، فعلى الإمام والسلطان أن يحضر مجلسه أو مجلس صاحبه ويأمر بمناظرته أو يناظره بنفسه، ويحضره العلماء من المتكلمين والفقهاء والعارفين بأصول الدين فيقيم عليه حجة الله، فإن قبلها ورجع عن البدعة التي أحدثها، عفا عنه، وإن لم يقبلها ولم يرجع عنها، فعليه ما على المرتد بعد الاستتابة ".
وللماوردي أراء تعبر عن حصافة في الرأي وعمق في السياسة، فيما يجب أتباعه في مجال السياسة الخارجية وحالات الحرب والسلم، تهدف في مجملها إلى إبقاء الدولة العربية الإسلامية في وضع أو موقف الحرب الدفاعية العادلة، ومن تلك على سبيل المثال لا الحصر: عرض السلم على العدو / العمل من أجل السلام / تحذير العدو / الاهتمام بالتوازن العسكري/ اعتبار الذكاء أهم من القوة/ الاهتمام بالعمل الدبلوماسي والرسل وغيرها.
1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع