الدكتور محمد صبحي العايدي
فقه السِّلْم والحرب (١): هل يريدونها حرباً مفتوحة ؟
هل يريدونها حرباً مفتوحة؟ سؤال يتردد في الوعي كلما استحضرت بعض التفسيرات التي تنتشر لدى بعض التيارات الدينية المعاصرة، والتي تجعل من خيار الحرب هو الأصل، وخيار السلم استثناء، فحين يتحول القتال والمواجهة والحرب كخيار أول، وتتراجع كل مقومات الحوار والبرّ والعيش المشترك، لصالح منطق الصدام والإلغاء، نكون أمام فكر يعيش في دائرة مغلقة من العنف المؤسس دينياً، لا فرق بين أن يمارس بالسيف أو يُنظَّر له بالقلم، هذا النمط من الفهم أنتج لنا ثقافة كاملة من العداء والتوتر الدائم في بنية الوعي الجمعي، وكوّنت جيلاً مشبعاً بالشعور بالمظلومية، يرى في العالم مؤامرة دائمة تستهدف الدين وأهله، مما أفرز خطابًا يميل إلى الاستنفار، والبحث عن الحروب كخيار وحيد للخلاص من واقعها، بدل البحث عن الحلول السلمية العقلانية والإبداعية، وأدخلنا في دوامات من الانفعال، والشعارات، والردود العاطفية التي هيأت البيئة لخطاب متطرف ومفاهيم مختلطة، فمثلاً حصروا مفهوم " وأعدوا لهم " بالقوة العسكرية، متناسين أن أنواعاً أخرى من القوة هي التي تحكم العالم، فالقوة الاقتصادية والتكنولوجية والفضائية والبحثية والإبداعية لا تقل أهمية عن القوة العسكرية.
وما يثير القلق أن الأخذ ببعض التفسيرات وإسقاطها على واقعنا المعاصر منها: " آية السيف" في قوله تعالى: " ...فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد..."، حيث اعتبرها البعض أنها نسخت عشرات آيات الأحكام الأخرى التي تدعو إلى المسالمة، وعدم الإكراه في الدين، والصفح، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والسؤال المنهجي هنا: هل من المعقول أن تنسخ هذه الآية جملة واسعة من الآيات التي تشكل العمود الفقري الأخلاقي والروحي للخطاب القرآني لمجرد آية واحدة أمرت بالقتال في سياق معين؟ وهل القول بالنسخ في هذه الحالة وسيلة تأويلية صحيحة، أم حيلة أيديولوجية لتسويغ خيارات مسبقة قائمة على العنف والرفض؟
إن فقه النسخ كما تم تداوله في المدارس الفقهية يحتاج إلى مراجعة دقيقة في ضوء القاعدة الأصولية التي تقضي بوجوب الجمع بين النصوص ما أمكن، وأنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين النصوص، لأن النسخ إبطال للأحكام، والجمع بين النصوص هو إعمال لها جميعاً، والإعمال مقدم على الإبطال، وقد نبه الإمام الشاطبي إلى وجوب عدم التوسع في النسخ، حتى لا يتم استغلاله لإبطال الأحكام التي تعد من مقاصد الشريعة، فعلينا إنزال كل آية في حالتها المناسبة لها، وظرفها الخاص بها، فحين يكون عدوان أو ظلم يكون الدفاع عن الأوطان، ورفع الظلم عن الإنسان واجباً، وأما حين يسود السِّلم فإن الحكم هو المسالمة، وهكذا تتكامل النصوص ولا تتعارض.
فليس من فقه الواقع أن تسحب آية واحدة " كآية السيف" على كل الحالات، ومع كل من يخالفك في الدين أو المذهب أو الفكر، متجاهلين سياقها التاريخي، وواقعنا المعاصر الذي تحكمه قوانين وأعراف دولية، وشبكات من المصالح المتشابكة، ومفاهيم حقوقية لا يمكن تجاهلها، في حين أن القرآن يقرر أن التعامل مع المخالف لك في الدين في حال المسالمة يقوم على البر والقسط، لا على القتل والإكراه، قال تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم..." وقال تعالى: " لا إكراه في الدين" وهي آيات لا يجوز نسخها، فهي تؤسس لفهم متوازن للعلاقة بالآخرين.
نحن اليوم بحاجة إلى إعادة الاعتبار لثقافة السِّلم بوصفها الأصل في الإسلام، وإلى تحرير النصوص الدينية من سطوة الأفهام الضيقة التي تسوغ فقه الكراهية باسم الدين، ويجعلون من الإسلام رسالة قهر واقتحام، لا دعوة رحمة وسلام، فهل من الحكمة أن نستمر في تأبيد منطق الحرب باعتباره الخيار الأمثل للأمة؟ ونشعل حروباً مفتوحة مع الجميع، متوهمين أن طريق المجد دائماً يمر عبر البنادق، وأن خيار السلم هو خيار الجبناء أو ضعاف الإيمان، متناسين أن الله تعالى امتدح نفسه بإطفاء نار الحروب كما قال تعالى: " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله"، وكما نهى صلى الله عليه وسلم عن تمنى الحرب في قوله: " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية".
589 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع