حاتم خاني
بدل رفو ..و..آلام جلجامش .. آلام السيد المسيح .. وآلام زرادشت
رَبَتَ على كَتفي .. التفتُّ خلفي , كانت عيناهُ تتوهَّجان خوفا من المجهول , لَفتَ نظري بِنطاله الفَضفاضُ باللّون الخاكي العسكري تَنبعثُ منه رائحةُ التُّراب من صحراءُ العراق , خرج الجانب الايمن من قميصه الخشن وتدلّى فوق بنطاله ليعكس إضطرابا يغلي في داخله , صافحني بيده اليمنى , وفي يده الاُخرى كانت سدارته العسكرية ملتفةٌ ثناياها .
كان من عادته عندما نلتقي في حديقة الشهداء في مدينة الموصل ان يأتي وفي جيبه قصاصات ورق وقد سطّر فيها بعض الابيات من اشعاره , يتغنى بها أمامي وأنا أنصت لسلاسته في نظم القصيدة وحماسته الكبيرة في الإلقاء ثم يسألني عن جودتها فأُعطيه رأيي او إنتقادي لبعض الكلمات .
لاحت في افقي وذاكرتي بعض الأبيات من احدى قصائده
عيناها الماجدولينيتان
سلبتا مني عقلي
وانتزعتا قلبي من صدري
واصبحت هائما في ازقة مدينتي
اجوب دروبها الملتوية
لعلي اجد ذاتي
تركت تلك الذكريات وعدت الى حاضري ورحبت به ثم سألته وأنا أرى الحيرة بادية على وجهه :
..... ما بك يا بدل
قال : لم اعد اطيق العيش بدون وطن
تلفتُّ يمينا وشمالا لأتأكد ان لا أحد يسمعنا , ففي هذا الوقت من انتفاضة 1991 وفي مدينة الموصل التي تحسب على النظام , كانت أي كلمة في السياسة تودي بصاحبها الى الهلاك , فالنظام جريح بسبب الانتفاضة الشعبية في الشمال والجنوب , والجريح خطر على الجميع , وكنت قد رأيت بعيني كيف يزجون شباب مدينة الديوانية في مركبات الحمل لكي يقتادونهم الى الموت دون محاكمة ودون تفريق بين من شارك او لم يشارك في الانتفاضة .
قلت له : واين عساك تجد هذا الوطن
قال : سأرتحل وسأبحث عنه في كل مكان
ذلك اللقاء في مرآب وقوف مركبات النقل العمومي في مدينة الموصل كان آخر لقاء بيني وبين شاعر الاغتراب بدل رفو في تلك المدينة , حيث تركها وفي قلبه وجع , الم الفراق عن امه ووجع الابتعاد عن قلبه الذي سيتركه بين جنبات مدينته التي ثكلت بالام زرادشت في الماضي والام السيد المسيح فيما بعد .
إرتحل هو ليبحثَ عن ما نسميه وطن , وبقينا نحن نشهد ما يحل بالعراق من حروب ومآسي وحصار إقتصادي حتى جاء ألإحتلال الأميركي في 2003 لينتزع من بين ضلوعنا نظاما عاش على جريان دماء العراقيين في ترع هذا البلد وانهاره .
تمر السنون وبينما نشهد حُقَباً غريبةً تمر على بلادنا ونكتوي بضياع كرامة الانسان على يد الاحزاب الحاكمة والتي تَمُنّ علينا بكسرة الحرية الموجودة , استقر هو في النمسا وفي مدينة غراتس ليتمتع بكرامته ويعيش في كَنفِ الحرية ويحصل على خصلة الإنسانية التي كنا وما نزال نفتقدها في أوطاننا وعاد لينظِّم القصائد ويعيد قصيدته التي القاها علي في حديقة الشهداء ولكن بصيغة جديدة :
عيناك المجدولتان
سلبتا قلبي
وبثتا الغربة في روحي
بوجودهما اشعر بالغربة
وبدونهما انا غريب .
مرت ثلاثة عقود ونيف حيث التقيته مجددا , في دهوك في حي بروشكي في شهر ايلول سبتمبر من عام 2024, واستقبلني في شقته او بالاحرى في شقته المتحف , حيث بدت شقته وكأنها متحف صغير جمع كل ما وقعت يده عليه في البلاد التي جابها والتي زارها وارتحل اليها ورحل منها , هدايا , صور , ملصقات , رسوم , لوحات , جداريات , تحف , زجاجيات , دمى , زخارف وصور على الاقمشة , على السجاد , وعلى الاخشاب , كل ما يجب ان تحتويه المتاحف من منحوتات , تذكارات من كل البلدان والمدن التي زارها . بالاضافة إلى الكتب , وقد علقت في ذاكرتي منحوتة جميلة او تمثال لرأس الشاعر بدل رفو , أعدَّها ونحتها صديقه النحات أرشد خلف وكذلك صورة لجيفارا , اوقفتني للحظات وانا انظر اليها واستذكر كيف كانت سيرته ملهمة للشباب الثوري ايام زمان عندما كنا نقرأ ونتثقف ولم نكن ندرك حينها ان الثورات ما هي الا لعبة من العاب الامم الكبيرة .
تبادلنا اطراف الحديث وإستعدنا بعض الذكريات واسترقْتُ منه بعض الكلام عن أُسلوب حياته وقضاء أوقاته في مدينته غراتس في النمسا وعن أحواله وكيف يكتب , وعن رحلاته والغرائب التي شاهدها او تلمسها في البلدان التي زارها وعن قصائده ثم خرجنا الى شوارع دهوك نتجول بين اسواقها . ونلتقي ببعض الاصدقاء ونتكلم عن البعض الاخر وعندما يتغلغل التعب في أجسامنا نستريح في مقهى طيار الشعبي .
بدا لي انه لا يشبه الكتّاب او الأُدباء الحاليين في بلدي فقد بدا شعبياً في إرتياده المطاعم والمقاهي الصغيرة وبسيطا في ملبسه , متواضعا في سلوكه وإجتماعيا في تعامله وإختلاطه مع الاخرين , وهذه هي الصفات التي كنا نقرأ عنها في الكتب فقط عن كتاب عصر النهضة وكيف ساهموا في تغيير عقول شعوبهم حتى بدأت تلك النهضة تمزق الاوهام والجهل الذي كان متمكنا من تلك الشعوب كما هو حال شعبنا نحن الان في بلداننا .
لم اجده يتَصَيّدُ السلوكيات الخاطئة للناس ويقارن الأوضاع الحالية في اوطاننا مع مثيلاتها في البلد الذي يعيش فيه كما يفعل معظم الكورد المهاجرين الذين يزورون الوطن , وجدتُّه كثير الكلام حلو الحديث محللا المواضيع , يُغنيها بآرائه ومنتقدا حالة واحدة مستمرة منذ التسعينات من القرن الماضي وهي الجمود الذي حل بالهيئات والمنظمات والنقابات والاتحادات الاجتماعية ومن بينها إتحاد أُدباء الكورد في دهوك مما انعكس سلبا على الثقافة العامة للمواطن وادى الى تراجع مخيف في فكر وثقافة هذا المواطن وخلق لديه نوع من الاستسلام والانقياد الخاضع لما تمليه عليه الجهات الفاعلة والمؤثرة على المجتمع .
كنت احب ان يجيبنى على سؤالي , تُرى هل وجدَ ما ذهب للبحث عنه عندما تركني في عام 1991 في مرآب النقل ؟.
قال لي رداً على تساؤلاتي : أشعرُ بالغربة كلما عدت الى الوطن , وأشعرُ بمثلها في بلاد الغربة , لم أجد الوطن ولكنني وجدت وطنا , أرتحل الى كل مكان وأرتاد كل فضاء , ولكنّي أشعر بانّي أُسافر الى لامكان .
يتألم عندما يتذكر الوطن ويتألم عندما يكتب عنه وعندما ينظّم الشّعر وحتى عندما يفكّر , فقد أصبح الألم عنده ملازما لترحاله , يتلبَّسَهُ نفس الفكر الذي حَمَله جلجامش عندما ترك المُلك وهام على وجهه يروم العثور على اللّا هوية .
أما الانسان فقد وجدت فيه عينان حزينتان وقسمات وجه حائرة وشرود في الذهن والعيش على الهامش عندما لا يستطيع تصنُّع السعادة أمامنا , لم أجد لديه إحساس بأَنه كسب كل الذي ذهب للبحث عنه بل وجدتُّ كأنه فقد ما كان يملكه عندما كنا نلتقي في شوارع الموصل وحاراتها حيث الضحكات والابتسامات العفوية واحاسيس الحب التي حملتها قلوبنا اليافعة في حينها .
لم تنقذه طفولة الهند وزرقة شفشاون .. ولا حتّى كلماتُ شِعره الجّميل , فكل ما قيل ويُقال بحقه لا تلبث ان تجف تلك الكلمات في شرايينه وأوردته سريعا قبل ان تصل الى القلب , ويبقى قلبه خاويا جافا الا من مرارة الغربة التي يكرّرها في اشعاره وقصائده .
يهرب من اشعار الحب ليتجنب الخوض فيه فيصطدم بأشعار الوطن لتتعاظم الغربة فوق غربته , فقد سرقوا الوطن منه كما سرقوا قبلها قلب حبيبته فلم يعد لشعر الوطن اوشعر حبيبته اي لذة او احساس سوى العدم الذي عثر عليه جلجامش.... فقد سرقت الافعى نبتة الشباب التي اراد ان يجتزء قسما منها له بعد غفوته .
دهوك 9 / 6 / 2025
587 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع