عشيّة ٥ حزيران .. حفلة ماجنة في قاعدة جوية!!

أحمد العبداللّه

عشيّة ٥ حزيران .. حفلة ماجنة في قاعدة جوية!!

بينما كانت مصر في حالة تعبئة عامة، والناس تترقب الحرب بلهفة, والشوارع تزدحم بالشعارات واللافتات التي تبشّر الشعب بـ(النصر القريب), وتتوعد(الكيان الصهيوني اللقيط)بالزوال, و(زعومي)يصرّح؛(إننا ننتظر المعركة على أحرِّ من الجمر)!!. وإذاعة صوت العرب تصدح بنشيد؛(أمجاد يا عرب أمجاد), وأم كلثوم تصرخ؛(راجعين بقوّة السلاح)!!, تقرّر إقامة حفل غنائي راقص في الأول من حزيران 1967, في أكبر وأهم قاعدة جوية مصرية, وهي قاعدة أنشاص في شمال شرق القاهرة, للـ(ترفيه)عن ضباط سلاح الجو, الذين كانوا يقضون لياليهم(الملاح)في النوادي والمواخير, يعاقرون الخمر ويعاشرون الساقطات!!.

ولكن فجأة وبدون سبب تم إرجاء موعد الحفل إلى ليلة 5 حزيران, أي ليلة الهزيمة. وسهر الطيارون و(العساكر)في الحفلة حتى السادسة من صباح اليوم التالي، رغم أن الحفل كان مخططا له أن ينتهي في الثالثة فجرا. وشارك فيه الفنانون؛محمد رشدي وفايدة كامل وماهر العطار وشهرزاد, وكان من المقرر أن يشترك الفنان عبد الحليم حافظ معهم, ولكنه اعتذر عن الحضور لأن لديه ارتباط آخر. كما قدّمت الراقصة(زينات علوي)فقرة رقص شرقي خلاله!!.

وبعد دقائق من انتهاء الحفل ومغادرة الفنانين لمنازلهم، كانت الطائرات الإسرائيلية تغير بموجتين على المطارات والقواعد الجوية المصرية وتدكّها بالقنابل الثقيلة والصواريخ, وتدمّر(309)طائرة وهي جاثمة على الأرض, وضربت مدارج الإقلاع والهبوط وأخرجتها عن الخدمة. وبينما كان الطيارون مخمورين(مسطولين), وفي مجونهم لاهين, وعن واجبهم غافلين, ولربّهم عاصين, تمكنت إسرائيل من إبادة 85% من سلاح الجو المصري خلال ثلاث ساعات فقط!!.

وفي ستة ايام لا سابع لها, تمكن الجيش الإسرائيلي من إلحاق هزيمة قاسية ومذلّة بجيوش مصر والأردن وسوريا مجتمعة، واحتل شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السورية وقطاع غزة والضفة الغربية, بما في ذلك القدس الشرقية والمسجد الاقصى الشريف. ومساحة هذه الأراضي التي احتُلت تبلغ حوالي(70)ألف كم2, وتعادل ثلاثة أضعاف مساحة(إسرائيل). وكانت واحدة من أقصر الحروب وأسرع الهزائم في التاريخ!!.

ويروي الكاتب والإعلامي السوري علاء الدين حسو, نقلا عن صديق مصري له يكبره بعشرين عامًا, حدّثه بها ذات ليلة في ذكرى الهزيمة في أواخر تسعينات القرن الماضي, فتقول الرواية؛(لقد كانت ليلة ماجنة.. قدّم عرّاب الحفل، في نهاية الحفلة الجميلات للضباط، وقال لهم:أنتم(سوخوي)وهن(فانتوم)..اهجموا عليهن. وفي الوقت الذي هجم الضباط على(الفانتومات)كانت طائرات إسرائيل تدك طيارات مصر)!!!.

ويذكر الفنان محمد رشدي, وهو أحد المغنّين المشاركين في(حفل أنشاص)في مذكراته الصادرة في 2020؛إنه بعد الهزيمة المُذلّة توقف عن الغناء واعتكف في بيته خشية من إن الناس ستضربه بـ(الگزمة)فيما لو نزل للشارع!!. ولكن يبدو إن العرب تفكيرهم عاطفي, وهم سريعو النسيان, ولا يتّعظون من دروس التاريخ وعبره. ويضيف محمد رشدي؛والكارثة أيضا؛إن الجمهور المصري سمعه في الليلة تلك وهو يغني في الحفلة المنقولة على الهواء ويساهم في(جوقة الخداع), أغنيته في تمجيد(بطل الهزائم)جمال عبد الناصر, وتقول كلماتها؛

الشعب يريدك.. ياريّس
وآدي إيدنا في إيدك.. ياريس
يا حبيب الأمة.. يا ريس
يا أبو عزم وهمّة.. يا ريس

ولكن(حبيب الأمّة.. أبو عزم وهمّة)قادهم لأكبر هزيمة في تاريخ العرب وأوردهم التهلكة, وبئس الوِرد المورود, بعد أن كانت أجهزة إعلامه الصاخبة تُردّد الأكاذيب وهي تعِد الجمهور المُخّدر والمضحوك عليه بنصر مؤزر قد اقترب. ولكن, كما يقولون؛(لم يكن وراء الزئير ليثا)!. وبدلا من سوق(الزعيم الملهم)للعدالة بجرم الخيانة العظمى, أخرجوا تلك الجماهير المغفّلة إلى الشوارع والساحات بعد الهزيمة مباشرة, وهي تهتف ببلادة منقطعة النظير؛(عبد الناصر يا بن مصر.. مين هيخطب يوم النصر)!!.

***

وهذه أمثلة بسيطة لما كانت تنشره الصحف المصرية في الأيام القليلة التي سبقت الهزيمة؛

ففي 21-5-1967, كتبت جريدة الجمهورية تقول بكل ثقة؛(في ساعات قليلة يمكن أن تُسحق إسرائيل بغير استخدام كافة قواتنا في المعركة)!!.

ونشرت صحيفة الأهرام في 2-6- 1967, أي قبل الهزيمة بثلاثة أيام فقط ، مقالا افتتاحيا لرئيس تحريرها الديناصوري محمد حسنين هيكل في مقاله الأسبوعي الشهير(بصراحة), جاء فيه؛(مهما يكن وبدون محاولة لاستباق الحوادث, فإن إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة, سواء في الداخل أو الخارج)!!.

ثم عاد هذا(الهيكل)نفسه ليجد تخريجات بائسة للهزيمة و(صنمها), بقوله؛(إن هدف العدو الإسرائيلي من هزيمتنا هو كسر إرادة الزعيم وتنحيه عن الحكم. وطالما أننا نجحنا في إثناء الزعيم وإبقائه زعيماً لنا وللأمة العربية فقد انتصرنا على العدو)!!.

وورد في الصفحة الأخيرة لجريدة الأهرام بعددها الصادر في الأول من حزيران 1967, ما يلي؛[ وضع مجدي العمروسي مدير صوت الفن, جميع الإمكانيات تحت تصرف التوجيه المعنوي في القوات المسلحة, كما بدأ في طبع 40 ألف صورة كارت بوستال عليها صورة عبد الوهاب, والذي مُنح لقب لواء فيما بعد تكريما له على مساهمته الفاعلة في الهزيمة. و40 ألف صورة لعبد الحليم حافظ, و40 ألف صورة لنجاة الصغيرة, و40 ألف صورة لشادية, على كل منها إهداء من صاحبها سترسل من الغد إلى جنودنا الرابضين في الجبهة]*!!.

***

وفي تسجيل نُشر في نيسان 2025, لمحادثة صوتية بين جمال عبد الناصر ومعمر القذافي قبيل وفاته بـ(55)يوما, يظهر فيها(الزعيم الخالد)في غاية الاستسلام والانكسار, وهو يصف للقذافي الحال البائس الذي وصله العرب بسبب سياساته الرعناء وأحلامه الـ(دون كيشوتية). ويعترف؛بأن هدفه لم يعد سوى استعادة سيناء, وبالتفاوض وليس بالقتال, وأنه؛(لا دخل لنا بالقضية الفلسطينية)!!. وأن الخيار العسكري مُؤجل لسنوات قادمة بسبب التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق, وذلك لتبرير قبوله(مبادرة روجرز)بوقف مؤقت لإطلاق النار. أما شعاراته الجوفاء وجعجعته الصاخبة بتحرير الأراضي العربية المحتلة(من النهر إلى البحر)!!, فكلها دجل ونفاق, وللضحك على المغفّلين والسذّج**.

...........................

* إذا كان الحال هكذا في مصر, فقد كان في سوريا أسوأ بكثير, فهناك كان الكفر والإلحاد من قبل القيادات السياسية والعسكرية النصيرية وحثالاتها, يتم جهرة وعلى رؤوس الأشهاد!!. فقد نشرت مجلة(جيش الشعب)مقالا قبل الهزيمة بعشرة أيام, يقول فيه كاتبه المدعو؛إبراهيم خلاص؛(أن الطريق الوحيد الصحيح لبناء المجتمع هو خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع والرأسمال والاستعمار والقيم القديمة ما هي إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ...الإنسان يعلم أن نهايته الحتمية الموت، ولن يكون هناك نعيم أو جحيم... لسنا بحاجة إلى إنسان يصلي ويركع خاشعاً ذليلاً، بل نحن بحاجة إلى إنسان اشتراكي ثائر)!!!.
ونعوذ بالله العظيم من هذا الكفر الصراح. ثم كيف نرجو النصر ونحن بهذا الحال البائس والهزيل.

** في الاتجاه نفسه كتبت مقالين في(الكاردينيا)قبل ثلاث سنوات. الأول بعنوان؛[جمال عبد الناصر و(الفوضى الخلّاقة)] على الرابط؛

https://www.algardenia.com/maqalat/55832-2022-10-01-18-57-37.html

والثاني بعنوان؛[(في العقبة كسر رقبة), ويا أهلاً بالمعارك]. على الرابط:

https://www.algardenia.com/maqalat/55952-2022-10-11-09-20-12.html#google_vignette

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

883 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع