المقاومة المسلحة في أوكرانيا وبلدان البلطيق بعد الحرب

د. جابر أبي جابر

المقاومة المسلحة في أوكرانيا وبلدان البلطيق بعد الحرب

وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ولكن ليس بالنسبة للجميع. ففي أراضي أوكرانيا الغربية وجمهوريات البلطيق اندلعت المقاومة المسلحة ضد السلطة السوفيتية. وكان ذلك ناجماً عن تطلع السكان إلى نيل الاستقلال ورفضهم لعملية نشر الكلخزة فضلاً عن التخوف من الترحيل القسري الجديد إلى سيبيريا وتكرار عمليات "التطهير"، التي جرت في تلك المناطق خلال الأعوام 1939-1941.
وفي غضون هذه الفترة السوفيتية القصيرة ظهرت في أوكرانيا منظمة سرية قوية وهي "منظمة القوميين الأوكرانيين". وقد حاول زعماء هذه المنظمة عقب مجيء الألمان النازيين إنشاء حكومتين أوكرانيتين مستقلتين في مدينتي لفوف وكييف، ولكن الألمان قاموا بحلهما وزجوا بزعمائهما في السجون. وفيما بعد لجأ القوميون الأوكرانيون إلى التعاون مع الألمان فانتسب بعضهم إلى وحدات"غاليتشينا" العسكرية، وقام آخرون بمساعدة المحتلين النازيين في البحث عن الشيوعيين وملاحقة اليهود. ولكنهم سرعان ما أدركوا أن السلطات الألمانية غير مكترثة بإنشاء دولة أوكرانية مستقلة ولذلك أعلنت منظمة القوميين الأوكرانيين الحرب على جبهتين "ضد ستالين وضد هتلر". ومع ذلك فإن الجهود الأساسية لنضالهم المسلح انصبت ضد الجيش الأحمر.
وفي تموز/ يوليو عام 1944 وبعد دخول القوات السوفيتية إلى أوكرانيا الغربية قامت هذه المنظمة بتشكيل "مجلس التحرير الأوكراني الأعلى". وقد أصبح زعيم المنظمة رومان شوخوفتش، الذي اتخذ لنفسه اسم الجنرال تاراس تشوبرينيك، قائداً للجيش الثوري الأوكراني.
وبعد هزيمة ألمانيا النازية واحتلال السوفيت لأوروبا الشرقية كان زعماء المنظمة المذكورة يأملون في إحداث انتفاضة شاملة مدعومة من شعوب البلدان، التي أضحت تحت الاحتلال السوفيتي. وكان ذلك أمراً متعذر التحقيق. فاضطرت المنظمة إلى الاكتفاء في خوض العمليات العسكرية بقواها الخاصة. وكانت المهمة الرئيسية تنحصر في حماية سكان أوكرانيا الغربية من خطر اندلاع موجة جديدة من الإرهاب والتهجير الجماعي. وكان هؤلاء السكان يدعمون المنظمة مما أتاح لها مواصلة الكفاح المسلح في غضون سنوات عديدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي الأعوام 1944 – 1947 وجهت القيادة السوفيتية وحكومة جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية إلى الثوار ستة نداءات لإلقاء السلاح مع وعدهم بالعفو العام عنهم. وفي عام 1945 كانت المناطق الأساسية في أوكرانيا الغربية تحت سيطرة القوميين الأوكرانيين. وهناك قاطعت أغلبية السكان انتخابات مجلس السوفيت الأعلى، التي جرت في شباط عام 1946. ولكن الإعلام الرسمي كان يؤكد كالعادة أن السكان صوتوا للمرشحين بالإجماع.
وخلال سنوات الكفاح المسلح تعرض برنامج القوميين الأوكرانيين إلى تعديلات جوهرية. ففي عام 1950 طالبت المنظمة بالتصفية الشاملة للكولخوزات، كما أعلنت عن تمسكها بحرية التنظيمات السياسية والاجتماعية. وتشير المصادر الأوكرانية إلى تطور إيديولوجيا المنظمة تدريجياً نحو الديمقراطية والليبرالية.
وإلى جانب خوض العمليات القتالية كان الثوار يوزعون المناشير ويقومون بهجمات خاصة في سلوفاكيا والجزء الشرقي من أوكرانيا وكذلك في بيلوروسيا ورومانيا. وكانوا يجهزون بلا هوادة على ضباط وجنود قوات وزارة الداخلية السوفيتية، الذين يقعون في قبضتهم، وكذلك على نشطاء الحزب الشيوعي. غير أنهم كانوا في بعض الأحيان يخلون سبيل العسكريين من وحدات الجيش السوفيتي النظامية ويزودونهم بالمواد الغذائية والمطبوعات الدعائية. ومع ذلك فإن القسوة الوحشية من كلا الطرفين كانت ظاهرة اعتيادية.
وقد امتد نطاق عمل المنظمة إلى بعض مناطق بولندا وسلوفاكيا. وبالنسبة لتعداد الثوار القوميين الأوكرانيين فإن المصادر السوفيتية الرسمية لم تكن تعطي أية معلومات حول ذلك. وحسب تقدير المصادر البولندية فإن عدد، الذين كانوا ينشطون في الأراضي البولندية المحاذية للحدود السوفيتية وحدها، وصل إلى 6 آلاف مقاتل.
وفي بلدان البلطيق جند الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية 20 ألف ليتواني بزعامة بافيلوس بليخافتشوس، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلد. ولكنهم سرعان ما لجأوا إلى تبديل القيادة فما كان من هؤلاء المقاتلين المجندبن أن تحولوا إلى مقاومة الالمان، ثم توجهوا بأسلحتهم إلى الغابات.
وعقب انسحاب القوات الألمانية واسترجاع السوفيت لبلدان البلطيق في عام 1944 ظهرت هناك بصورة عفوية وأحيانا بشكل نظامي تشكيلات مسلحة قاومت الجيش الأحمر والسلطات السوفيتية في سبيل استعادة الاستقلال، الذي فقدته هذه البلدان في عام 1940. وقد كانت، في الوقت نفسه، تعول على أن الغرب سيدعمها بشتى الوسائل المادية والمعنوية. ومن أقوى هذه التشكيلات "جيش تحرير ليتوانيا"، الذي كان عملياً جيشاً نظامياً له قيادة موحدة ومقر عمليات مركزي. وقد كانت وحداته العديدة تخوض معارك مكشوفة وحرب خنادق ضد القطعات النظامية للجيش الأحمر وقوات وزارة الداخلية السوفيتية مستخدمة في ذلك مناطق محصنة داخل الغابات، التي تشكل حوالي نصف مساحة بلدان البلطيق. وللاختفاء عن أنظار رجال الأمن والجيش السوفيتي أقام رجال المقاومة مخابئ تحت الأرض مموهة بدقة متناهية. وحسب معطيات الأرشيف السوفيتي الرسمي، الذي رُفعت عنه السرية، شارك في حرب العصابات هذه خلال السنوات 1944-1969 بليتوانيا وحدها زهاء 80 ألف مقاتل وأُطلقت عليهم تسمية" صعاليك الغابات". وفي لاتفيا انضم إلى رجال المقاومة المسلحة الآلاف من محاربي الفيلق اللاتفي في الوحدات الخاصة الألمانية.
وكان"صعاليك الغابات" يتخذون لأنفسهم أسماء مستعارة، ويستخدمون النساء والأطفال كحلقات اتصال، وينشطون في أوقات الليل حصراً. كما أنشأوا شبكة اتصالات مُحكمة لتأمين سرعة تلقي المعلومات حول تحركات القوات السوفيتية. ووجه رجال المقاومة جلّ جهودهم نحو تدمير القاعدة التحتية للسلطات السوفيتية وخاصة للحيلولة دون إنشاء الكولخوزات والسوفخوزات. وقد كانوا يقومون بقطع الاتصالات الهاتفية، ويهاجمون مراكز الاقتراع لنسف الانتخابات، ويسعون إلى عرقلة عقد اجتماعات حاشدة للمواطنين. وكانوا في الفترة الأولى بشكل خاص (حتى عام 1947) يتمتعون بتعاطف ودعم السكان.
وبعد سلسلة من الخسائر، التي تعرض لها رجال المقاومة، ونجاحات قوات وأجهزة وزارة الداخلية السوفيتية في صدهم، لم تعد بوسع أي تشكيلة مسلحة معادية للسوفيت العمل بصورة مكشوفة، فاضطروا للانتقال إلى حرب العصابات المحضة، خاصة بعد أن تلقوا ضربة قوية من جراء التهجير القسري للفلاحين الميسورين"الكولاك"، الذين كانوا يشكلون الدعم الأساسي الاجتماعي للحركة. ولهذا أصبحوا يتوزعون على مجموعات صغيرة لتجنب الخسائر الكبيرة في صفوفهم.
واعتباراً من عام 1947 تبدل قوام المشاركين في المقاومة المسلحة إلى الأسوأ حيث تحول معظم أفراد التشكيلات المسلحة من مناضلين في سبيل الحرية والاستقلال إلى عصابات إجرامية مكشوفة، ولاسيما بعد معاناتهم من نقض شديد في كافة أنواع التموين، فأصبحوا لا يتورعون عن نهب المحلات ومستودعات الكولخوزات ومراكز البريد. ومع ازدياد الأشخاص، المتعاونين مع أجهزة الأمن السوفيتية من السكان المحليين، لم يعد رجال الشرطة والشيوعيين ورؤساء الكولخوزات الهدف الوحيد لصعاليك الغابات بل شمل ذلك أيضاً الأطباء والمعلمين والموظفين وأفراد عائلاتهم حيث كانوا يقتلونهم ويمثلون بجثثهم على الملأ ويضعونها في ساحات البلدات والقرى. كما كانوا يضرمون النار في المنازل أو يدمرونها بالمتفجرات أو براجمات القنابل. وفي الوقت نفسه لا بد من الإشارة هنا إلى ممارسة الجانبين لشتى فنون التعذيب الوحشي من أجل انتزاع الاعترافات والمعلومات اللازمة من المعتقلين فضلاً عن أساليب الترهيب النفسي.
وقد استخدمت السلطات السوفيتية وسائل عديدة لتحجيم حركة المقاومة المسلحة ونجحت في تشكيل مجموعات وهمية من صعاليك الغابات لمواجهة الصعاليك الحقيقيين وإحداث شبكة واسعة من المخبرين مدفوعي الأجر. كما جرى إنشاء فصائل الدفاع الذاتي من قوام السكان المحليين. وركزت أجهزة الأمن السوفيتية بشكل خاص على" اصطياد" قادة الحركة مهما كلف الثمن بغية تفتيتها وبعثرتها من الداخل.
وواكب هذه الأحداث العنيفة تدفق أعداد كبيرة من الروس وممثلو القوميات الأخرى للإقامة والعمل في بلدان البلطيق مع عائلاتهم ومنهم العمال والعسكريون والإداريون. كما بدأت السلطات السوفيتية بإنشاء صناعات جديدة وخاصة في لاتفيا. ومن ضمن ذلك مصانع الأجهزة الكهربائية وقطارات الضواحي ومنشآت تكرير النفط وسيارات الميكروباص من طراز"راف".
و بعد عدة عمليات واسعة النطاق تم القضاء بحلول عام 1952 على الحركة المنظمة لصعاليك الغابات ولم يبق منهم سوى بعض المجموعات الصغيرة. كما أن السكان شعروا في ذلك الوقت بتطور ملحوظ في مستوى معيشتهم وتحسن ملموس في أحوالهم عموماً، بعد أن شهدت هذه البلدان في سنوات ما بعد الحرب مقاومة شرسة للسلطات السوفيتية ذهب ضحيتها أكثر من 50 ألف شخص.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1019 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع