عشرون عاماً من الغزو الأميركي للعراق.. حجج واهية ونتائج كارثية

قاسم محمد داود

عشرون عاماً من الغزو الأميركي للعراق.. حجج واهية ونتائج كارثية

قبل 20 عاماً وفي مثل هذه الأيام، دخل العراق حقبة دامية جديدة من تاريخه مع بدأ الغزو الأميركي البريطاني عام 2003، حيث تعرضت العاصمة بغداد وحدها في أول أيام الغزو لألف ضربة جوية بصواريخ كروز، وهو استخدام مكشوف للقوة التدميرية المفرطة رغم ضعف القدرات العراقية بسبب الحصار الدولي الطويل والقاسي، مما يكشف أن الهدف الإستراتيجي للغزو هو تدمير العراق. ولم تمض سوى ثلاثة أسابيع حتى كان نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، قد سقط ودخلت القوات الأمريكية ــ البريطانية بغداد، ووضعت أكبر آلة حرب عرفها العالم بعدها مصير آلاف العراقيين على المحك ما بين القتل أو الإخفاء القسري أو النزوح وغيره. وعلى مدى الأشهر التالية، كانت المزاعم الأنجلوسكسونية الكاذبة التي بُرر بها العدوان، تتهاوى واحدة تلو الأخرى، فلا هم وجدوا أسلحة دمار شامل، ولا هم تمكنوا من اثبات علاقة نظام صدام بـ "الإرهاب العالمي" وتنظيم القاعدة. وفي ذلك الوقت عرضت الإدارة الأمريكية ما زعمت أنها أدلة دامغة عل امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. ولم تعبأ الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما بتحذير العراق من الترويج الأميركي للحرب عليه بلا مبرر.

لكن ذلك كان بداية القصة فحسب، إذ دفعت التداعيات المتلاحقة على الولايات المتحدة، حينها خبراء أميركيين كثيرين وصفوا قرار غزو العراق بأنه أكبر كارثة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات الثلاثين الأخيرة. ورغم عدم وجود أي إحصائيات حكومية رسمية عن أعداد ضحايا الغزو والمرحلة التي اعقبته، تكشف منظمة (هيومن رايتس ووتش) أن نحو نصف مليون شخص فقدوا حياتهم، في حين تُشير تقديرات موقع " إراكي بودي كاونت Iraqi Body) Count)" المختص بإحصاء ضحايا الغزو الأميركي إلى أنها تقارب 210 آلاف قتيل. وكانت صحيفة "أنترسبت (The Intercept)" الأميركية قد نشرت مقالاً قبل أيام أشارت فيه إلى أن أعداد الضحايا تقدر ما بين 150 ألفاً إلى مليون قتيل من العراقيين، وذلك جراء تصفيات طائفية وعمليات عسكرية وأعمال عنف شهدتها البلاد طيلة السنوات الماضية. وقتها غرقت أميركا في "مستنقع الوحل العراقي" بعد انطلاق المقاومة الشعبية التي استنزفتها استراتيجيا ومعنوياً وعسكرياً واقتصادياً. أدى سلوك البلطجة الأميركي، حينها إلى خسارة الولايات المتحدة للقوة والتأثير والمكانة والسمعة عالمياً. كما أسهم في تدهور الاقتصاد الأميركي ودخوله ركوداً عميقاً ما بين أعوام 2008 ـــ 2011. فضلاً عن أنه أستهلك القدرات العسكرية والدبلوماسية والمالية الأميركية، وسمح بتنامي القوة والتأثير والنفوذ الصيني في فضاء شرق آسيا تحديداً، في ظل الانشغال الأميركي في حرب عصابات وشوارع لم تعتد عليها قواتها من قبل. ليس هذا فحسب، بل إن واشنطن لم تحصل على عقود تفضيلية في سوق النفط العراقية، ولم تتمكن من ضم العراق إلى خانة حلفائها في المنطقة، ذلك أن العراق، منذ احتلاله أصبح ساحة نفوذ إيرانية باعتراف الأميركيين أنفسهم، محطمة بذلك أي الولايات المتحدة توازن القوى في الخليج العربي لصالح إيران. وشكل هذا النفوذ المزدوج (الإيراني ــ الأميركي)، تحديات كبرى أمام الحكومات العراقية المتعاقبة في محاولة الموازنة بين مصالح البلدين داخل العراق، لاسيما مع انعكاس هذه المصالح إلى مختلف أشكال الصراع السياسي والأمني على الأراضي العراقية. كانت إدارة جورج بوش مقتنعة، وطمأنت الشعب الأميركي والعالم، بأن الحرب ستخلف عدداً قليلاً من الضحايا المدنيين والعسكريين، وستؤدي إلى "نصر" سريع تليه إعادة الإعمار الذي اسال لعاب الشركات الأميركية، وتحويل العراق إلى حكومة ديمقراطية، وتركه ببنية تحتية أفضل. لكن، حسب ما وثق "مشروع تكاليف الحرب (Cost of War)" بجامعة براون Brown University الأميركية، فأن هذه الافتراضات المتفائلة تواجه سجلاً من الوفيات والتكاليف المرتفعة والمستمرة، والدمار الإقليمي، ففي الجانب العسكري استنزفت القوات الأميركية ما بين أعوام 2003 ــ 2012 بشكل لم تشهده حتى في حربها في فيتنام، إذ خدم مليون جندي في العراق، قتل منهم أكثر من 4600 (عدا من صنفتهم وزارة الدفاع "متعاقدين")، وأصيب أكثر من 23000. وفي تقرير لـ "معهد أبحاث السياسات الخارجية" الأميركي ذكر "أن الحقيقة التقليدية تتحدث عن نحو 4 آلاف قتيل من الجنود رجالاً ونساء كشف أن هذا الرقم مجرد جزء من الحقيقة، إذ إن الرقم الحقيقي عندما تتم إضافة عدد المقاولين والمدنيين الأميركيين الذين قتلوا فإن العدد يقترب من نحو 8 آلاف قتيل، وإصابة عشرات الآلاف بجروح غيرت حياتهم وعائلاتهم، كفقدان الأطراف أو العيون أو حروق الوجوه. وذكر التقرير ان العراق كان بمثابة مغامرة بعيدة المدى شبيهة بالمغامرة الإمبريالية التي انحرفت عن طريقها، رغم ما لدى الولايات المتحدة من موارد طبيعية واقتصادية وموقع جغرافي تحسد عليه". وقد يقال إن هذه أعداد ضئيلة إذا ما قورنت بمئات القتلى والجرحى العراقيين، وهذا صحيح لكن العراقيين لم يختاروا الغزو وإنما فُرض عليهم، وثانياً، الأرقام الأميركية مضلّلة من دون وضعها في السياق السليم، ذلك أن العاهات والأمراض النفسية التي خلفها العدوان على العراق بين صفوف الجنود الأميركيين أكبر من ان تختزل هنا، ويكفي أن تعلم أن فاتورة العناية بهم حتى عام 2050 ستكلف خزينة الدولة 223 مليار دولار. أما تكلفة الحرب الإجمالية فقد وصلت إلى حوالي تريليوني دولار، وفي عام 2050 يتوقع أن تتجاوز ثلاث تريليونات دولار. وهناك تقديرات أخرى تضع التكلفة الكلية بحدود الثمانية تريليونات دولار، إذا ما احتسبت الفوائد. وفقدت الولايات المتحدة منذ 2003 حتى 2011 ما مجموعه 129 مروحية بين طائرات قتالية أو ناقلة، سقط معها أكثر من 277 قتيلاً وحدها، أما على الأرض فقد تكبدت خسارة أكثر من 860 مركبة، تتوزع بين الدبابات والعجلات وناقلات الجنود. أما بريطانيا الشريك الرئيس لواشنطن في الغزو فقد فقدت 179 عنصراً من جنودها ووصل عدد قتلى بقية دول التحالف مجتمعين إلى 139 عنصراً.
تسبب الغزو الأمريكي للعراق بانهيار دولة بكل مقوماتها ومؤسساتها، فبعيد إسقاط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في التاسع من نيسان عام 2003 أمرت سلطة التحالف المؤقتة التي يرأسها الأميركي الجمهوري بول بريمر آنذاك، بحل جميع الهياكل الأساسية العسكرية والأمنية والاستخبارية في البلاد، ومن ضمنها وزارتا الدفاع والإعلام، إضافة إلى المحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة مع تعليق عمليات التجنيد للخدمة العسكرية وكان ذلك في 23 مايس 2003، حيث وصف مراقبون للشأن العراقي هذا القرار بأنه السبب الرئيس لما شهده العراق فيما بعد من تدهور أمني وحرب طائفية أدى لمقتل عشرات الآلاف من العراقيين. كانت الحجج التي قدمها رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير والرئيس الأميركي السابق جورج بوش للحرب على العراق كثيرة، ولكن كان المبدأ الأساسي لقضية التدخل هو أنه كان لمصلحة الشعب العراقي نفسه الذي سيُحرر من قبضة طاغية وحشي. أن الإطاحة بصدام حسين وقعت بالفعل، ولكن بتكلفة باهضه. لقد أحدث الغزو فراغاً مُلئ بالرعب وسفك الدماء. لقد "كان العلاج الذي وصفه مهندسا الغزو الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني أسوأ من المرض"، فمهما كان نظام صدام حسين مروعاً فإن الفوضى والاضطراب أسوأ.
التزييف والخداع:
1 – مع سقوط بغداد في أيدي القوات الأمريكية وحلفائها في شهر آب/أغسطس سنة 2003، قام مكتب الاستخبارات والتحقيق التابع لوزارة الخارجية بعملية رصد لـ 132 افتتاحية ومقال رأي في عدد من وسائل الإعلام في 45 دولة، بين الثالث والحادي والثلاثين من شهر تموز/ يوليو، وقد وثق استخدام عبارة (كذب) 41 مرة، واستخدم عبارات أخرى مثل (تزييف وتلفيق) 20 مرة، في إشارة لما روجته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية. وأشار المكتب إلى أن صحفيين آخرين استخدموا عبارات أقل حدة مثل (الخداع أو المبالغة). وفي وثيقة رفعت عنها السرية وتمكنت صحيفة "بوبليكو" الإسبانية من الاطلاع عليها، حذّر المكتب من أن "الاتهامات بالكذب والتضليل تم رصدها في الصفحات الأولى لصحف دول حليفة مثل إسرائيل وكندا والعديد من دول الناتو". وفي فقرة تضمنها التقرير بعنوان "مصداقية أمريكا على المحك"، أشار مكتب الاستخبارات لوزارة الخارجية إلى أن " معظم المراقبين في جميع أنحاء العالم يقولون إن مصداقية الرئيس بوش ورئيس الوزراء بلير رهينة قضية أسلحة الدمار الشامل، وأن أي شيء آخر غير اكتشاف هذه الأسلحة سيقوض مبررات شن الحرب". وفي فقرة أخرى من التقرير، يستخدم مسؤولون من إدارة بوش عبارة "مفقود" للإشارة إلى عدم العثور على الأسلحة المزعومة. (صحيفة بوبليكو الإسبانية 6 سبتمبر/ أيلول 2021)
2 – كشفت وثائق بريطانية أن لندن كانت واثقة من عدم صحة مزاعم امتلاك العراق أي قدرة على الحصول على أسلحة دمار شامل أو صواريخ بعيدة المدى قبل غزوه بعامين على الأقل. وتعد وثائق مجلس الوزراء البريطاني، التي أفرج عنها، الأولى من نوعها التي تثبت علم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، توني بلير بخلو العراق من أي قدرات لامتلاك أسلحة محظورة وفقاً لقرارات الأمم المتحدة الصادرة قبل وبعد إخراج الجيش العراقي من الكويت في شهر فبراير/ شباط عام 1991 في اعقاب عملية سميت باسم عاصفة الصحراء. (BBC نيوز عربية 21 شباط2023)
3 – ضمن سلسلة جديدة لـ بي بي سي بعنوان "الصدمة والحرب: 20 عاماً على غزو العراق"، تستند إلى لقاءات أجريت مع عشرات الأشخاص الذين كانوا على صلة مباشرة بالأمر. "يا للعجب" كان هذا رد الفعل المقتضب الذي صدر عن مسؤول كبير بجهاز الاستخبارات البريطاني "إم آي 6" عندما أخبره زميل له بأن الأمريكيين جادون بشأن حرب العراق. كما يتذكر مسؤولون بوكالة الاستخبارات الأمريكية "سي آي إيه" صدمة نظرائهم البريطانيين. يقول لويس رويدا رئيس مجموعة عمليات العراق بالسي إيه: "ظننت أنهم سيصابون بأزمة قلبية لو لم يكونوا رجالاً مهذبين لهموا بصفعي عبر الطاولة". سرعان ما بلغت الرسالة داونينغ ستريت، مقر رئيس الوزراء البريطاني. الرسالة سلمها مسؤولو الاستخبارات وليس الدبلوماسيين. (BBC نيوز عربي 14 آذار 2023).
4 – في مقابلة نادرة مع بي بي سي قال سير ريتشارد ديرلاف رئيس إم آي 6 آنذاك وأحد المسؤولين الذين كانوا يترددون على واشنطن باستمرار: "على الأرجح كنت أنا أول من قال لرئيس الوزراء شئت أم أبيت، عليك ترتيب الصفوف والاستعداد لأنهم على ما يبدو يتأهبون للغزو". كان جهاز إم آي 6 عل وشك التورط في واحدة من أهم محطاته التاريخية وأكثرها إثارة للجدل. بالنسبة للولايات المتحدة، قضية أسلحة الدمار الشامل كانت ثانوية مقارنة برغبتها في الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. يقول رويدا: "كنا سنغزو العراق، حتى لو كان ما بحوزة صدام مجرد رباط مطاطي ومشبك ورق.. كنا سنقول إنه سيستخدم لفقأ عينك". أما بالنسبة للملكة المتحدة، فأن التهديد المفترض من قبل أسلحة الدمار الشامل العراقية ــ سواء كيمياوية أو بيولوجية أو نووية ــ كان أمراً حيوياً لإقناع الرأي العام المتشكك. (غوردون كوريرا، مراسل الشؤون الأمنية ــ بي بي سي نيوز 14 مارس \ آذار 2023).
"لم تعرف عامة الناس في ذلك الوقت أنه مع اقتراب الحرب، ومع إخفاق المصادر الاستخبارية في تقديم المعلومات التي وعدت بها، ومع عدم عثور المفتشين على شيء يذكر، كانت هناك حالة من القلق والخوف. (مستقبلي بين يديك)، هكذا قال السيد بلير لسير ريتشارد رئيس إم آي6، في يناير/ كانون الثاني 2003، مع تزايد الضغوط لتقديم دليل على وجود أسلحة دمار شامل.
وفي الختام:
رغم ذريعة أسلحة الدمار الشامل المعلنة فإن أسباباً أخرى مختلفة (سياسية واقتصادية وحتى حضارية) ظلت قيد التناول في وسائل الإعلام العالمية وأروقة السياسة الدولية، وفي مقدمة تلك الأسباب تحمس الحكومتين الأمريكية والبريطانية لوضع اليد على ثروة العراق النفطية الهائلة، وهذا ما يؤكده التحريض على غزو العراق من قبل مسؤولي شركات نفط أميركية كبيرة، من بينها مثلاً مجموعة هاليبيرتون النفطية التي كان يتولى إدارتها آنذاك حتى عام 2000، ديك تشيني نائب الرئيس جورج بوش. وما يثبت صحة ذلك بأن وزارة الفاع الأميركية (البنتاغون) منحت هاليبرتون ــ دون عرض مناقصة ــ في تشرين الثاني 2003، عقدين مختلفين الأول بسبعة مليارات دولار لإعادة تأهيل البنى التحتية النفطية العراقية والتزويد بالمنتجات النفطية المكررة في العراق. والثاني لتقديم خدمات لوجستية للقوات الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بقيمة 8.6 مليار دولار. "كما أكدت وثائق سرية بريطانية وجود علاقة قوية بين شركات ومؤسسات نفطية وعملية غزو العراق، وأن خططاً لاستغلال الاحتياطي النفطي العراقي تمت مناقشتها بين مسؤولين حكوميين وبين كبريات الشركات النفطية العالمية، وخاصة البريطانية منها (بينها شركات شل، و بي بي، وبي جي) قبل عام من تاريخ غزو العراق".

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

730 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع