مــلاك الــرحمة

بقلم طارق احمد السلطاني

مــلاك الــرحمة

حال دخول الممرضة الجديدة لردهة الرجال في مستشفى الامراض العصبية والعقلية تجمهر حولها العديد من الرجال المرضى وهم ينظرون اليها بأندهاش ! فهي فتاة شابة طويلة ترتدي ملابس التمريض البيضاء , سمراء البشرة تمتلك جسما مكتنزاً باللحم لها وجها طفوليا مستطيلا رغم بلوغها العقد الرابع من العمر . لها انف كبير وشفتان ورديتان غليظتان . ابتدأ المرضى يقدمون انفسهم اليها الواحد تلو الاخر فالاول قدم اليها ابياتا من الشعر , قال لها : انني كتبت ابيات الشعر هذه في المراحيض وهي ذكريات من حياتي الخاصة الماضية التي كنت اعيشها تحت خيمة الحب التي احرقتها ايادي الغدر والخيانة .
اما الثاني فقد عرف نفسه اليها قائلاً :
انني متوفقا علميا واعلاميا على الجميع .
ومن الغريب ان المجنون الثالث قال لها : انني طبيب نفساني مشهور عالميا , والرابع قدم اليها منديلا نسائيا مزينا بالورود وقال لها : تفضلي باقة الورد الجميلة . و ...... و ........ ان عالم المجانين عالم جميل منعزل عن عالمنا الحاضر بكل معنى الكلمة فهؤلاء الرجال والنساء عصرتهم وسحقتهم وسلبت عقولهم نوائب الزمن ومآسي الصدمات القاسية وغدر الانسان لاخيه الانسان حتى اصبحوا بعيدون عن المجتمع الانساني الحقيقي بعيدون عن الاهل , الاقرباء , الاصدقاء , الاحباب , لكن الممرضة ملاك اقتربت منهم اكثر من تنفيذ واجباتها الرسمية حتى صارت جزءاً لا يتجزأ عن حياتهم اليومية .
ففي كل صباح ينتظرون حضورها بفارع صبر , فهي تقدم اليهم خدمات المعالجة الطبية وزرق الابر المهدأة للأعصاب فهي تعاملهم بحنان كحنان الام لطفلها الرضيع .
* * *
انتبهت ملاك لوجود رجل يجلس في الركن القصي من الردهة يتصفح جريدة سياسية قديمة.
سارت نحوه بكل عطف وحنان,حال جلوسها قبالته سألته عنه اسمه ؟ رد عليها بهدوء قائلا:
- اسمي ايوب المظلوم !
- ما الظلم الذي وقع عليك ؟؟
- قصتي طويلة يا ملاك الرحمة . تعالي الي في وقت اخر لاطلعك على تفاصيل ما جرى لي ؟!
- ارجوك ان تحكي لي قضيتك الان لانني اتلهف لسماعها في شوق عظيم .
- طيب . كنت من كبار التجار والاغنياء في المدينة . لكن زوجتي وولدي تآمرا ضدي وادعيا بانني مصاب بالجنون عندما استغلا ساعة من الزمن كنت فيها بحالة سكر شديد !! فدفع الرشا في زمن الفساد الاداري يسهل تحويل الانسان العاقل الى شخص مجنون !! وذلك من اجل السيطرة على امواله وممتلكاته لهذه الاسباب تقرر ايوائي في مستشفى المجانين بينما انا لست مجنونا على الاطلاق ياملاك الرحمة هذه هي خلاصة قضيتي .
* * *
حزنت كثيراً لدى سماع قصة ايوب .. اخذت تجلب له
الحلوى والكتب والمجلات والصحف يوميا بينما هو يقابلها بتقديم الهدايا العينية والنقدية
كان بحوزته الكثير من المبالغ النقدية على الرغم من انه نزيل في المستشفى الامراض العقلية والعصبية حيث تقدم اليه النقود اثناء الزيارات الاسبوعية
للمستشفى من قبل العديد من بناته واصدقائه واقربائه .
* * *
هذا التقارب القوي بين المريض وممرضته زرع الحب في قلبيهما !!
فهو رجل قوي البنية في العقد السادس من العمر متعطش للقاء مع اية امرأة , وهي فتاة جميلة عانس في العقد الرابع من العمر يبدو من ملامح وجهها
انها متعطشة لماء الرجل ولكن اين ؟
ومتى ؟ لقاء ذكر وانثى في مستشفى الامراض العصبية لقاء محرومين من الهوى واللذة والمتعة في هذه الحياة , في مجتمع تحكمه الاعراف والتقاليد والازمات القديمة , تحدد فيه حرية الانسان وحب الانسان لاخيه الانسان بصورة عامة وحب الذكر والانثى بصورة خاصة .
صدمة حب ايوب لملاك اصابته بالجنون الحقيقي .. لقد اصيب بعدوى الجنون !
اخذ يلعن ويشتم المجتمع , ويمزق ملابسه وكتبه ولا يأكل الطعام الا بعد حفظه في حاوية القمامة !!
وفي احدى الليالي المقمرة .. بعد منتصف الليل اخذ ايوب يصيح باعلى صوته قائلا : اين انت ياملاك الرحمة ؟
اين انت ياحبيبتي ؟ تعالي الي الان .. تعالي لاودعك الوداع الاخير .. انني راحل عن الدنيا ياحبيبتي .. لقد صممت الخلاص من هذا العذاب .. لقد صممت الخلاص من هذه الحياة الفانية ! ومن حسن الصدف ان ملاك الرحمة كانت تناوب فترة الخفارة الليلية بعد منتصف الليل .
ابلغها الحراس عن وجود حالة مريض تستوجب زيارته في هذه الساعة من الليل .
وقد انتابته نوبة جنون شديدة ! حضرت اليه ..
اخذ يراها ترتدي بدلة العرس البيضاء وليس ملابس الممرضات .
شعر بفرح شديد , زرقته بابرة مهدأة لاعصابه الثائرة ..
اخذت تمسح جبهته وشعر رأسه بأنامل اصابعها الناعمة .. حتى استسلم لسلطان النوم العميق .
* * *
ان الاحلام طريق السعادة للانسان اثناء النوم ..
فقد زارته ملاك في احلامه بتلك الليلة حضنها وعانقها بقوة ! قبلها قبلات حارة طويلة استغرب وجود وشم اسود فوق زنديها !!
قال لها : حبيبتي ملاك تعالي نتزوج وليكن ما يكون ؟!
حبيبتي ملاك اقول لك حقيقة العلاقة بين الذكر والانثى عند وقوعهما في فخ الحب البريء.. ليس حراما ان يقبل احدهما الاخر ..
ليس حراما ان يعانق احدهما الاخر .. ليس حراما ان ينظر احدهما الى الاخر . الحرام هو ما خرج عن مفهوم الحب والقبل والضم والعناق واللمس والنظر تعالي ..
اقتربي ياحبيبتي .. ادخلي في اعماق احضاني لننعم في المزيد من الحب والعناق والقبلات الطويلة ... ياملاكي لاتضيعي ايامنا واحلامنا الحلوة السعيدة .
* * *
استيقظ من النوم فزعا بعد منتصف الليل بقليل فزاد هذا قلق افكاره وهيجان دمه . واظلمت الدنيا في وجهه ولم يعد كيف يسير ؟ وحركة دنو اجله الى الانتقام من نفسه بعد ان انتهب ماله وبيته وذلك بخيانة زوجته واولاده .
وكانت هذه الافكاركلها تعصف في دماغه وبالتالي اوصلته الى اكتشاف حقيقة خطيرة من ان الفساد المالي والاخلاقي والسلوكي والوطني الذي ينتشر في المجتمع بسرعة .
كسرعة انتشار وباء مرض فتاك شديد العدوى بين الناس ماهو الا اعمال انسانية وحشية وتعصب وهدم وتخريب .
كبت احاسيسه خفق قلبه تقلص صوته وعيناه تشيان بالصراع الذي يمزقه .انهمرت الدموع بللت الخدين .
لقد كتب عليه ان يعيش بقيه عمره داخل اسوار مستشفى الامراض العقلية والعصبية ولم تتسهل له طرق الخلاص .
اخذ يحدث نفسه بهمس :سأنتظر بزوغ الفجر لاضع حداً لحياتي واتلقى الراحة الابدية .
الموت رائع في سره وعظمته وصمته ووحدته وليله وقبره.
* * *

في اليوم التالي انتشرت الضوضاء في ردهات الرجال الذين اخذوا يبكون ويصرخون .. على الخدود والصدور يلطمون .. يلعنون ويشتمون بلغة لا يفهمها الا الراسخون في العلم اصعب فهما من لغة الصم والبكم .
ماذا حدث ؟ لا احد يدري
ابلغ الحراس ادارة المستشفى عن وجود شغب وغضب وهيجان داخل ردهات الرجال !!
اطلقت صفارات الانذار .. اغلقت الابواب الخارجية بأحكام خشية وقوع هروب جماعي . استعمل ضباط وافراد الشرطة مكبرات الصوت حال دخولهم
الردهات برفقة الحراس الذين يحملون بايديهم الهراوات واغطية الرأس والوجه السوداء الخاصة عند نقل الموقوفين او المجانيين .
طلب من النزلاء الهدوء والعودة الى اماكنهم واسرتهم .
بعد تفتيش المستشفى عثر ضباط الشرطة على جثة رجل ميت معلقة داخل احد الحمامات وقد تبين ان الرجل المنتحر هو النزيل ايوب
وقد شنق نفسه باسلاك كهربائية غليظة اقوى من الحبال بعد لفها حول رقبته وربط نهاية السلك بالشباك الهوائي العلوي بعد ان صعد فوق حاوية قمامة
كان قد ادخلها الى الحمام ثم رفسها جانبا بكلتا قدميه وفارق الحياة بعد دقائق معدودة تبين انها في الساعة الخامسة فجراً , كشف ذلك بعد تشريح الجثة في دائرة الطب العدلي والجنائي , كما عثر في جيب المنتحر ايوب على رسالة مختصر كتب فيها مايلي :
(( لقد انتحرت للخلاص من هذه الحياة القاسية التي فقدت فيها كل شيء !! فقدت كل امالي واطفالي واموالي وحبيبتي الغالية ملاك .... ))

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع