مباريات كرة القدم والعقل الجمعي العربي

إبراهيم الولي

مباريات كرة القدم والعقل الجمعي العربي

مقدمة:

تابعت بإهتمام وشغف مناسبتين كرويتين جرتا هذه الأيام، الاولى مونديال قطر الذي انتهى بفوز الارجنتين على فرنسا، وجاء فريق المغرب الرابع في المربع الذهبي، الذي لم يبلغه فريق عربي من قبل. والثانية كانت على كأس الخليج العربي الخامس والعشرون ، والتي انتهت في البصرة 19/1 بإحراز العراق البطولة و جاءت عُمان الثانية.
جدير بالذكر أن المونديال ينعقد كل أربع سنين ، فستكون دورته القادمة في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك مشاركة في 2026 ، أما دورة الخليج فتقع كل سنتين وستكون دورته القادمة في الكويت سنة 2024. لعل من المفيد التذكير بأن الفدرالية الدولية لإتحادات كرة القدم FIFA أُسست سنة 1904 في باريس تضم الآن 211 اتحاد كرة قدم في العالم. ) Federation Internationale de Football Association أما الخليجي فقد أُنشِأ سنة 1970 بأربع دول مُطِلة على الخليج العربي أُضيف له العراق واليمن ، لِيُصبح العدد ثماني فرقٍ بما فيها عمان والامارات العربية.
رأي:
لا يفوتني بادئ ذي بدء أن أعبر بكل الإعجاب والانبهار بمونديال قطر،، تنظيما واصرارً من دولة قطر على استضافته منذ أكثر من 10 سنين في وجه مناكفات واعتراضات لا حصر لها...
فبارك الله لها ما انجزت. ، أما عن الفرق الخليجية، وقد جرت مبارياتها في البصرة، فهي لم تكن أقل ابهاراً أو عظمة اخراجاً وتنظيماً أدهش كل مُنصِف، فبارك الله بمن خطط ونفذ لإعدادها في ملعبين دوليين بسعة 65 ألف متفرج لهذه التظاهرة الرياضية الناجحة.
ما يهمني في هذه المقالة التركيز على ظاهرة أبهرتني باكثر من ذلك … فتلك هي ردة فعل او استجابة المواطنين العرب في الأقطار العربية كافةً، من العراق شرقاً حتى المغرب العربي وموريتانيا غرباً ومن شمال أفريقيا حتى اواسطها، من هَبّةٍ تلقائية بدأت حين تغّلب الفريق المغربي على فريق أسبانيا. فكانت فرحةً وأهازيجَ في طول البلاد العربية وعرضها، بصرف النظر عن علاقات دولهم بالمغرب ، أو بين بعضهم البعض، فلقد جرى ذلك الحماس حتى عندما خسر فريق المغرب أمام فرنسا، حيث وجد العربي أن حصول المغرب على المركز الرابع ،أي داخل المربع الذهبي أمراً يستدعى الإحتفال أيضا فكان لذلك ما يبرره.
أما عما جرى بالنسبة لكأس الخليج العربي في البصرة.. فقد جرت احتفالات تلقائية في العراق من زاخو إلى الفاو بفوز الفريق العراقي، وكان حماس المشجع العراقي وحرصه على حضور أو حتى متابعة اللعب أن غصَّ الملعب الأولمبي الذي ضم ل 65 ألف متفرج.. وإذا بأضعاف هذا العدد من المشجعين قد حُرِموا من الدخول ،والإكتفاء بالمشاهدة على التلفاز ..
كما أن أشقاءنا العرب في الوطن العربي شاركوا فرحة العراق لفوزه ، بما يدل على التلاحم في المشاعر عبر الحكومات والسياسات في بلدانهم.. وهنا تناغم العقل الباطن للمواطن العربي بالعقل الجمعي الذي يفرض التضامن في مواقف و مناسبات. كهذه .
فأما العقل الباطن فقد اختزن في الضمير العربي ما تعرض له شعب العراق من حيفٍ املته عليه سياسات دولية متقاطعة، ومن بعض أبنائه اللذين يشكون من عوز في الشعور بالمواطنة المجردة من العرض.
لقد عبّر العقل الجمعي العربي عن ذاته منطلقاً من ركائزه الاساسية؛ اعني الاسلام
واللفة العربية ووحدة الأصول فعبر عن ذاته وسطوته عبر تلك الاستجابات التلقائية الرائعة لفوز فريق كرة قدم عربي. فما هو العقل الجمعي الذي كشفه فلاسفة وضعيون، وأولهم اميل دوركهايم الفرنسي 1859-1917 حين قال:( انني اوافق على أن النظم الإجتماعية هي عبارة عن وحدات معنوية ، إنما انا اقول ان الضمير والعقل الجمعي هو القوة المعنوية التي تلصق الفرد بالمجتمع. )
فما هو العقل الجمعي ؛ هو ما حمل المواطنين العرب عامةً والعراقيين خاصةً في كل مكان على الإبتهاج لفوز فرق عربية في المناسبتين الكرويتين سواء بسواء !
أقول لكم أن ظاهرة اجتماعية سُميت بالعقل الجمعي ، أو إن شئت الضمير الجمعي، انما هو
العنصر اللاصق الجامع لمشاعر تلكم الملايين العربية بأن يضغط عليها ليفرز التضامن بين وحداتها، وطنيًا او قوميا ، حتى ليشكل إرادة وعزم وأنماط سلوك اجتماعي من خارج الأفراد.
Solidarity فهو عبارة عن التشابه، ربما حد التطابق بين التقاليد والقيم والمعتقدات في الدول العربية بصرف النظر عن نظمها السياسية Customs ,Values and Beliefs
هذه العناصر الجوهرية الثلاثة تفعل فعلها في حياة البشر وسلوكياتهم ضاغطة على الأفراد بغرض الالتزام بسلوك جمعي كلي في الوحدات السياسية والإجتماعية في الدولة المعنية.
فإذا ما تمعنا في ثلاثية العقل الجمعي آنفة الذكر ، فسنرى أن القيم التي تربينا عليها في كنف أسرنا ومدارسنا بكل مراحلها تؤكد على الصدق في المعاملة أو القول، وعلى الامانة والوطنية والحس القومي بله الوطني، وعلى الكرم والشجاعة وإكرام الضيف ، والسالب في هذه الإيجابيات إنما يكون بتجنب عدم الوفاء والغش في التعامل وما إلى ذلك من قيم ، أما التقاليد فهي متشابهة بدرجة كبيرة ومحسوسة في أرجاء الوطن العربي، فتلك هي تقاليد الزواج ومراعاة قواعد الأخلاق التي علمنا إياها القرآن الكريم ، والإلتزام بقواعد الشرف وحفظ العرض إلخ....
وهذه كلها تتداخل مع المعتقدات التي يكون جوهرها قوانين مدونة أو غير مكتوبة لكنها ملزمة خلقيا و في مقدمتها الشرائع السماوية وعلى تلك التي تجمع أفكاراً ومعتقدات اعتادت الجماعات في الوطن العربي على الأخذ والإلتزام بها، ومرة أخرى نؤكد على عنصر الدين الحنيف الجامع للعرب مع الإحترام الكامل للاديان الأخرى. فالعرب المؤمنون بالله يعملون ملتزمون بالآية الكريمة 285 من سورة البقرة : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله....) صدق الله العظيم.
عودة إلى التاريخ:
لعلي لا أخطئ حين أقول أن السركاميل بنرمان رئيس وزراء بريطانيا اللبرالي ، كان ببصيرة السياسي المحنك، قد استشرف هذا الضمير الجمعي العربي ، فذلك عندما أسس سنة 1905 مع مجموعة من مفكري الدول الاوربية الاستعمارية السابقة ، وهي بريطانيا وفرنسا و اسبانياو البرتغال وايطاليا وبلجيكا وهولندا ، داعين إلى إقامة عازل يتمثل بقناة السويس ليفصل بين قوم في مشرق ومغرب الشرق الأوسط حول البحر المتوسط ولغاية الخليج. فهم شعب يتكلم لغة واحدة مشتركة هي العربية ويدين غالبيه سكانه بدين الإسلام ، فذلك تجمع يشكل في نظرهم خطورة على مستقبل الاستعمار الأوروبي حين يتيسر لهم حاكم قوي عادل ، وقد اجمع ممثلو تلك المجموعة سنة 1907 على وثيقة بنرمان * التي ركزت على أمرين هما ضرورة إقامة كيان ما في وسط المنطقة يكون مخلصا لنا وعدواً مفرقاً لهم. والثاني زعزعة أي تقدم علمي أو تقني في المستقبل و كبحه. وجاءت نتائج هذه العملية في مسارين: أولهما أن قرار زرع كياني سياسي معادٍ لأهل المنطقة من جهة، وموالٍ للمستعمرين فكانت دولة اسرائيل التي لعبت ، وما تزال الدور الذي طلب منها.
وثانيهما:إن تتبع مسار نتائج هذه الوثيقة ، اوسمها العقيدة قد آل إلى حدثين خطيرين طعنا الامة العربية شرقها وغربها ، تلكلم هما معاهدة سايكس-بيكو لسنة 1916 واعقبها وعد بلفور في 1917 وليس هذا فحسب بل ان معاهدة سيغر 1920 التي تفرعت من معاهدة فرساي، قننت لهذه الوثيقة في جوهرها مع ما تلاها من اتفاقيات، ارى انها كانت تنفيذية لنظرية بنرمان ورفاقه المستعمرين الاوروبيين.


وجاءت مباريات كرة القدم في الدوحة وفي البصرة لتقول لأولئك المنظرين، لقد خاب رجاء السياسي المحنك في عزل شرق العرب عن غربه. في هذه الهبّة التلقائية من العرب الذين جعلوا من قناة السويس صلة رحم وخير للعرب ولغيرهم. فتلك هي صحوة العقل الجمعي العربي الذي حاول المستعمرون كبته وتحييده دون ان يدركوا جوهره... فقد اتضح ان مباراة كرة القدم وفوز او حتى خسارة فريق عربي اضهر التضامن المغروس في العقل الباطن العربي، الذي تسامى إلى العقل الجمعي العربي الذي نلمسه مكشوفا وليس منشأ حديثاً ، فهو مكون أصيل من عناصر العقل العربي الفاعل .

خاتمة
هكذا رأيت ولمست فعل العقل الجمعي العربي يُفعّل ذاته في هاتين المناسبتين : المونديال القطري وكأس الخليج العربي ، فليتهما يتكراران كي يظل هذا العقل ، يقظا فاعلاً ، على ا لرغم من كل الظروف والمعوقات التي حاولت قديما، وهي تحاول الآن ، طمس ألقِه.

————————————
* التجربة و الخطأ للمؤلف- دار الحكمة-لندن- الفصل الرابع
والله من وراء القصد..
ابراهيم الولي

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

822 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع