علاقة الدولة بالأمة وإشكالات الهوية

                                          

                      د . محمد عياش الكبيسي

تتجاوز رسالة الإسلام العالمية كل الحدود الجغرافية والسياسية والعرقية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، وقد دخل الناس في هذا الدين أفواجا من كل حدب وصوب، ومن هؤلاء تشكلت الأمة الإسلامية واحتلت المساحة الأوسع في خارطة المكونات الإنسانية على هذه الأرض.

حدد الإسلام هوية هذه الأمة بشكل قاطع فقال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [االأنبياء:92] ثم دعم هذا المفهوم بسلسلة من التشريعات والأحكام والآداب ومن ذلك:
1 - جعل الولاء منحصرا في هذه الأمة (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55]، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة:51].
2 - ارتقى بمفهوم الولاء إلى مستوى الإخاء، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره) رواه مسلم.
3 - شرّع من العبادات ما يضمن هذه الوحدة مثل صلاة الجماعة والحج والزكاة وصوم رمضان.. إلخ بحيث لم تعد هذه العبادات مجرد وسائل تقرب العبد من ربه، بل هي مع هذا وسائل لتوحيد المسلمين وصهرهم في هوية واحدة.
4 - شرّع من الأخلاق ما يضمن هذه الوحدة مثل تحريم الغيبة والنميمة والتحاسد والتباغض، حتى قال عليه الصلاة والسلام عن التحاسد والتباغض: (إنها الحالقة لا أقول إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
على هذه الأسس الواضحة قامت الأمة الإسلامية، وبهذه الأسس تميزت هويتها، ولم يعد المسلمون ينتبهون لأصل الشخص وعرقه وتاريخ أجداده وإنما المعيار هو التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13] حتى لمعت في سماء الأمة أسماء كثيرة ومتنوعة, وتنافست على الصدارة بما قدمته من عمل دون النظر في أصلها وفصلها, فتجد علماء الجزيرة العربية مثلا لا يقدمون أحدا في السنة النبوية على البخاري ومسلم, وهما أبعد ما يكونان عن الجزيرة نسبا وأرضا، ونجد الشعب التركي إلى اليوم ينظر إلى أبي أيوب الأنصاري, وكأنه جدهم وهم أولاده, ولا يقدمون عليه أبا ولا جدا، ونرى قائمة من أبطال الأمة كطارق بن زياد والمعتصم وصلاح الدين ومحمد الفاتح تتردد أسماؤهم على المنابر, وفي مختلف المحافل مع أنهم لا يجمعهم نسب ولا أرض ولا أية آصرة أخرى سوى آصرة الإسلام، بينما نرى في مقابل هذا كيف يتبرأ المسلمون كلهم من أبي لهب, وهو العربي القرشي والأقرب نسبا إلى رسول الله فيقرؤون في صلواتهم (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).
هذه الحقيقة الكبيرة لا ينبغي أن تكون موضع نظر أو شك باستدعاء المعاني اللغوية لمفردة الأمة كما يفعل بعضهم في قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص:23]، فإن هذه المفردة قد انتقلت من معناها اللغوي إلى معنى اصطلاحي آخر كما هي الحال في مفردات أخرى مثل الصلاة والزكاة والحج، حيث استعملها الشرع في معان جديدة ومحددة ولا يجوز صرفها بعد ذلك إلى معانيها اللغوية، فهذا باب من أبواب اتباع المتشابه ابتغاء للفتنة وإبطالا للشرع، فالذي يفسّر الأمة هنا بمعانيها اللغوية هو كمن يفسر الصلاة بالدعاء والزكاة بالطهارة والحج بالزيارة ثم يتجاوز المعاني والأحكام التي حددها الشرع.
إن مصطلح الأمة لا يحتمل في الإسلام إلا معنى واحدا وهو المرتبط بالهوية الإسلامية، أما أن تكون هناك أمة على أساس قومي كالأمة العربية والتركية أو على أساس قطري كما لو قيل الأمة السودانية أو الجزائرية فهذه مخالفات شرعية لم تنشأ إلا بعد خضوع الأمة للهيمنة الأجنبية وتعرضها للغزو الثقافي, الذي استهدف أصل وجودها والبنية الأساسية في تركيبها.
غير أنه مما ينبغي التنبه له هو التفريق بين مفهوم الأمة الإسلامية ومفهوم الدولة الإسلامية، فالأمة ترتبط بالعقيدة والرسالة، أما الدولة فترتبط بالأرض والحكم، والإسلام شرّع أحكاما تتعلق بالأمة، وشرّع أحكاما أخرى تتعلق بالدولة، والخلط بين المساحتين يولد اضطرابا خطيرا وتناقضا في التصورات والعلاقات والمواقف، وهذا هو الذي يفسّر حالة الفوضى والتناقض التي تعيشها بعض الجماعات الإسلامية, والمسلحة منها بشكل خاص، فآيات الحكم والقضاء والجهاد والسياسات الخارجية والمعاهدات كلها موجهة للدولة بنظامها ومؤسساتها المعروفة، بخلاف الآيات الواردة في العقيدة والعبادة وأركان الإسلام والولاء والبراء وفقه الهوية, فهذه موجّهة للأمة بغض النظر عن شكل الدولة ونظامها السياسي.
لقد أنشأ الرسول صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى في المدينة وما حولها، ولم تكن هذه الدولة متطابقة تماما مع مفهوم الأمة، بل كان بينهما عموم وخصوص وجهي، فالدولة كانت تضم مكونا آخر خارجا عن مفهوم الأمة, وهم القبائل اليهودية بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة, وتضم أفرادا وكيانات صغيرة من مشركي العرب، وكان هناك مسلمون يعيشون خارج الدولة كما تثبت ذلك قصة أبي جندل وقصة أبي بصير ومن معهما من مسلمي مكة، وهؤلاء جزء من الأمة لكنهم ليسوا جزءا من الدولة، كما أن القبائل اليهودية هم جزء من الدولة وليسوا جزءا من الأمة.
وعلى هذا يمكن أن نتصور أشكالا كثيرة لعلاقة الدولة بالأمة، ومنها:
أولا: التطابق التام بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة، وهذه فرضية يصعب تطبيقها على الأرض, حيث تصطدم بتعدد الدول الإسلامية، وبوجود مكونات غير إسلامية في الدولة الإسلامية الواحدة، وبوجود جاليات أو رعايا مسلمين في دول غير إسلامية، وقد تكون بعض هذه الفروقات مقصودة لذاتها ومشروعة كوجود غير المسلمين في الدولة الإسلامية, وهو ما اصطلح عليه بأهل الذمة.
ثانيا: وجود تناقض أو تضاد بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة، وهذا حصل في بعض الدول الإسلامية التي خضعت لحكم مناقض للإسلام, خاصة بعد سقوط الخلافة وتعرض المنطقة لموجة عاتية من الأفكار والثقافات الغازية كالماركسية والاشتراكية والعلمانية.
ثالثا: حالة التداخل النسبي بين المفهومين، وهذه هي الحالة الشائعة على امتداد التاريخ والجغرافيا، وتتضمن هذه الحالة صورا لا حصر لها، تقترب فيها الدولة من مفهوم الأمة كما هي أيام الخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية، وقد تبتعد بنسب متفاوتة كما هو واقع أغلب دول العالم الإسلامي اليوم.
إن الفارق الجوهري بين مفهوم الأمة ومفهوم الدولة في الإسلام أن مفهوم الأمة لا يسمح بتعدد الهويات الدينية وتداخلها, فالتمايز ضرورة في بناء الأمة وحماية كيانها وهويتها، والاجتهاد والتعدد المقبول هو ما كان تحت ثوابت الإسلام وضمن شروطه وضوابطه فقط، أما الدولة الإسلامية فيمكن لها أن تتسع للهويات والديانات المختلفة والمتعددة كما حصل في دولة المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكما نصت عليه الوثيقة، والعبرة بتسميتها إسلامية هو النظام العام في الدولة, فإن كان وفق الشريعة الإسلامية فالدولة إسلامية حتى لو كانت فيها مكونات أخرى غير إسلامية، وإن لم يوافقها فهي دولة غير إسلامية, حتى لو كان كل أهلها مسلمين.
بهذا يوازن الإسلام بين مطلبين رئيسين؛ الحفاظ على عقيدة الأمة وهويتها من ناحية، وضمان التعايش السلمي بين المكونات المختلفة على أرض واحدة وفي دولة واحدة من ناحية أخرى

http://www.alarab.qa/details.php?issueId=2022&artid=249081
 
مرحبا بملاحظاتكم ومداخلاتكم

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

679 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع