الجزء الحادي عشر - - أحداث ساخنة في الصراع بين السلطة في العراق والحركة الكردية ١٩٦٨ – ١٩٧٥

                                              

             المحامي المستشار محي الدين محمد يونس

أحداث ساخنة في الصراع بين السلطة في العراق والحركة الكردية 1968 – 1975 الجزء الحادي عشر

المبحث الثاني / تداعيات اتفاقية الجزائر على الحركة الكردية وقيادتها ومن ثم على القضية الكردية بشكل عام

اولاً/ تداعيات اتفاقية الجزائر على الحركة الكردية وقيادتها
مساء يوم 6 آذار 1975 عاد شاه إيران (محمد رضا بهلوي) إلى إيران وكانت الاذاعات في طهران وبغداد ولندن قبل ذلك قد اذاعت نص الاتفاقية والذي تضمن أربعة بنود:
1- اجراء تخطيط نهائي للحدود البرية استناداً الى بروتوكول الاستانا لعام 1913 ومحاضر لجنة تحديد الحدود التركية-الفارسية لعام 1914.
2- تحديد الحدود النهرية في شط العرب بحسب خط التالوك (منتصف المياه العميقة).
3- تعهد الطرفان بإعادة الامن والثقة على طول حدودهما المشتركة والالتزام باجراء رقابة مشددة وفاعلة وذلك لمنع كل تسلل ذي طابع تخريبي.
4- الاتفاق على اعتبار الترتيبات المشار اليها كعناصر لا تتجزأ لحلٍ شامل.
أنباء هذه الاتفاقية تسببت بحالة من القلق وعدم الارتياح لدى قادة الحركة الكردية (مصطفى البارزاني) والمرافقين له كل من (محمود عثمان) و(شفيق قزاز) و(محسن دزئي) والذين كانوا متواجدين في طهران في 26 شباط 1975 بناءً على دعوة من الشاه للبارزاني(1)، ربما كان غرض الشاه من هذه الدعوة هو ابقاء البارزاني في طهران دون أن يقابله لحين عودته من الجزائر بعد توقيع الاتفاقية مع (صدام حسين) ومقابلته لغرض الوقوف على ردة فعل البارزاني من الاتفاقية وتبعاتها ولم يكن مستبعداً أن تكون ردة فعل الشاه موازية لموقف البارزاني الذي انتظر على احر من الجمر ملاقاة الشاه بعد عودته للوقوف منه على فحوى الاتفاقية وتداعياتها على الحركة الكردية لعدم تطرقها إلى هذه المسألة صراحة(2).

       

في اليوم الثاني لعودة الشاه من الجزائر حضر الى محل اقامة البارزاني الجنرال (نعمت الله نصيري) رئيس جهاز السافاك الإيراني (الاستخبارات) ليخبره بأنه بصدد ترتيب لقاء مع الشاه خلال الأيام القليلة القادمة وفعلاً حضر في مساء يوم 10 آذار وقال بان الشاه سيستقبله في اليوم التالي 11 آذار ومن اجل ذلك حضر واستصحب البارزاني ومن معه في الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم إلى قصر نياوران مقر إقامة الشاه وهنا اترك الحديث لاحد المرافقين للبارزاني في هذا اللقاء (محسن دزئي) ليحدثنا عن تفاصيله وحسب ما اورده في كتابه احداث عاصرتها(3) حيث يقول:
" دخلنا صالة خاصة يستعملها الشاه لاستقبال الضيوف فأخذنا مقاعدنا ومعنا الجنرال نصيري وبعد وقت قصير دخل الشاه بعنجهيته المعهودة وسلم على الحاضرين وتبادل التحية ثم شرع بالكلام قائلاً انه قد عقد هذه الاتفاقية لأن اصدقائه اخذوا يلومونه بانه اذا اوقف مساعداته فسوف يغير العراق سياسته و قال بانه قد قرر نهائياً السير في هذا الطريق وانه امامنا خيارات ثلاث وهي:
اولاً/ العودة الى العراق الذي سيصدر عفواً عاماً عن الجميع بناءً على طلبه (حسبما قال).
ثانياً/ اللجوء الى إيران.
ثالثاً/ الاستمرار في القتال دون توقع اية مساعدة من إيران بل ستغلق الحدود كافة بوجهنا في نهاية شهر آذار.
وعند ذلك بدأ البارزاني بالكلام وقال انه قد ارسلني الى المنطقة قبل يومين وان الجميع مصرون على الاستمرار في القتال وقال الدكتور (محمود عثمان) بماذا نجيب شعبنا و ماذا يقولون لنا؟

     


عند ذلك قال الشاه غاضباً... سيقولون بأن قادتنا قد اضاعوا حقوقنا بالكلام الكثير، وسألته أنا فيما إذا كان سيسمح للاجئين الموجودين والعوائل بالبقاء في إيران فيما إذا استمر القتال؟ فأجاب بالإيجاب وقال البارزاني بأننا وضعنا أيدينا في أيديكم بصدق من اجل الصداقة لا لكي تقطع أيدينا، وهنا نهض الشاه دليلاً على انتهاء اللقاء الذي استغرق نصف ساعة فقط" أما الجليس الآخر في هذا اللقاء وهو السياسي المخضرم (محمود عثمان) والذي يذكر بانه و(محسن دزئي) و(شفيق قزاز) كانوا بصحبة (مصطفى البارزاني) عند اجتماعهم مع شاه إيران في يوم 11 آذار 1975 والذي كان قد وعدهم بهذا اللقاء قبيل سفره الى الجزائر و يقول بأن القيادة الكردية كانت على علمٍ ويقين بوجود علاقات ووساطات بين العراق وإيران ولكنها لم تكن بالمستوى المطلوب من الدقة او نتصور ان تكون بهذه الدرجة من الخطورة على الحركة الكردية.
وعن هذا اللقاء يقول:

" الشاه استقبلنا بأسلوب مختلف، حدثنا بلغة مختلفة تماماً عن لغته الناعمة التي كان يخاطبنا بها، حيث قال وقعنا الاتفاقية مع (صدام حسين) حققت لإيران حلماً كانت تنتظره زمناً طويلاً، بعد الان لا دعماً لكم انتهت اللعبة"(4).
يقال بأن شاه إيران قد اختار وحدد اللقاء في هذا اليوم 11 آذار متعمداً ليذكر المجتمعين معه بهذا اليوم والذي كان يصادف ذكرى إبرام اتفاقية 11 آذار 1970 وكان الشاه اعتبره تصرفاً من قبل قيادة الحركة الكردية بالضد من إرادته ودون استشارته وذكر بانه قال لــ(مصطفى البارزاني) " مثل ما عقدت اتفاق عام 1970 مع صدام عقدت انا ايضاً اتفاقاً مماثلاَ معه... قلت لكم أن تتنصلوا عن هذا الاتفاق ورفضتم... الان تحتجون على اتفاقي".
وفي موضوع ذو صلة يتحدث الكاتب المصري (محمد حسنين هيكل) حول لقائه مع شاه إيران في عام 1975 والاستفسار منه عن الكثير من المحاور منها ما يتعلق بعلاقة ايران مع الحركة الكردية حيث يجيبه قائلاً: " حكايتنا مع الثورة الكردية، بصراحة ايضاً سوف اقول لك نعم، ساعدنا الثورة الكردية... وفي الفترة الأخيرة كنا نحن القوة الفعلية وراءها، ولما سحبنا تأييدنا لها حدث ما حدث... اريد ان اقول لك انني لم أخترع الثورة الكردية... ولكنني وجدتها حقيقة قائمة لسنوات طويلة كانت النظم الحاكمة في العراق تناصبنا العداء، وجدت في الثورة الكردية فرصة، قلت لنفسي لماذا لا استغلها؟ وفعلت... ولما لا؟
نعم... ساعدت الثورة الكردية ضد حكومة بغداد... كان ذلك رداً على ما قاموا به... لماذا اداري ما فعلت إذا كنت قد فعلت وإذا كنت مقتنعاً بالأسباب التي دعتني إلى فعله(5). من الواضح انني لم أكن ارغب في بعث المسألة الكردية فلدينا أقلية كردية كبيرة في إيران لكنني اردت ان اصفع الحكومة العراقية في بغداد على وجهها لقد كلفتنا عملية كردستان (300) ثلاثمائة مليون دولار(6).

         

شاه ايران وبالرغم من نرجسيته و اعتداده بنفسه الا انه كان يتحرج من لقاء (مصطفى البارزاني) يوم 11 آذار 1975 وهو يعد العدة لهذا اللقاء الذي كان يشعر فيه بضعف موقفه الذي اتسم بالغدر و التجرد من القيم الاخلاقية والانسانية أمام هذا الرجل وشعبه لذلك ظهر بمظهر يختلف عن الحالات السابقة والتي كان فيها مرناً ولطيفاً في سلوكه وتصرفه على عكس اللقاء الذي استعد له ولجأ فيه الى العامل النفسي ليتغلب على خجله من ما فعل ولكي يفرض إرادته ويجبرهم بقبول الأمر الواقع ويختصر زمن اللقاء لأدنى حد لينطق بالكلام القليل الذي يقال في هكذا موقف من تصرف سيء نفذه وانتهى دون أن يترك مجالاً لحديث الطرف الآخر حينما خاطبهم غاضباً: "اقول لكم ما هو قراري ولا مكان للجدل او المناقشة"(7).

                     


وفي مذكراته يقول وزير البلاط (أسد الله علم) عن لقاء الشاه مع (مصطفى البارزاني) والوفد المرافق له ما يلي: " وجدت جلالته في مزاج أفضل عما كان عليه البارحة السبب بسيط بالأمس بعد الظهر كان قلقاً لمقابلة (مصطفى البارزاني) الزعيم الكردي، طبيعي أن يشعر بالحرج الى حد ما لمقابلة الرجل وجهاً لوجه، رغم أن الكرد كانوا سيتلقون الهزيمة منذ وقت طويل لو لم يكن هناك دعم منا... هناك حوالي (100) مدفع ميداني اضافة الى ما لا يحصى من صواريخ سام المضادة للدبابات، كلها تحت إشراف إيراني في كردستان. وما لم يكن هنالك فرصة لإعادتها في الوقت المحدد. ينبغي تدميرها بأقرب وقت ممكن.
إن الرأي العام العالمي يتهموننا بالخيانة، لكنهم لا يفكرون ولو للحظة كيف كانت ستكون عليه حالة الاكراد بدون الدعم الايراني وفي كل الاحوال فكرة كردستان المستقلة ليست في صالحنا"(8).

       

                            محمود عثمان

واخيراً وفي سبيل الإلمام بكل ما دار في هذا اللقاء وما تسرب من حقائق تجبرنا على العودة واللجوء الى ما يذكره (محمود عثمان) هنا وهناك بين الحين والحين من خلال مذكراته ولقاءاته مع وسائل الإعلام المختلفة بشكل مسهب أو مقتضب لكونه الراوي الاساس في الافصاح عن ما دار وقيل في هذا الاجتماع حيث لم تصدر من زعيم الثورة الكردية (مصطفى البارزاني) اي تصريحات بهذا الشأن كما وان التصريحات التي صدرت من (مسعود البارزاني) و(محسن دزئي) كانت لا تحوي الا النذر اليسير من المعلومات المقتضبة بالإضافة إلى عدم تأكيدهما أو نفيهما لما ذكره (محمود عثمان) وننقله في ما يأتي حرفياً: " عندما أبلغ الشاه البارزاني من ان اتفاقية الجزائر تلزمه اي الشاه بقطع مساعدات إيران عن الثورة الكردية وكذلك كل المساعدات التي كانت تأتيها عن طريق ايران... الخ واراد ان يعرف رأي ورد فعل البارزاني حول هذا وماذا سيفعل؟ كان جواب البارزاني باختصار ما يلي: "نحن شعبك وما دمت راضياً عن اتفاقية الجزائر وتؤمن مصالح إيران التي هي وطننا الأم لا يوجد لدينا ايضاً شيء ضدها ونحن رهن اوامرك إذا قلت لنا موتوا نموت او عيشوا نعيش. لقد كنا مخلصين لك ولا نزال وسوف نبقى هكذا في المستقبل أيضاً ونعمل ان تستمر رعايتكم لنا ولقضيتنا دوماً...الخ"(9) 

نستطيع التأكيد بأن كلام (مصطفى البارزاني) مع الشاه بالمعاني والدلالات التي ذكرها الدكتور (محمود عثمان) ان صحت فإنه ربما قالها اتقاءً لشره ونواياه التي لا يحمد عقباها إن هو تحدث معه بحدة وامتعاض واعتبار الاتفاق الذي وقعه مع (صدام حسين) لا يعنيه وليس ملزماً بتنفيذه لاسيما والشاه وهو في اوج قوته ومكانته من خلال دور ايران السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة جعلته يشعر بالغرور والعنجهية والاستبداد ولا يستبعد إتيانه بأي تصرف احمق تجاهه بعد أن قام بهذا العمل دون التشاور مع اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية التي كانت صاحبة المبادرة في الايعاز اليه بمد يد العون للحركة الكردية واللتان تقبلتا ما حصل على انه امر واقع والمصالح المشتركة بينهما من السعة والأهمية بحيث بدت التضحية بالحركة الكردية امر لا يستحق الاهتمام وبهذا الخصوص يذكر (مسعود البارزاني): " كان قلقنا الأعظم منصباً على سلامة (البارزاني) واحتل تفكيرنا جميعاً قضية عودته فما كنا نستبعد قط من الشاه واجهزته ان تحول دون عودته واحتجازه في إيران أهون ما كنا نخشاه وأعظمه هو الاعتداء على حياته"(10).
في الثاني عشر من آذار 1975 عاد (مصطفى البارزاني) الى العراق والى مقر القيادة الكردية ولم يكن قد فقد الأمل تماماً معولاً على اتصالاته مع الأطراف الخارجية وأصدقاء الثورة الكردية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية والضغط المؤمل أن يمارسه اللوبي الاسرائيلي على حكومتها وثقته في ان الاتفاق الايراني مع العراق تراجع مؤقت عن الأهداف الكردية وان الاوضاع ستسير على أفضل ما يرام(11) بالإضافة الى كونه كان عاقد العزم على مقاومة المؤامرة ومواصلة القتال بالاعتماد على الإمكانات الذاتية للشعب الكردي وكان معه في قراره جميع اعضاء الحركة الكردية دون معارض في تفضيل هذا الخيار على الخيارين الاخرين في الاستسلام الى السلطات العراقية والاستفادة من العفو العام او الالتجاء الى ايران ورغم كل الاستعدادات التي كانت تجري على قدم وساق لإدامة وزيادة زخم المعركة واعادة تنظيم سياقات وأسلوب ممارسة العمليات القتالية بما يتلائم والوضع الذي استجد بعد إبرام هذه الاتفاقية إلا أن البارزاني كان يعتقد صعوبة او استحالة ذلك من الناحية العملية وقد وافق على الاستمرار في القتال خلال الاجتماعات التي عقدت تماشياً مع رأي الاغلبية الذين اتخذوا ذلك القرار بتأثير الصدمة النفسية التي أحدثها اتفاق الجزائر الا فإنه كان قد قرر إنهاء الثورة منذ أن كان في طهران لإدراكه بان ما حصل في الجزائر انما هو مؤامرة او صفقة دولية لا قبل للثورة الكردية على مواجهتها وان الاستمرار في القتال يعني حشر الثورة وقواها المسلحة وجماهيرها بين فكي كماشة النظامين العراقي والايراني(12).
واستعداداتهما الجدية في تنفيذ بنود الاتفاقية و تخلي الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل عن وعودها في مساندة الحركة وبشكل فوري دون إبطاء تزامناً مع الإجراءات التي اتخذتها ايران في سحب قواتها واسلحتها وغلق حدودها وعدم اكتفائها بما يخص من إجراءات ضمن الاتفاقية بل تجاوزت ذلك من خلال استدعاء أحد كبار رجال السافاك الإيراني لمسؤول الموساد في طهران الى مكتبه والطلب منه بإخراج جميع رجالها من كردستان العراق مدة أقصاها حتى الحادي عشر من آذار إلا أن هذه الاحداث المتلاحقة والسريعة في وقعها تركت (مصطفى البارزاني) يصاب بخيبة الامل والاحباط جعلته يردد: "اخشى من اجتماع كل معدومي الضمير هؤلاء، علينا ان نبقى وحدنا في الميدان و ان يؤدي ذلك الى التطويح بقضيتنا وتصفية شعبنا، وانا شخصياً وقد بلغت من العمر عتياً لم تعد سني تساعدني على حرب الانصار التي تقتضي سرعة الانتقال من جبل الى جبل ليل نهار، لذلك رأيت ان مواصلة القتال ليس من مصلحتنا ولا ضير في أن يتأخر كفاحنا فترة من الزمن ولابد من تحن فرصة اخرى للشعب الكردي لاستئناف نضاله وان كان هناك من يقوى على تسلم قيادة حرب الانصار الان فانا على استعداد لبذل كل مساعدة له"(13).
وهكذا بعد ان يأس زعيم الحركة الكردية من اية حلول وبأي مستوى يعوض عن الاستسلام لاسيما بعد ان لجأت اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني لاتخاذ قرار لم يكن محل ارتياح (البارزاني) ونجليه (إدريس) و(مسعود) يقضي بمفاتحة الحكومة العراقية لغرض التفاهم معها الا ان الغطرسة والغرور والتشفي جعلت السلطة في بغداد ترفض هذا العرض وتصفه بالحصان الخاسر وما على الحركة الكردية الا الاستفادة من قانون العفو العام والعودة إلى الصف الوطني حيث لم تعلن أي دولة او جهة رسمية تأييداً او عطفاً للحركة حينذاك وفي مساء يوم 19/3 اعلن (مصطفى البارزاني) انهاء الثورة والانسحاب الى ايران كما وأنه في مساء اليوم التالي قطعت إذاعة صوت كردستان العراق المركزية برامجها قائلة بانها ستتوقف عن البث لأسباب قاهرة مع تعميم برقية (البارزاني) والمكتب السياسي والمكتب التنفيذي بأن الثورة قد تعرضت الى مؤامرة دولية مما بات من المستحيل استمرارها(14).
قرار البارزاني بين الخطأ والصواب
مما لا شك فيه من أن انهيار الحركة الكردية لم يكن وليد اتفاقية الجزائر لوحدها اذ لولا قرار زعيمها (مصطفى البارزاني) بإنهاء الثورة على ضوء الأسباب الخارجية والداخلية والشخصية التي استند عليها في اللجوء لاتخاذ هذا القرار لاستحالة الاستمرار والحيلولة دون إبادة الشعب الكردي والذي انقسم بين مؤيد ورافض لهذا القرار وكل طرف يبرر صدق وجهة نظره والأسانيد والحجج المختلفة وندرج هنا رأي أحد الرافضين لقرار إنهاء الحركة وهو رئيس الحزب الشيوعي العراقي السابق (بهاء الدين نوري) والاغلبية من الذين رفضوا قرار زعيم الثورة الكردية يتفقون معه حيث يذكر نصاً: " كان الملا (مصطفى البارزاني) شخصياً يوصفه الزعيم الاوحد للحركة الكردية المسلحة آنئذٍ دوره الخاص ومسؤوليته الشخصية المتميزة بل الاساسية بقدر ما يتعلق بتحديد موقف الجانب الكردي إزاء ما يحدث وهو كان صاحب الكلمة الحاسمة وكان في مركز يؤهله لا يقبل أو يرفض ما طبخ ضد الشعب الكردي، وقد قبلها مع شديد الاسف الاستسلام المذل فأصبح شاء ذلك أم أبى جزءً من الصفقة المبرمة التي عززت نظام البعث العفلقي، ذلك لانه اوقف القتال فور إعلان الاتفاق ونفذ رغبة الشاه وشجع أتباعه على الاستسلام للسلطة، في وقت كان باستطاعته أن يواصل القتال بما كان في حوزته من رجال ومال وسلاح وعتاد ومن تأييد شعبي كبير، من المؤكد أن عدد مسلحيه كان يتقلص لدرجة كبيرة وان صعوبات جدية كانت تعترض طريق النضال القومي التحرري للشعب الكردي، غير ان النتيجة كانت تنتهى الى وضع افضل والتضحيات اقل بالنسبة للجماهير الكردية، وحتى اذا كان يجد نفسه متعباً او عاجزاً عن مواصلة الكفاح المسلح بسبب كبر السن والوضع الصحي فانه كان قادراً ان يوجه بيان الى الشعب الكردي يستنكر فيه موقف نظام الشاه ويدعوا ابناء الشعب الى تدارس الوضع ومواصلة الكفاح ويعلن انه مضطر الى ترك الساحة الساخنة لاسباب اضطرارية، فالانصياع لمشيئة الشاه وللاوساط الغربية في اذار 1975 كان اكبر خطأ سياسي وعسكري ارتكبه (البارزاني) طيلة عمره، وكان خطأً جسيماً لقادة البارتي وكل الحركة القومية الكردية أن التزموا الصمت تجاه ما حدث وخضعوا جميعاً لما قرره او اوصى به البارزاني، وقد ادرك الكثيرون من هؤلاء خطأهم هذا، ولكن بعد فوات الاوان بعد مرور سنة او اكثر على النكسة(15).
لم تكد تمضي الا اشهر قليلة على إبرام اتفاقية الجزائر وانهيار الحركة الكردية إذ ظهرت دلائل ومعطيات تؤكد مصداقية الداعين الى الاستمرار في القتال وعدم الاستسلام لبنود اتفاقية الجزائر حيث شكلت احزاب كردية عديدة جديدة في نفس عام 1975 ومن أبرز هذه الأحزاب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة الاشتراكية الكردستانية وتوالت بعد ذلك تشكيل احزاب اخرى واستمر وجودها السياسي والعسكري بالرغم من سريان بنود الاتفاقية وبقاء الشاه في حكم ايران، وبعد ذلك في ظل الجمهورية الإسلامية ولحين سقوط النظام العراقي في 4/9/2003 من قبل دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وفي هذا الصدد يذكر من أنه بعد انتهاء الثورة الكردية ولجوء (إدريس ومسعود البارزاني) الى ايران قد ابديا ندمهما على عدم ابقاء أحدهما لمواصلة القتال في كوردستان و الاستمرار في حرب العصابات دون اخلاء جميع المناطق من قوات البيشمركة ورمي الاسلحة(16).
وهنا يتحدث (محمود عثمان) ويذكر بانه لم يكن مع ايقاف القتال وإنهاء الحركة الكردية بل العمل على تغيير نمط واسلوب القتال الى حرب عصابات ومن خلال الاستمرار والمقاومة ستجعل الحكومة العراقية تتراجع عن تنفيذ اتفاقية الجزائر مادامت لم تحقق نهاية لهذه الحركة وهذه الخطوة ستؤدي بالتالي الى عودة التوتر الى العلاقات بين العراق وإيران وعودة الاوضاع الى سابق عهدها (17).
وعندما نتحدث عن موقف الداعمين و الرافضين لقرار إنهاء الحركة وتصفيتها لا بد أن نشير إلى موقف القيادي البارز في الحركة (صالح اليوسفي) الذي لم يكن مع خيار الحرب في عام 1974 مع الحكومة العراقية بالرغم من كونه كان يعتبر مشروع قانون الحكم الذاتي المقدم من قبل حزب البعث ناقصاً ولا يعبر عن جوهر الحكم الذاتي الحقيقي إلا أنه كان يعتبره خطوة إيجابية يمكن تطويرها في المستقبل كما ان الاعتراف بوجود القومية الكردية كقومية ثانية في العراق هو مكسب لا يجب الافراط به في حين أنه كان مع خيار الحرب وضد قرار الاستسلام وإنهاء الحركة في عام 1975 وفي هذا الصدد يقول:

  

صالح اليوسفي في حاج عمران اثناء مفاوضات السلام ١١- آذار -١٩٧٠

" قاتلنا عندما لم يستوجب القتال ولم نقاتل عندما كان مستوجباً ذلك". القيادي (صالح اليوسفي) انتقل مع جميع قيادة الحركة الى ايران بعد قرار إنهائها ومن هناك وبعد أخذ موافقة البارزاني في العودة الى العراق والطلب منه على تحرير الاسير لدى الحركة الكردية الملازم أول (يعقوب عبد الكريم) حيث سلمه اليوسفي رسالة شخصية منه إلى القيادة العراقية معرباً فيها عن استعداده للحضور الى بغداد والتفاوض مع الحكومة العراقية، بعد أيام قليلة وردت برقية جوابية بتوقيع اللواء الركن (عبد المنعم الربيعي) قائد فرقة المشاة الثامنة يعلن فيها استعداده لاستقبال اليوسفي الذي اجتمع مع البارزاني قبل أن ينطلق صبيحة يوم 21/3/1975 متوجهاً الى الاراضي العراقية وبرفقته حارس شخصي واحد طلب منه العودة عند اقترابه من مواقع القوات العسكرية العراقية وبقي وحده يتابع السير لحين وصوله الى احدى وحدات الجيش في منطقة ديانا(18) وبعد التعريف عن نفسه تم استقباله وتأمين ايصاله الى العاصمة بغداد

     

حيث تم حجزه في فندق بغداد ورغم طلبه عدة مرات مقابلة رئيس الجمهورية (احمد حسن البكر) او نائبه (صدام حسين) لكنهم لم يسمحوا له بذلك الا انه التقى العديد من المسؤولين الحزبيين و الحكوميين والذي استلم منهم اخيراً الجواب النهائي من القيادة العراقية وقيل له انه من (احمد حسن البكر) شخصياً وذلك بانهم يعتبرون أن ((التمرد الكردي قد انتهى واصبحوا لا يعترفون بعد الان باي ممثل عن القيادة المهزومة!))(19).
رفع الحجز عنه وأعيد الى مسكنه مع عائلته محجوزاً فيه تحت الإقامة الجبرية والمراقبة الامنية والتي استمرت لمدة سنة واحدة وفي أيار 1976 قام بتأسيس الحركة الاشتراكية الديمقراطية الكردستانية وليس من المستبعد ان تكون الاجهزة الامنية للنظام قد رصدت تحركاته ونشاطه السياسي المعادي لها من خلال زرع احد المتعاونين معها للعمل معه بعد التحقق من متانة علاقته وثقته به وقيام هذا العميل بالكشف عن نشاطاته السياسية التي كان يمارسها في المكان الخطأ من العاصمة العراقية بغداد مع القاعدة الجماهيرية لحركته في كردستان، تم اغتياله في طرد بريدي ملغوم بتاريخ 25 حزيران 1981 ووجهت اصابع الاتهام الى مديرية الامن العامة.
بعد انهيار الحركة الكردية وعودة المرتبطين بها برزت ظاهرة محاولة البعض منهم للتقرب من الاجهزة الامنية المختلفة والتبرع لتقديم خدماتهم وافراغ ما بجعبتهم من معلومات واسرار عن نشاطات وعلاقات الحركة ومسؤوليها وكوادرها طمعا في المكاسب المعنوية أو المادية من خلال محاولة تغيير ولائهم السياسي للسلطة مع عدم استبعاد وجود هذا النمط من الأشخاص في صفوف الحركة قبل انهيارها وحتى بعد تأسيس الأحزاب الكردية الجديدة وفي اوج نشاطها السياسي والعسكري في ثمانينيات القرن الماضي ضد السلطة معاصرة مع الحرب العراقية الايرانية وكانت دوائر الاجهزة الامنية ( الامن العامة، المخابرات العامة، الاستخبارات العسكرية) تقوم بزرع عملائها في صفوف هذه الاحزاب او شراء ذمم الموجودين اصلاً في صفوفها فيقومون بالكشف عن المتعاونين مع هذه الأحزاب في المدن والقصبات و يطالهم الحساب القاسي و العسير.

هوامش الفصل الثالث /
1- مسعود البارزاني/ البارزاني والحركة التحررية الكردية/ ص345
2- محي الدين محمد يونس/ الحياة حكايات/ اتفاقية الجزائر بين الربح والخسارة/ ص9
3- محسن دزئي/ احداث عاصرتها/ ص297
4- لقاء الدكتور محمود عثمان مع الإعلامي الدكتور حميد عبدالله في برنامج شهادات للتاريخ في 28 كانون الأول 2019
5- محمد حسنين هيكل/ زيارة جديدة للتاريخ/ ص344
6- شلومو نكديمون/ الموساد في العراق ودول الجوار/ ص301
7- صلاح الخرسان/ التيارات السياسية في كردستان العراق/ ص230
8- أيوب بارزاني/ الحركة التحررية الكردية وصراع القوى الإقليمية والدولية 1958-1975/ ص505
9- محمود عثمان/ تقييم مسيرة الحركة الكردية وانهيارها والدروس والعبر المستخلصة منها/ ص104
10- مسعود البارزاني/ المصدر السابق/ ص353
11- شلومو نكديمون/ المصدر السابق/ ص306
12- صلاح الخرسان/ المصدر السابق/ ص232
13- مسعود البارزاني/ المصدر السابق/ ص347
14- علي السنجاري/ القضية الكردية وحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق الجزء الثالث/ ص122
15- بهاء الدين نوري/ مذكرات/ ص326
16- شكيب عقراوي/ سنوات المحنة في كردستان/ ص416
17- برنامج شهادات للتاريخ/ نفس المصدر السابق
18- ناحية ديانا كانت تابعة لقضاء راوندوز
19- شامل عبد القادر/اتفاقية الجزائر والاسرار الكاملة لانهيار الحركة الكردية المسلحة في اذار 1975/ ص68

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/maqalat/46654-2020-11-06-17-42-21.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1215 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع