الرصافي والادب التركي

                                              
معروف عبد الغني الرصافي شاعر في غنى عن التعريف عاش ابيا كريم النفس عزيزا عفيفا لم يمدح الانكليز ولم يمد يده الى من احتل وطنه رغم فاقته وقصر يده ولم يكن متذبذبا بل كان وطنيا صادقا قولا وعملا غيورا لبلاده  وبهذا نرى انه اليوم خالد باعماله وتمثاله شامخ كشموخ الشمس ولم تمسه يد الغدر في عصر انعدم فيه الامن والامان  وكالجبل الاشم في احدى ساحات بغداد يشار اليه بالبنان .

تأثر الشاعر كثيرا ًبشعراء وادباءالترك، واول من تطرق في هذا الموضوع من الباحثين العراقيين الاستاذ عطا ترزي باشي فقد نشر في مجلة الاخاء التركمانية بحثين هما بعنوان ( الرصافي وعاكف وفكرة واليتيم في العيد ) والثاني ( الرصافي في كتابه تمائم التعليم والتربية ) وقد اثبت الاستاذ ان كتاب الرصافي المشار اليه مترجم ترجمة حرفية من اثار شعراء الترك قلبا ً وقالبا ً وليس هو من بناة  فكره او تأليفه .

    
كان الشاعر  دائم السفرالى اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية آنذاك  ويحب الاقامة فيها ويتردد كتيرا الى منطقة (به ى اوغلو) المعروف اليوم بشارع استقلال(ISTIKLAL CADDESI) في منطقة تقسيم وهي مركز تجمع الاذباء والشعراء والفنانين وكان كثير الاطلاع على اثارشعراء الترك وبالاخص اثارالشاعرين الوطنيين  نامق كمال وتوفيق فكرت و قد تاثر كثيرا بالثاني لكونه رائد مدرسه حديثة في الشعرالتركي  وهي مدرسة. ثروة فنون وكان الشاعربجيد اللغة التركية اجادة تامة ولاعجب  من  ذلك لان اسرته  تنتمي الى عشيرة علوية  في محافظةكركوك.وانه ترجم رواية رؤيا للشاعر نامق كامل الى  العربية وطبعها في 1909م ببغداد.ثم انه الف كتاب( دفع الهجنة في  ارتضاخ اللكنة)  يذكر فيه الكلمات العربية المستعملة في اللغة التركية ومحل استعمالها وطبع الكتاب في الاستانة سنة 1331 هـ .
كلنا يعلم ان علم العروض هو ملك العرب وانه انتقل الى الترك عن طريق الفرس فهو ليس من ابتكاراتهم الا ان الاتراك لم يضعوه على شاكلتة بل طوروه بحيث جعلوه منسجما مع طبيعة شعرهم الا ان بعض من شعراء العرب لم يتخلوا عن هذا عندما رأوا بان العروض المستعمل في الشعر التركي ذو تركيب جيد أخذوه مرة ثانية وطبقوه على شعرهم وان تطبيق العروض التركي إن صح التعبير على شعر العرب في غاية البساطة اذا علمنا ان العروض هو وزن العرب الخاص في الشعر خصوصا في ذلك القرن أي اصبح قاعدة الاخذ والعطاء شيئا اعتياديا ومن المتأثرين بالعروض التركي الشاعر معروف الرصافي اذ كتب قصيدته الجميلة المعروفة مطلعها :
سمعت  شعرا   للعندليب       تلاه فوق الغصن الرطيب
اذ قال نفسي نفس الرفيعة     لم تهو إلا حسن الطبيعة
ولو قطعنا هذا البيت نجد بان كل شطر منقسم الى تفعيلتين ((مستفعلاتن مستفعلاتن)) وهذه التفعيلة غير موجودة في وزن العرب بل هي من مبتكرات الاتراك كقول الشاعر توفيق فكرت
      الله اكبر  الله اكبر    بير صمت علوي گويا طبيعت
معناه الله اكبر الله اكبر كأن هذه الطبيعة صمت رباني :

انظر تقطيع كلمة الله اكبر هو مستفعلاتن .

         

الشيئ بالشيئ يذكر كما يقال احببت ان اذكر هنا شيئا ذا علاقة بهذا الموضوع ان الشاعرة الكبيرة الفاضلة نازك الملائكة ذكرت في مقدمة ديوانها (( يغير ألوانه البحر)) انها ابتدعت بحرا جديدا غير مستعمل في الشعر العربي اضافت الى بحور الشعر الحر ووزن هذا البحر في اصله العروضي مستفعلن فاعلن فعولن وهو الوزن الذي يسميه العروضيون ب((مخلع البسيط )) وقد لاحظت فجأة ان من الممكن تقسيم هذا البحر الى تفعيلتين في الشطر الواحد بحيث تصبح مستفعلاتن  مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن ثم تستدرك قائلة ولا شيئ ادافع به عن نفسي الا كون هذا الوزن ابتكارا مني ولم يستعمله الشعراء قبلي وذكرت الشاعرة في نهاية الديوان حفظا للامانة العلمية بانها كانت في طفولتها تغني نشيدا من نظم الرصافي
سمعت شعرا للعندليب       تلاه فوق الغصن الرطيب
اذ قال نفسي نفس الرفيعة   لم تهو الا حسن الطبيعة
ثم تحيطنا علما بما اثير في زمانه على صفحات المجلات العراقة حول وزن هذا الشعر لكونه خارجا على المخلع البسيط وقد ادعى بعضهم بانه مستفعلاتن وقد ناقشت الشاعرة في وقتها هذا الوزن بين تلامذتها واخبرتهم بان مستفعلاتن المصابة بعلة زايدة لا ترد لدى الخليل في حشو البيت مطلقا فذلك التقطيع خطأ مخالف لنهج العروضيين ثم تواصل كلامها قائلة والحقيقة ان الرصافي رحمه الله فتح لنا بابا جميلا بالخروج الذي وقع فيه وهو يستعمل وزن المخلع البسيط مستفعلن فاعلن فعولن واني اقول لعله ليس خروجا ؟! لعل الرصافي تعمده لان له وجهة نظر معينه في وزن المخلع البسيط..

اما قول الشاعرة نازك الملائكة بان التفعيلة المصابة بعلة زائدة لا ترد في حشو البيت فهذا صحيح في عروض العرب اما عند الاتراك فان كل طارئة تطرا على العروض والضرب من زحافات وعلل تطرا كذلك في الحشو .
المعروف بان وزن الرمل التام في شعر العرب هو فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن في كل شطر ولا يستعمل ابدا اربع تفعيلات الا انه عند الاتراك هو اربع تفعيلات  والتفعيلة الاخيرة تكون محذوفة أي ثلاث تفعيلات + فاعلن وقد قلد الشاعر معروف الرصافي الاتراك في نظمه قصيدة (( النشيد الوطني)) مطلعها
نحن خواصو غمار الموت كشافو المحن 

                               ما لنا غير اكتساء العز او لبس الكفن
 
فلنسمع جميعا ما يقول محقق ديوان الرصافي وراويته الاستاذ مصطفى علي حول هذه القصيدة:
حدثني الشاعر عن سبب نظمه هذا النشيد فقال لما اعلن الدستور العثماني وضع له وديع صبرا الموسيقار اللبناني نشيدا وطنيا وطلب الى الشاعر التركي (( توفيق فكرت )) ان ينظم لالحانه شعرا بالتركية ففعل ثم اراد بتلك الالحان شعرا بالعربية فرجع الى مترجم الالياذة سليمان البستاني وكان اذ ذاك من وزراء الدولة واتفق ان زار شاعرنا سليمان البستاني في داره فرأى وديع صبرا يطلب اليه وضع شعر لالحان نشيده فلما دخل الشاعر احال البستاني
 صبرا بذالك عليه فقبل هذه الحوالة . نظم له هذه الابيات وصار شبان العرب في الاستانه ينشدونها بالحانها البديعة الرائعة ( الديوان ج 2 )  .
قلنا في بداية الحديث ان الرصافي ترجم رواية الشاعر التركي نامق كمال (( رؤيا )) الى العربية وقد قلده كذلك في قصيدته ((رؤياي الصادقة )) والتي مطلعها .
      حياكم الله ايها العرب       فاستمعوا لي  فقصتي عجب
فاقتبس مضمون هذه القصيدة من تلك الرواية ... ثم انه ثاثر به في معالجته لمواضيع الحرية والوطنية والحنين الى وطن ضائع وقد لقب نامق كمال بشاعر الوطن كما لقب كذلك الرصافي شاعر الوطنية وبهذا يقول الرصافي في قصيدته :
كان لي وطن ابكي لنكبته       واليوم لاوطن لي ولا سكن
ولا ارى في بلاد كنت اسكنها   الا حثالة ناس قاءها الزمن
بينما يقول الشاعر نامق كمال :

ما هذا المسمى وطن ... الا وفيه حثالة ناس ... فبعضهم حشاش ومنهم سكارى وبهذا تاخرنا عن ركاب التقدم .
كما تاثر الرصافي بمواضيع الحق والقوة والظلم والاستبداد بالشاعر توفيق فكرت حتى انه ترجم بعض قصائده الى اللغة العربية وما قصيدته في مطبخ الدستور مطلعها .
كلوا ايها السادة          كما تنكره العادة
كلو من مطبخ الدستور  اكل السادة القادة
وما هذه القصيدة الا ترجمة غير موفقة لقصيدة (( خاني ياغما )) أي مائدة الفرهود للشاعر توفيق فكرت وبهذا يقول الاستاذ مصطفى علي في شرحه هذه القصيدة انها ترجمة بتصرف عن التركية للشاعر توفيق فكرت .
كان الرصافي بسبب اطلاعه الواسع على اللغة التركية وشواردها اقتبس كثيرا من مضامين الشعر ومفاهيمه وقد تاثر كذلك بالاديب السياسي المعروف سليمان نظيف وقصيدة ((نواح دجلة )) مطلعها
هي عيني ودمعها نضاح        كل حزن لمائها يمتاح
كيف لا اذرف الدموع  وعزي    بيد الذل هالك مجتاح
جواب وبكاء للشاعر سليمان نظيف وبهذا يقول الاستاذ مصطفى علي محقق الديوان قالها ((أي الرصافي )) وبعد ان احتل الجيش الانكليزي بغداد اثناء الحرب العالمية الاولى جوابا عن قصيدته للشاعر التركي الشهير سليمان نظيف وعنوان قصيدة سليمان نظيف (( دجلة وبن )) معناه انا ودجلة فيقول في قصيدة طويلة
يا دلالا ... يا مليكة العراق ... اذا بقينا بدونك في الدنيا لا نرتضي العيش  مع هذا العمر الذليل ... بل وحتى الجنة لا نبتغيها

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

830 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع