الى أين هذا العصاب النفسي العربي؟

                                          

                        د. علي محمد فخرو

للفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشة قول معبر وهو «ان مرض الجنون نادر عند الأفراد، ولكنه هو القاعدة عند الجماعات والأمم وحقب التاريخ»، والواقع أن المتابعة المتأنية الموضوعية للكثير مما يحدث يوميا في مشهد ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي يذكر الانسان بذلك القول المتشائم ما لم يراجع نفسه.

قد لا يكون المشهد قد وصل أغلب لاعبيه الى مرحلة فقدان العقل ذاك، لكن من المؤكد أن أعراض ما يعرف بالعصاب النفسي في علم النفس أصبح منتشر في كل مكان، ومع أن هناك أنواعا عديدة من العصاب النفسي الا أن المشهد المجتمعي العربي يزخر بأهم دلالتين لوجود ذلك العصاب وهما القلق المبالغ فيه والخوف الذي لا مبرر له.
أما القلق المبالغ فيه فيقرأه الانسان يوميا أو يستمع اليه عبر شاشات الفضائيات في شكل بكائيات وتشاؤم وفقدان أمل ينشرها من لم يقرأوا التاريخ الانساني بعمق أو من ليس لديهم على ما يظهر المام بطبيعة العمل السياسي وحدود الحراك في الساحات، ولذلك يبالغون في تقييم حجم ووزن الأخطاء التي لا شك أنها ترتكب في الحياة السياسية في أقطار ما بعد الثورات والحراكات، قلقهم المبالغ فيه يدفعهم لاعتبار الأخطاء كوارث غير قابلة للتصحيح، ومن حيث يدرون أو لا يدرون يدخلون الجماهير العربية في ثلاجة اللامبالاة وفقدان الأمل أو جحيم الكفران بامكانات الشعوب والمجتمعات.
ومع أن الثورات والحراكات العربية قد كسرت حواجز الخوف التاريخية عند الانسان العربي ونجحت في تحقيق ذلك في أيامها الأولى، خصوصا بالنسبة للخوف التاريخي من السلطان وسطوة سلطاته الاستبدادية، الا أننا نشاهد الآن صعود لغط خوف عصابي غير منطقي بشأن ما سيأتي به المستقبل من جهة وبشأن طبيعة ما تتطلبه المرحلة الانتقالية الحالية من تجارب تنجح أو تفشل ومن محاولات مستمرة مكلفة ومجهدة لنفض غبار تخلف القرون ولفتح كوة نور في عالم الظلام الذي عاشته الأمة سنين طويلة.
لسنا نخاف من العصاب النفسي ذاك، فمثلما عند الأفراد فانه أيضا قابل للعلاج والشفاء عند الجماعات والمجتمعات، لكننا بالفعل، ان طال الأمد وترسخت تلك الأعراض، نخاف أن ننتقل ذهنيا وتصرفا الى مشارف الجنون عندما يتحول القلق والخوف الى أوهام وهذيان وهلوسة، مثلما يحدث ذلك عند الأفراد فانه قابل لأن يحدث في المجتمعات، يكفي أن يطل الانسان على مشهدي ما يحدث الآن في سورية والعراق، كمثلين، ويستمع لما يقوله المتصارعون حتى يقتنع بأن الهذيان والأخيلة المريضة وهلوسات المجانين قد أصابت الغالبية الساحقة من الأطراف، الا من رحم ربي، وهم قلة معزولة لا حول لها ولا قوة، ألسنا نرى نيرونات بغداد ودمشق وهم يعزفون قيثاراتهم بينما العاصمتان تحترقان؟
لماذا هذا التوجس؟ لأن الساحة العربية تعج الآن بأعداد ليست بالقليلة من المفكرين والكتاب والمتحاورين والمفسرين والمجتهدين الذين يدفعون الناس والمجتمعات، من خلال نقد تشكيكي سطحي واستعمال لألفاظ السخرية والاستهزاء وقراءات فكرية مراهقة، نحو مربع العصاب الجنون ذاك، بعض هؤلاء ينتمون حتما لقوى الثورات المضادة التي تحارب كل تغيير وتجديد، وبعضهم من الذين لايستطيعون مع هذه الأمة صبرا.
دعنا نذكر أنفسنا بقول للطبيب النفسي الاسكتلندي المعروف، رد لانج، الذي كتب بأن «الجنون لا يقود بالضرورة الى الانكسار المدمر، اذ أنه أحيانا يقود الى كسر الحجب» الذي يقود الى الخروج من الأزمة، ذلك أن كثيرا مما أفرزته أحداث مابعد الثورات والحراكات ليس بالضرورة سيقود الى انكسار الأمة المدمر، فقد يقود الى انكسار الحجب التي كانت تحجب هذه الأمة عن رؤية موجبات النهوض من عثراتها التاريخية المزمنة.
لكن كسر تلك الحجب مازال ينتظر فعلا سياسيا يحيد الأصوات النشاز المتكالبة على عقل وروح الأمة ويقنع الانسان العربي، ومن بعده العالم كله، بأن ثورات وحراكات الربيع العربي كانت مدخلا لتغييرات كبرى رائعة مبهرة.
كسر تلك الحجب لن يتم بحجم تاريخي على مستوى كل قطر ولا على مستوى هذا الفريق أو ذاك ولا على مستوى هذه الامكانية الواعدة، ولكن المحدودة، أو تلك، لا بد له أن يكون على مستوى الوطن الكبير والأمة الواحدة والعمل الواسع الهادر المشترك.
نعود هنا الى ما كتب عنه الكثيرون عبر سنين طويلة: ضرورة بناء كتلة تاريخية من مؤسسات المجتمعات العربية المدنية غير الملوثة بالعلل والفساد والانتهازية ومن أنصار تلك الكتلة من الأفراد المستقلين العادلين في منطقهم ومواقفهم.
اذا كان شباب الثورات والحراكات يريدون أن يروا في حياتهم تحقق ذلك الحلم المتسامي بالحرية والعدالة والكرامة الانسانية، الذي مات من أجله أخوة لهم يستصرخونهم من قبورهم، فعليهم أن يعملوا من أجل ولادة تلك الكتلة التاريخية، بدون وجودها، كفاعل حقيقي في الحياة السياسية العربية، لن تجدي التجمعات في الساحات والمظاهرات في الشوارع، تستطيع هذه الأخيرة أن تهدم الاستبداد ولكنها لن تكون كافية لكسر الحجب وبناء المستقبل.
لن يهزم من يؤججون العصاب النفسي والجنون في طول وعرض الوطن العربي الا وجود تلك الكتلة المتراصة، وستكون لنا عودة الى موضوعها في الأيام القادمة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1132 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع