أحباء سكنوا قلب شيخ التراثيين العراقيين في سِفرٍ مميّز

                                                    

                               عباس العلوي

أحباء سكنوا قلب شيخ التراثيين العراقيين في سِفرٍ مميّز

                                             

جليل العطية غامس  بكل روحه بالتراث العربي / يحبه / يشمّه / يلمسه / يتعامل معه كربيب مدلل / ولذلك سهر عليه / تغنى به / وعامله بلطف وحب /  نفض الغبار عن كثير من أوراقه الجميلة / وانتشل كثيرا من كنوزه من الضياع والإهمال والنسيان / فأدخل الفرحة على قلب الحرف العربي / وبعث السرور في صدور الإباء الاولين لهذا التراث وهم في عالم الملكوت .  

شيخ التراثيين العراقيين ليس كاتب مذكرات / بل كاتب أفكار/ لايؤرخ للشخصية كما لو يدون دفتر أحوال مدنية / بل يؤرخ للشخصية باعتبارها كائن فاعل في  التاريخ / لأن التاريخ يصنعه النجوم / وعندما يكتب او يؤرخ  لصديق يحبه / انما بعنوان الحب العقلي / يلتقط  المواقف العميقة في حياة مترجمه / كمن يلتقط اللقى الأثرية من تحت الأرض ليعيدها الى خزانة التأريخ لتكون فخراً للشعوب .
أوردت هذه المقدمة لأدخل في مخطوط كتابه المقبل [ هؤلاء احببتهم ] يتحفنا بحكايات وطرائف جميلة نادرة عاصرها بنفسه / بعث فيها الحياة لعمالقة الفكر والادب والفن والتأريخ ممّن رحلوا عنا بالأمس القريب .
 آخر صرعة في عدسة الكاميرات . HD وإذا كانت تكنولوجيا
فمداد قلم شيخ التراثيين العراقيين في تصوير من احبهم كانت اكثر منها تطوراً وجمالاً ودقة !
براعة الوصف والحس الفني في التقاط الزوايا المتعددة / فاقت ريشة عمالقة فن التشكيل !
تألقه في < فن > ترجمة السيرة / يماثل بتهوفن في عزف سمفونياته الشهيرة !
في عبارته العميقة المركزة / يُذكرنا بكوكيس عوّاد / علي الوردي / طه حسين
طرائفه تذكرنا بالجاحظ وبرنادشو !
في عشقه لبغداد / يذكرنا < بالمصطفين > مصطفى جواد ومصطفى جمال الدين !

ــــ [ هؤلاء احببتهم ] موسوعة تراثية / أدبية / شعرية / لغوية / تاريخية / فنيّة / معطرة
بطرائف ونكت نادرة ـــ قلّ نظيرها ــ جمعتها ذاكرة قوية / تحمل لمسة حب ووفاء .
ــــ في هذا الأطار ادلى المفكر غالب الشابندر برأيه قائلاً :
[جليل العطية بكتابه هذا يعلمنا كيف نكتب عمن نحب / يفكر قبل ان يدون / يتأمل قبل ان يحكم / يجمع المدون ويجتهد في التصنيف والتأليف وترتيب العنوان والمستهل والعقدة والنهاية / احتراف مع جدية وإخلاص .
انطلق العطية في  سرد مذكراته من المدونة الشخصية المثبتة بلحاظ كونها اشتراط مُسبّق للتدوين الصحيح / وليس بلحاظ كونها رغبة في التعريف والبيان الساذج / فهو كاتب مذكرات بحرفية المؤرخ / بذلك جمع بين التاريخ كوقائع واحداث وبين التاريخ الحيوي الذي يهدف الى خلق قاريء متبصر / ومجتمع واع / يستفيد من تجارب فرسانه في الفكر والتاريخ والسياسة .
جولة سريعة فيما ارخه العطية تكشف لك عن حيادية يحسد عليها  / والقدر المشترك لكل شخصياته انهم من اعيان العراق / والعراق هو الحاضن لا غير / سواء كان المترجم له مسلم او مسيحي  او يهودي او كردي او عربي / فالحاضنة الوطنية /الخيمة التي تحمي وتضم الجميع .

 صحيح ان بعض الفقرات قد تنم عن  حب فيه شيء من فوران العاطفة / ولكن هذا من  حق العاطفة / هو ركن ركين في خلقة بني ادم لايمكن الفرار منها / ولكن الكاتب  الموضوعي هو الذي لا يدع للعاطفة هذه ان تطغي بمساحتها وفوارنها على حكم التاريخ المنصف  / فالعطيّة كاتب وفي / وكاتب موضوعي / جمع بين الوفاء والموضوعية / يفكر قبل ان يدون / يتأمل قبل ان يحكم / يجمع المدون ويجتهد في التصنيف والتأليف وترتيب العنوان والمستهل والعقدة والنهاية / احتراف مع جدية وإخلاص .
ميزة أخرى يتميز بها  قلم جليل / فهو ذاك القلم الذي تشرب مبادئ الدبلوماسية بحكم تاريخه السياسي/ وهو القلم الذي اصطبغ حبره بالتراث / وهو القلم الذي عاصر الاحداث الكبيرة في تاريخ العراق المعاصر / ولذلك يكتب بلغة الدبلوماسية وهو يترجم لنجدة فتحي صفوة / يكتب بلغة السياسي البارع عندما يكتب عن مير بصري / ويكتب بلغة القرية عندما يتعرض للشيخ الطريحي / وبذلك هو كاتب  متلون بعنوان الدربة النافذة  في عالم الكتابة / ولعله يذكرنا بمسرح توفيق الحكيم / وهو ينقد الريف بلغة الريف / وينقد المدنية المنحرفة بلغة المدينة / وينقد السياسة بلغة السياسىة ].

شيخ التراثيين العراقيين ــ في سِفرِه المميّزـــ استخدم قدراته الموسوعيّة العالية في اللغة / والأدب / والبلاغة / والفكر والأنطباع / والحس الفني .
كباحث متمرس ـــ نقلنا الى عالم آخر مازال غامضاً على الكثير منا / كالأمثال العربية والبغدادية < الأصل ــ المعنى ــ المناسبة ــ حكاية المكان > / ثم الى ظرفاء بغداد : كعبد الله الخياط / وعبد المجيد الشاوي / وعبود الكرخي < الشاعر > / ونوري ثابت < الصحفي ــ حبزبوز > / ثم الى صندوق اليعقوبي الزاخر بدواوين المع شعراء العراق خلال القرنين الماضيين / ثم يأتي الى مفردة القصاص والقصاخون في العراق ـــ التي تلاشت ظاهرتها اثناء الحرب العالمية الثانية / ثم يطرق طرائف الحديث التي تحمل في طيّاتها لمسات الحب والوفاء / نجد فيها [ كنى ] تليق بمقام كل واحد من عمالقة العراق  :

ـــ محمد علي اليعقوبي ـــ شاعر الخطباء
ـــ هاشم محمد الخطاط ـــ أمير الخطاطين .
ـــ عبد الغني الملاّح ـــ فيلسوف الأدباء .
ـــ نجدة فتحي صفوَة ـــ اديب المؤرخين .
ـــ مير بصري ـــ قارورة مسك عراقيّة
ـــ الشيخ محمد كاظم الطريحي ـــ ريحانة العراق .
ـــ عبد الرحمن التكريتي ـــ من محاسن العراق العراقيين .
ـــ عبد الحق فاضل ـــ سادن لغة العرب ــ وفي أخرى ــ درّة من مفاخر العراق .
 
باحثنا القدير / يتحدّث بلغة الأدب الرفيع والحب الكبير عن عمالقة العراق .
ـــ وضع الشيخ اليعقوبي على مسطرة الجاحظ حينما قارن بين الخطباء من أبناء عصره :
[ بأن كل شيىء للعرب فأنما هو بديهة وارتجال / وكأنه إلهام / وليست هناك معاناة ولا مكابدة .... وإنما هو أن يصرف همّه الى الكلام فتأتيه المعاني إرسالاً / وتنثال عليه الألفاظ إنثيالا ]
ـــ يعلق العطيّة على هذا المعنى [ إذا كان هذا الوصف ينطبق على أحد ممّن نعرف من خطباء القرن العشرين / فعلى الشيخ محمد علي اليعقوبي / الذي تذكرنا مجالسه ومواعظه بأبن الجوزي < 597 هجري > أشهر الخطباء في العصر العباسي ] .
ـــ وعن هاشم الخطاط قال [عندما نذكره يخطر في اذهاننا : ابن مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي وغيرهم من اساطين مدرسة بغداد للخط العربي / رحم الله أبا راقم / فلقد كان من  فلتات الدهر وعباقرة القرن العشرين ] .
ـــ وعن مير بصري يتحدث بحرقة قلب عن رجل وضع العراق بين احداق عيونه: [ قلة هم العلماء الأفذاذ والأدباء المتميزون الذين عاشوا لغيرهم / احبّوا وطنهم / اخلصوا له / وعندما اضطروا للهجرة / حملوا الوطن بين حنايا ضلوعهم وأحداق عيونهم / فعبّروا عن نتاجاتهم الإبداعيّة في مختلف الميادين  .. / ولم يثنهم ما لقوه من أذى وجحود من الأيمان بالتسامح / فسجلوه في اسفارهم ومؤلفاتهم التي تحولت الى مراجع لا يستغني عنها طالب او باحث ] .
ـــ وعن عبد الرحمن التكريتي قال : [ وددت ان أحيّيه بقلم من المسك والعنبر عوض الحبر!
/ رحم الله ــ أبا زهير ـــ فقد كان من محاسن العراق والعراقيين ].

بطريقة المؤرخ القدير / يتدرج في منهجية البحث يبدأ / بسيرة حياة مترجمه / ثم آثاره ومؤلفاته
 / وفي مسك الختام يسرد ذكرياته الخاصة ـــ من نكت وطرائف واخبار وأشعار جميلة / تشكل بذاتها إضافة تاريخيّة نوعيّة / ربما ستكون ــ يوم ما ـــ مصدرا مهماً في تراجم الرجال .
ـــ حكاية شيخ التراثيين العراقيين مع النكتة الأدبية التي ترسم البسمة العريضة / واضحة العيان كالشمس في رابعة النهار/ يؤكد لنا هذه الحقيقة بقوله :  [ نشأت في أسرة زادها الأدب والشعر / وتسليتها النكت والطرائف ] / ذكرني هنا برائعة الشاعر ابي تمام :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى   / ما الحب إلا للحبيب الأول
كم من منزل في الأرض يألفه الفتى  /   وحنينه ابداً لأول منزل

ـــ مسك ختام  بحثنا / واحدة من الطرائف الشعرية ـــ الفريدة في احداثها ـــ وردت في ترجمة الشيخ اليعقوبي رحمه الله ــ نذكرها باختصار لتؤنس القارئ .
عندما خرج الشيخ اليعقوبي مع مجموعة من الأدباء والأعلام من مجلس [ الرابطة الأدبيّة ] في آخر الليل / داهمهم <على حين غرّة > المطر الغزير/ لم تعاد النجف عليه بسبب موقعها الجغرافي / يصف العطية المشهد الزجلي الذي يصلح ان يكون فلماً سينمائياً  :
تعذر علينا الوصول الى بيوتنا بسبب الجو المرعب / على الرغم من كل هذا تجلدنا / سعينا لحل واقعي / فاقترح أحدنا مداهمة اقرب بيت نعرفه من أصدقائنا لعلنا  ـــ وقد هدّنا الجوع ــ نجد عنده مايمسك بطوننا الخاوية / فوقع اختيارنا على بيت صديقنا الوجيه الحاج عبد الله الصراف < أبي عطارد > لأنه اقرب البيوت الى الرابطة / ولأن صاحبه اديب اريب / محب لنا فتوجهنا اليه تحت عاصفة الرعد / وشلال مياه المطر ورحنا نخوض عباب الماء والطين / خائفين من سقوط أحد الجدران علينا ونحن نقرأ ما تيسر من آيات كريمة او ادعية حتى وصلنا في غاية الأجهاد والنصب / وحين فتح الباب لنا فوجىْ < الصراف > بزيارتنا في ذلك الوقت المتأخر / وفي لك الجو المكفهر / وقبل ان نسلم التفتُ اليه مخاطباً / مرتجلاً :
جئناك نسرع زائرينا   /   تحت الدجى متسللينا
جئنا وقد ملأ الغمام    /   دروبنا ماءً وطينا
جئنا فهيْ مجلساً   /   نرتاده حينا فحينا
ـــ ذهل الرجل وتمتم مع نفسه بشيء / ثم قال : اهلاً وسهلاً وقبل ان نلج غرفة الضيوف التفت إليه السيد محمود الحبوبي < 1904 ــ 1969 > قائلاً :

" أأبا عطارد "  دام بيتك   /  مجمعاً للسامرينا
إن غبت عنّا ساعةً   /   زدنا الى اللقيا حنينا
ـــ سال الصراف أين كنتم في هذه الساعة / بالله عليكم ؟
ـــ اجابه الشيخ محمد الخليلي < 1900 ـــ 1968 > بكل هدوء

كنا نسير بضوء شوقٍ  / ساقنا لك مسرعينا
خلت الدروب فما نشاهد   /   غيرنا من عابرينا
ـــ ولم تمض إلا سويعة حتى بدأت الحركة تدبّ في مطبخ الدار / وحضرت صينية الشاي فبادر احد الحاضرين وقال :
الشاي أجمل مايكون  /   هديّة للزائرينا
لكنه قبل العشا   /   يؤذي الجائعينا
وبقيّة الحوار الشعري الجميل /  ماثل في سفره العتيد

ـــ [ هؤلاء احببتهم ] لوحة جميلة جمعت الألوان كلها / ربما يقف امامها بأعجاب وذهول مايكل انجلو او بيكاسو لما تكتنز في سرّها معاني الحب والنبل والوفاء !
كم نحن بحاجة الى صاحب العنوان في مثل هذا الزمن القاحط بالقيم والمثل العليا !
حفظ الله [ أبا محمد ] ومنّ عليه بالصحة التامة وأبقاه كنزاً عامراً للعراق .

عباس العلوي  
السويد في :1 / 10 / 2017
 


أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1062 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع