بحث تأريخي : بغــداد جنة الأرض ومدينة السلام

                                                 

                       عبــــاس العــــلوي


بحث تأريخي :
بغــداد  جنة الأرض ومدينة السلام

بغداد : لفظ أعجمي وتفسيره بستان رجلْ < فباغ> بستان و < داد > إسم رجل ويُقال   لمن انتسب إليها تبغددْ .
قال إبن الأنباري :
< أصل بغــداد للأعاجم والعرب تختلف في لفظها ، إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغـاتهم > . لقد أختلفت الآراء في سبب هذه التسمية قــال المؤرخون :
( بغ : إسم صنم وأهدي الى كسرى خصي من المشرق فأقطعه إياها ، وكان الخصي من عبّاد الأصنام ببلده  ، فقال : < بغ داد > أي الصنم أعطاني !! ) . وفي رواية أخرى قيل :
 ( بغ : هو البستان ، وداد أعطى وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي البستان فقال : بغ داد فسميت بأسمه >   وقال آخرون :
( بغداد كانت سوقا يقصدها تجار أهل الصين فيربحون الربح الواسع ، وكان اسم ملك الصين  " بغ " فكانوا إذا انصرفوا الى بلادهم قالوا : بغ داد ، أي إن هذا الربح ربحناه من عـطية الملك ) .
            *****
قال عنها ياقوت الحموي :   < هي أم الدنيا وسيدة البلاد >
وقال عنها أبو القاسم التميمي : < جنة الأرض ومدينة السلام ، وقبة الأسلام ، ومعدن الخلافة ، ومثوى الرحمة والرأفة ، ومحل السجاحة واللطافة ، ومستمتع الأنس والطرافة > .
وكان أبو اسحاق الزجاج يقول : < بغــداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية > .
وقال عنها ابن زريق الكوفي :
            
سافرت أبغي لبغداد وساكنيها   مثلا قد اخترت شيئا دونه الياس

هيهات بغداد والدنيا بأجمعهـا        عندي وسكان بغــداد هم النــاس

بغــداد : بناها الخليفة "  المنصور " بعد ان اختطها أخوه أبو العباس السفاح ، وشرع في عمارتها سنة 145 هجرية ونزلها سنة 149 هجريـة  وفي تفصيل ذلك قال أبو عياش :

بعث المنصور روادا ً يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا ًرافقا ًبالعامة والجند ، فوصف له موضع قريب من < بارقا > هواءُه طيب وغذاءُه جيد فخرج اليه بنفسه فرأى موضعاً طيبا فقال لجماعته : مارأيكم في هذا الموضع ؟ قالوا : طيب موافق
فقال : صدقـتم ، ولكن لا مرفق فيه للرعية ، قال أبو عياش : فأتى موضع بغــداد وعبر موضع قصر السلام  ثم صلى العصر ، فبات أطيب مبيت ، وأقام يومه فلم يرَ إلا خيرا فقال :

هذا موضع صالح للبنـاء ، ثم وضع أول لبنة وقال : بسم الله والحمد لله والعاقبة للمتقين .  إبنوا على بركة الله ) .                        وقد ذكر ياقوت الحموي أن المنصور أخذ الطالع في بناء بغداد وقــال  :
ومن عجيب  ذلك ماذكره أبو سهل بن نوبخت قال : أمرني المنصور لما أراد بناء بغــداد بأخذ الطالع ففعلت ، فخبّرته بما تدل عليه النجوم من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس الى مافيها ثم قلت :
وأخبرك خلة أخرى أسُرّك بها ياأمير المؤمنين قال : وماهي ؟ قلت نجد في أدلة النجوم أنه لايموت بها خليفة أبدا حتف أنفه قال : فتبسم وقال  : ( الحمد لله على ذلك هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء ) وفي هذا المعنى قال عمارة بن عقيل الخطفي :

أعانيت في طول من الأرض أوعرض     كبغـــداد من دارٍ بها مسكن الخفض
صفا العيش في بغداد واخضّر عـوده    وعيش سواها غير خفض ولا غض
قضى ربّهــــــــــا أن لايموت خليفـــة     بها أنه ماشاء في خلقــــــــه يقضي

*****

بغداد : لها أسماء أخــرى خالدة منها : < الزوراء  > نسبة الى ازورار نهر دجلة وانعطافه نحو الغرب  و< المدورة >  لاستدارتها  و < المنصورية > نسبة الى مؤسسها أبي جعفر المنصور و مدينة < الف ليلة وليلة >  و < بلد الرشيد > وفيها قال الشاعر :

بغــــداد يابلد الرشيد     ومنارة المجد التليد

ومن الأسماء أيضا : < دار السلام > وفي أصل هذه التسميه ذكر الخطيب البغدادي  في كتابه < تاريخ بغــداد > : سُميت بهذا الأسم لوقوعها على نهر دجلة الذي كان يُعرف بنهر السلام  ، أما إبن مسكويه فيشير الى أنها سُميت بمدينة السلام تيمنا بأحد أسماء الجنة !!

*****
دجــلة الخير إحدى معالمها البارزة ، فيها المشاهد المقدسة لأئمة الدين ، أبي حنيفة النعمان وعبد القادر الكيلاني  وموسى الكاظم و محمد الجواد  < ع > أحفاد رسول الله في قباب ومآذن ذهبية تأخذ بلباب الزائر لها  .

* في هذه المدينة العريقة التي كانت حاضرة الدنيا وأم الناس ، تغزل المتغزلون ، وتفنن الواصفون من العلماء والأدباء والشعراء والمؤرخين على مدار الأيام  ، ذكر أبو حيان التوحيدي في < الرسالة البغدادية > وصفا رائعــا لبغداد قال فيه :

"  والله ماأنسى تربتي ، ولاأرضي ببغــداد جنة الخلد  ، ولو عجلت لي ، بلدة ٌهي الأمل والمنى ، والغــاية القصوى ، معشوقة السُكنى ، جوها عريان < بارد > ، وكوكبها يقظان ، وحصباؤها جوهر ، ونسيمها عنبر ، وترابها مسك ٌ أوفر ، يومها غداة ، وليلها سحر ، وطعامها هني ، وشرابها مريّ ، وجوّها مضي ّ، لا والله ترابها عنبر ، وحصاها عقيق ، وجوّها نسيم ، وماؤها رحيق ، واسعة الرفعة ، طيبة البقعة ، كأن محاسن الدنيا مفروشة ، وصورة الجنة بها منقوشة ، واسطة البلاد وسرّتها ، ووجهها وغـرّتها ، ماأرى والله في مدينتكم مثلها  " !!  
في هذا المعنى قــــال الشاعر :

أرض كأن ترابهـــــــا     أبدا ً بماء الورد يُسقى
وتموت أنوار الرياض    ونورهـــا ماشبّت يبقى    
وكأن تربة أرضهـــــا    إجتذبت من الكافور عرقـــا !!

وقد وصف الشاعر سفن بغـــداد العائمة في دجلة أيــام زمان قائلا :

ياسفن بغــداد روحي جدّ عـــالمة     بأن قلبي فيك اليــوم قد راحــا
ياسفن ماضـّر فيك المصعدين وقد    مدوك لو جعلوني فيك ملاحــا
ياسفن دعوة صبّ حن ّ حين رأى    نهج الطريق الى الأحبــاب وارتاحا
ياسفن قــولي لمن شطّ المزار بنـا     عنهم فشتت شمل القرب واجتـاحا !!

*****

دجلــة الخير : الذي يسحر بغداد بجماله  قال طاهر بن المظفر الخــازن :

ودجلتها شطان قـد انظمــا لنـا     بتـاج الى تاج وقصر الى قصر
تراهـا كمسـك ٍ والمياه كفضـّة        وحصــاؤهـا مثل اليواقيت والدرّ !!


ولشاعرنا الكبير الجواهري ذكريات خالدة مع " دجلة " وحينما أ ُجبر على مفارقة العــراق الى منفـاه في أوربا ، شدّه الحنين الى ذلك < النبع > الذي كان لايفارقه إلا وهو مُكره وأنشد فيه واحده من أروع القصائد التي قيلت بحق دجــلة في مدار التاريخ :


حييت ُ سفحـك عن بُعـــــــد فحيّيني     يــادجــــلة الخـــير ياأم ّ البساتين
حييت ُ سفحـك ضمـــآنا ألوذُ بـــــه    لوذ الحمــائم بين المـــاء والطين
يـــادجلــة الخير يانبعـــا ًأفارقـــــه     على الكراهـة بين الحــين والحين
وأنت يـاقــارباً تلوى الريــاح بـــــه    ليّ النســـــــائم أطـراف الأفــانين
يادجــلة الخــير ياأطيــاف سـاحرة ً    يـاخمرة خـابيـــة في ظلّ عــرجون
يـا سكـتة الموت يـا إعصـار زوبعـة    يـاخنجــر الغـدر يـاأغصـان زيتون
يـــاأم بغـــداد من ظرف ومن غـنج ٍ    مشى التبغــــدد حتى في الدهـــاقين
يـــاأم تلــك التي من < ألف ليلتهـــا >     لـلآن يعــبق عطــر ٌ في الريـاحين !!

* أما الشاعر الراحل الدكتور مصطفى جمــال الدين فقد أنشد في بغــداد أجمل قصيدة قيلت     
في تاريخهــا العريق :

بغـــداد ماشتبكت عـليــك الأعصـرُ     إلا ذوت ووريــق عُمـــرك أخضـــرُ
مرّت بـك الدنيــا وصُبحــك مُشمس ٌ    ودجـت عليــك ووجــه ليلـك مُقمــر ُ
وقسـت عليــك الحــادثات فـراعـها     ان احتمـــالك من أذاهـــــــــا أكبـــر ُ
حتـى إذا جنــت سيــاط ُ عـذابهــــــا     راحـت مـواقعـــك الكريمـــة تســخرُ
بغــــــداد آن لــك الآوان لترجـــعي    مـا ابتـز ّ منــك الغــاصبون وزوّروا
وتحـــدثي فجــلال مجـــدك لايـــرى    أن تسكـتي وقــرى ســـــواك تثــرثرُ

ملاحظـــة :

نشر هذا المقال لأول مرة في الصحف العراقية والعربية الصادرة في لندن  يوم  7 / 10 / 1993 / ثم تناقلته الفضائيات والاذاعات العربية فيما بعد .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

619 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع