كنت في بيت ليرمنتوف بموسكو

                                           

                           أ.د. ضياء نافع

عاش ليرمنتوف في هذا البيت الخشبي المتواضع بموسكو منذ عام 1829 ولغاية عام 1832 .

سكن في هذا البيت الكثيرون فيما بعد,  بل انه اصبح شققا للكثير من العوائل ايام السلطة السوفيتية , حيث سكنت عوائل عديدة فيه , وبواقع عائلة في كل غرفة من غرف ذلك البيت الخشبي  الصغير , و كان هذا اسلوب اتخذته السلطة آنذاك لمعالجة أزمة السكن في تلك السنين العجاف , ولكن السلطة السوفيتية – مع ذلك – حولته الى متحف خاص بالاديب الكبير ليرمنتوف عام 1981 , وهو منذ ذلك الحين الى حد الان يعد – متحف ليرمنتوف في موسكو , ويقف امام البيت الان تمثال نصفي رشيق وصغير و جميل جدا يجسٌد ليرمنتوف  وقصيدته الشهيرة – ( الشراع ) التي كتبها الشاعرعام 1832 ,  والتي كان يحبها طلبتي في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد , عندما كنا ندرسها ضمن مادة ( الشعر الروسي ) في الصف الثالث آنذاك, و تذكرت كيف كنت أغري بعض طلبتي الموهوبين بترجمتها الى العربية, ونتناقش معا حول تلك الترجمات , وليس عبثا  اقامة التمثال النصفي هذا هنا , اذ ان ليرمنتوف كتب هذه القصيدة  عندما كان يسكن في هذا البيت بالذات وهو في ذلك العمر المبكر جدا ( 18 سنة ليس الا ), حيث لم يكن يعرفه أحد كشاعر او كأديب روسي , و لا ادري لماذا ترتبط هذه القصيدة في عقلي وقلبي ووجداني ببيت للجواهري في قصيدته العملاقة ( يا دجلة الخير ) والتي يسميها البعض ب ( المعلقة الثامنة !) في مسيرة شعرنا العربي , والبيت هذا هو –
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني    يحاك منه, غداة البين يطويني.
اقتربت من بيت ليرمنتوف صباحا في حدود الساعة العاشرة كي اكون اول الزائرين , واكتشفت ان المتحف يفتتح ابوابه في الساعة الحادية عشرة , وهكذا اضطررت ان ادخل في حديقه البيت وانتظر . رأيت تمثالا لبوشكين في الحديقة , وهو يجلس على كرسي وثير ويضع كلا رجليه على كرسي وثير ايضا يقف جنبه تقريبا . لم افهم لماذا يقف هذا التمثال الغريب لبوشكين في متحف ليرمنتوف  , ولا رمزيته , ولا علاقته مع بيت ليرمنتوف, ولكني دخلت – مع ذلك -  وجلست هناك  مقابل بوشكين ( الجالس بهذه الطريقة الغريبة وهو في كامل ملابسه الرسمية ! ) انتظر موعد افتتاح بيت ليرمنتوف  و متحفه.  لاحظت مجئ الموظفات فقط , ولم الاحظ اي رجل بينهم  ( وكلهن متقاعدات على ما يبدو ) وهن يسرعن  للدوام في هذه المؤسسه المتميزة فعلا . كنت أتأمل هذا البيت الخشبي الروسي الجميل الذي يتكون من طابق واحد ليس الا ,  وطابق ثان صغير فوقه نسميه نحن في العراق ( بيتونه )  .  يقع هذا البيت الصغير جدا والمتواضع جدا وسط عمارات كبيرة و هائلة تحيط به  في شارع (أربات) الشهير بمركز موسكو, بحيث لا يستطيع الشخص للوهلة الاولى ان يميٌزه بشكل واضح , ويقتضي منه ان يتأمل المنطقة جيدا كي يجده في زحمة هذا المكان وبناياته الشامخة والكبيرة , وقد علمت فيما بعد انهم حافظوا عليه عندما بنوا هذه العمارات الهائلة لانه بيت ليرمنتوف  .
وهكذا دخلت متحف ليرمنتوف , وكنت الوحيد الذي يزوره  في ذلك الوقت. رأيت امرأة بوليس جميلة جدا في المدخل تجلس امام جهاز كمبيوتر يعرض صالات المتحف وما يوجد فيها , فسألتها عن طبيعة عملها , فقالت انها تحافظ على موجودات هذا المتحف المهم في تاريخ روسيا الثقافي . اشتريت بطاقة الدخول  ودخلت . رأيت قبل كل شئ لوحة مرمرية موضوعة بشكل بارز ومكتوب عليها – ( ولد في هذا البيت الشاعر الروسي ليرمنتوف ) , وهي اللوحة التي كانت موجودة على واجهة البيت , الذي ولد فيه الشاعر بمنطقة – ما بموسكو , والتي تم ازالته  وبناء عمارة كبيرة بدلا عنه , ويوجد امامها الآن تمثال ضخم لليرمنتوف في موسكو ( انظر مقالتي بعنوان – سبع نقاط من الذاكرة عن ليرمنتوف ), وقالت لي المسؤولة عن ذلك الجناح , انهم طالبوا بتلك اللوحة للاحتفاظ بها في متحف ليرمنتوف الوحيد في موسكو , ووضعوا خلف تلك اللوحة صورة كبيرة للبيت الذي ولد فيه الشاعر والمنطقة التي كانت تحيطه في ذلك الزمن البعيد . صعدت الى الطابق الثاني حيث غرفة ليرمنتوف نفسه , بعد ان اطلعت على غرفة جدته , التي أجٌرٌت هذا البيت , كي تسكن فيه مع حفيدها , اذ ان والداه قد توفيٌا مبكرا , وعاش الشاعر في كنف جدته واقعيا منذ طفولته . ادهشتني غرفة ليرمنتوف ببساطتها . كان هناك سرير نومه , وعليه قيثارة كان يعزف عليها , وهناك مكتبة في الغرفة تضم كتبا روسية كان ليرمنتوف يفتخر بها , وتضم مؤلفات  لبوشكين وفانفيزين وكارامزين و جوكوفسكي .. والى آخر اسماء الادباء الروس في ذلك الزمان , و تحتوي على كتب اخرى لروسو وشكسبير وغوته وبايرون ..الخ و بلغاتها الاصلية, وكانت هناك على الجدار صورتان  صغيرتان, واحدة لبوشكين , واخرى لبايرون , اما المنضدة الموجودة في تلك الغرفة فكانت عليها لوحة شطرنج ثابتة , وتوجد عليها كل ادوات لعبة الشطرنج , مما يشير الى حب ليرمنتوف لهذه اللعبة الفكرية . ان هذه الغرفة في هذا المتحف هي الاجمل هناك , وقد قرأت في احدى تعليقات زوار المتحف جملة اعجبتني تقول , انني شعرت , عندما كنت في هذه الغرفة , أن ليرمنتوف خرج لتوه من هذه الغرفة , وانه سيعود اليها بعد قليل .
تمتعت جدا باللوحات  التي رسمها الفنان التشكيلي ليرمنتوف , والتي كانت معلقة على جدران هذا المتحف (نسخ اصلية وليست مستنسخة ), لوحات رائعة للقوقاز وجباله المدهشة الجمال, وهي لوحات مشهورة لليرمنتوف ومنشورة في معظم الكتب عنه , ولكنها اصبحت الان نتاجات ثانوية مقارنة مع شعره ونثره ومسرحه , والتي دخلت في الوعي الاجتماعي الروسي والعالمي كجزء لا يتجزأ من عظمة الادب الروسي ومكانته, وكذلك ادهشتني اللوحات  المؤطرة المعلقة هناك , والتي كانت تضم مقاطع من كلمات الادباء الروس وانطباعاتهم حول شعر ليرمنتوف واهميته في مسيرة الادب الروسي , ومنها قول الكاتب الروسي ليف تولستوي, الذي توقفت عنده طويلا وتأملته اعجابا , و هو الذي يقول فيه تولستوي – (لو عاش هذا الكاتب اكثر, لما كانت هناك ضرورة لي او لدستويفسكي) ( من المعروف ان ليرمنتوف عاش 27 سنة فقط), وهناك قول للشاعرة تسفيتايفا موجود على جدران هذا المتحف ايضا يقول , ان قصيدة ( الشراع ) تؤكد , ان ليرمنتوف ولد شاعرا رأسا , وانه لم يمر مثل بوشكين  بمراحل تطور منذ البداية  في مسيرته كشاعر .
عندما خرجت من البيت كتبت بعض السطور بالعربية عن جمالية هذا المتحف واهمية ليرمنتوف , وطلبوا مني ان اترجم هذه الكلمات الى الروسية , واخبرتني المسؤولة ان أحد الزوار الصينيين قد كتب لهم قبل ايام كلمات اعجابه بالصينية , وان هذا كله اغناء لسجل المتحف , وهم يفتخرون بذلك , فكتبت لهم بالروسية ترجمة تلك الكلمات . سألتها وانا اغادر المتحف , لماذا يوجد بالحديقة هذا التمثال الغريب لبوشكين ؟ فاجابتني ضاحكة , ان ورشة النحٌات قريبة من هنا , وانه انجز هذا التمثال الجميل لبوشكين الذي يشغل مكانا كبيرا في ورشته , فجاء الى متحفنا وطلب وضع التمثال مؤقتا في الحديقة , وقال لنا ( اعتبروا ان بوشكين جاء لزيارة بيت ليرمنتوف ) , فوافقنا على هذه الفكرة الطريفة والمبتكرة من اجل تجميل متحف ليرمنتوف .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

731 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع