عن مأزق الصحافة

                                              

                               فهمي هويدي

رغم أننا لا نعرف الأسباب الحقيقية وراء وقف إصدار جريدة «التحرير» في مصر، إلا أن الثابت أن الصحافة الورقية تواجه أزمة في مختلف أنحاء العالم، والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى التطور المثير في وسائل الاتصال الذي جعل كثيرين يعزفون عن مطالعة الصحف، أو يتابعون ما يريدون قراءته منها من خلال الإنترنت، إلا أنني لست متأكدا مما إذا كان ذلك يفسر ما جرى لجريدة التحرير أم أن هناك أسبابا أخرى لا نعرفها.

في صدد أزمة الصحافة الورقية أثارت انتباهي ملاحظة سمعتها أخيرا من المستشار طارق البشري قال فيها إنه رغم مداومته على قراءة الصحف المصرية بصورة يومية، إلا أنه اكتشف أن بعض من يعرفهم توقفوا عن شرائها منذ مدة، واكتفوا بمتابعة ما يجري عبر الإنترنت، وقد أدهشه أنه اكتشف أنهم أصبحوا يعرفون عن الشأن العام في البلد أكثر مما يعرف.

من متابعتي لأصداء الأزمة وجدت أن بعض الصحف استسلمت وتوقفت عن الصدور نهائيا أو اكتفت بإصدار نسخة إلكترونية لقرائها. لكن هناك صحفا أخرى عمدت إلى «الممانعة» فقاومت ضغوط الأزمة ولجأت إلى وسائل مبتكرة للاستمرار في الصدور سواء لتوسيع قاعدة القراء أو لتوفير الموارد اللازمة التي تغطي تكاليف طباعة النسخة الورقية. أمامنا نموذجان تجلى فيهما الصمود والتحدي، قدمتهما اثنتان من أهم الصحف العالمية هما: فاينانشيال تايمز البريطانية التي لجأت إلى الاندماج مع آخرين، وواشنطن بوست الأمريكية التي عززت من مكانتها بدخولها إلى عالم البث التلفزيوني.

فاينانشيال تايمز تملكها دار النشر البريطانية «بيرسون» وخلال إصدارها للصحيفة استطاعت أن ترسخ أقدامها بحيث اكتسبت ثقة واحتراما شديدين في أوساط القادة وأصحاب القرار في العالم، حتى صارت مرجعا أساسيا للأنباء الاقتصادية والمالية، وغدت بلونها البرتقالي الفاتح عاملا مؤثرا في القرارات السياسية التي تتخذها العديد من البلدان. وهي تطبع الآن في ٢٤ مدينة حول العالم وتوزع في إنجلترا نحو ثلاثة أرباع مليون نسخة يوميا، إضافة إلى نسختها الإلكترونية وأعدادها الرقمية المدفوعة التي تشكل سبعين في المائة من قرائها.

في أواخر شهر يوليو الماضي أعلنت دار النشر بيرسون مالكة الصحيفة أنه تم بيعها إلى المجموعة الإعلامية اليابانية «نيكاي» مقابل ٨٤٤ مليون جنيه استرليني (١.٣١ مليار دولار)، وذكرت أن الصفقة سوف يجري إبرامها قبل نهاية العام الحالي، وأنها لا تشمل حصة تبلغ خمسين في المائة تملكها المجموعة في مجلة «الإيكونوميست» الشهيرة والرصينة. وبمقتضى ذلك فإن ملكية فاينانشيال تايمز سوف تنتقل إلى مجموعة «نيكاي» التي تصدر الآن نشرة بنفس الاسم، إضافة إلى عدد من المجلات والكتب والمعلومات الإلكترونية والمعطيات المالية.

جون فالون المدير العام لدار بيرسون قال في بيان نشرته المجموعة إنه بعد ستين عاما من إصدارها للصحيفة «بلغنا نقطة انعطاف في وسائل الإعلام مع النمو الهائل للهواتف الجوالة وشبكات التواصل الاجتماعي» وإنه «في هذه البيئة الجديدة وجدنا أن أفضل طريقة لضمان نجاح الجريدة الصحفي والتجاري أن تكون جزءا من مؤسسة معلوماتية رقمية عالمية». وذكرت بعض التقارير البريطانية أن من العوامل التي دفعت «دار بيرسون» المتخصصة في النشر والتعليم لاتخاذ ذلك القرار أنها أرادت أن تتفرغ لنشاطها في مجال التعليم.

تجربة واشنطن بوست مختلفة، ذلك أن جيف بيزوس ملياردير شركات «أمازون» في الولايات المتحدة كان قد اشترى الجريدة قبل عامين. وأعلن أنه سيقدم عملا صحفيا من نوع جديد، يربط بين الصحافة الورقية والتقدم التكنولوجي في مجال جمع وتوزيع المعلومات. في ذلك الوقت كانت الصحيفة قد خطت أولى خطوات الدخول إلى عالم البث التلفزيوني فأنشأت «بوست تي في» في قاعة التحرير الرئيسية. وكان أداؤها مقصورا على تجوال الكاميرا وسط المكاتب وسؤال الصحفيين عن أهم الأخبار، ثم نقل الحصيلة على الإنترنت في وقت لاحق. وهو ما شجع بعض الصحفيين ذوي المواهب التلفزيونية على ترك الكتابة الصحفية والتفرغ لتقديم برامج فيديو إخبارية. وقبل أن يشتري بيزوس الصحيفة كان «بوست تي في» قد أصبح قسما مستقلا عن الجهاز التحريري. وبعد الصفقة أثير السؤال التالي: ماذا سيفعل المالك الجديد الذي يملك عدة شركات تعمل في المجال ذاته؟

الإجابة جاءت في المادة التي بات يقدمها تلفزيون بوست الذي أصبح يعمل فيه نحو مائة صحفي وصحفية. وهؤلاء وظفوا قدراتهم في تحويل محتويات الصحيفة التي يسهم في إعدادها مئات المراسلين إلى فيديوهات، بحيث لم يعد المراسل يكتفي بكتابة تقريره، وإنما صار أيضا يصور ويحاور ويحول الخبر إلى قصة حية مصورة. ففي الآونة الأخيرة قدم التلفزيون عدة تقارير مصورة أحدها عن رحلة هجرة اللاجئين من تركيا إلى المجر من خلال متابعة الكاميرا لأعدادهم وهم يعبرون الحدود من بلد إلى بلد، عرض برنامجا ثانيا عن واقعة استخدام طائرة درون (بغير طيار) في تهريب المخدرات إلى أحد السجون. وثالث عن عروض الأزياء الجديدة كان عنوانه: ماذا ترتدي في حفل زواج؟ ــ ورابع عن احتفالات ذكرى الحرب العالمية الثانية عنوانه «طيارون بريطانيون يكررون محاولة غزو هتلر»... إلخ ــ وبهذا الأسلوب فإن تلفزيون بوست سعى إلى تقديم نوعية متميزة من البرامج الخفيفة والإخبارية التي هي في الأصل تقارير إخبارية في الجريدة الورقية، لكنها صارت فيديوهات حياة على شاشة التلفزيون أكثر جاذبية.

لا أستطيع أن أقارن وضع الصحافة في العالم الغربي بنظيره في مصر والعالم العربي، لأن التحديات هناك اقتصادية ومهنية بالدرجة الأولى، ولكنها في عالمنا العربي سياسية أيضا، الأمر الذي يجعل الموقف أكثر تعقيدا ويربط بين أزمة الصحف وأزمة السياسة والديمقراطية في كل بلد عربي. وما لم تحل أزمة السياسة فإن أزمة الصحافة ستظل بلا حل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1400 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع