علاء الدين الأعرجي
مفكر متخصص بأزمة تخلف العرب الحضاري
مع أنَّ بعضَ العرَب القدماء مارسَ التجارة والبعض الآخَر مارسَ شيئًا من الزراعة، وسكن المدُينات الصغيرة من أمثال مكَّة ويثرب والطائف، سابقًا، وحاضرًا في بعض مدُنِ الخليج التي كانت أشبهَ بقُرًى كبيرة يُمارسُ أهلُها بعضَ التجارة وصَيدَ الأسماك وصَيدَ اللؤلؤ، قبل الطفرةِ النفطيَّة؛ فإنَّ العقلَ المجتمعيَّ البدويَّ ظلّ مُسيطرًا على سكَّانِ تلك المدُن بسببِ أُصولهم البدَويَّة واحتكاكِهم بالأعرابِ باستمرار، وخاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالقِيَمِ والتقاليد والأعراف والعادات والعقليات، بما فيها العصبيَّة القبَليَّة والانتماءِ العشائريّ.
وقد زرتُ مدينةَ الكوَيت، في عام 1947، فكانت أشبهَ ما تكون بقريةٍ كبيرة، قُـَبيل الطفرةِ النفطيَّة، وذلك في سفرةٍ مدرسيَّة، انتقلنا فيها من بغداد إلى البصرة، ومنها إلى الكوَيت. فضلَّت بنا الحافلةُ في صحراء قاحلة ليس فيها أيُّ طريقٍ واضح. وقضَّينا ليلةً ليلاء في قريةِ صَفوان، التي كانت تتكوَّنُ من بضعةِ أكواخ من الطين. ووصلنا في اليوم التالي إلى الكوَيت، التي كان معظمُ بيوتها من الطين. ولا أذكرُ أنَّنا شاهدنا طريقًا مُعبَّدًا واحدًا. وقضَّينا ليلتَـنا في المدرسة الوحيدة. وزرتُها بعد ذلك في منتصفِ السبعينيَّات، فلاحظتُ الفرقَ الهائل بين الحالَين. ولكنَّ العقلَ المجتمعيَّ يكاد لا يتغيَّر، بل يظلُّ مُتمسِّكًا بقِيَمِه ومفاهيمِه الأصيلة، كما سآتي على ذكره في السياق المناسب. ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ غزواتِ البَدوِ التي كانت مُتواصلةً على المناطق الزراعيَّة والحواضر، في العراق واستقرارَهم فيها أحيانًا، كانت تؤدِّي إلى تغذيةِ العقل المجتمعيِّ بالقيَمِ البدويَّة. ولنا من الشواهدِ التاريخيَّة ما يؤيِّد هذا الاستنتاج، منها غزوات البدو، ولاسيما قبيلة شمّر لبغداد. وبسبب هذه الغزوات تلوَّنَ العقلُ المجتمَعيُّ المدني بالطابع البدَويّ، حتىَّ حين مرور بعض الطبقات بمرحلةِ الزراعة. (انظر كتابي"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي"، الطبعة الرابعة الورقية، ص191، أو الرابط أدناه:
http://books.google.co.uk/books/about?id=xbhsBQAAQBAJ&redir_esc=y الفصل السابع، لاسيما قسم "إحراق المراحل
887 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع