هل الكاميرا تحل المشكل؟

                                

                     د. منار الشوربجي

الإجراءات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد انفجار الموقف في فيرغسون الأسبوع الماضي، لا تمثل حلولاً ناجعة للمشكلة بقدر ما تعتبر في ذاتها أحد تجليات الأزمة التي تعيشها الولايات المتحدة.

فقرارات أوباما شكلت، في تقديري، استجابة لما يمكن أن يطلق عليه «السياسة الفوقية»، لا «السياسة الدنيا» في المجتمع الأميركي، وبالتالي بدت هزيلة للغاية. وما أقصده بالسياسة الفوقية، هو ما يجري بين النخب في واشنطن العاصمة من صراع واستقطاب، بينما أقصد «بالسياسة الدنيا» ما يجري على الأرض للناس، وبالذات لسود أميركا.

فمن تابع الإعلام الأميركي خلال الأسابيع الماضية، لا بد أنه أدرك حجم الاستقطاب السياسي الذي خلقته قضية مقتل مايكل براون.

فمنذ أن قُتل الشاب الأسود على يد شرطي أبيض في مدينة فيرغسون في أغسطس الماضي، لم تشهد أميركا تظاهرات واحتجاجات فقط، وإنما شهدت أيضا استقطابا حادا بين من يؤمنون بأن ظلما واقعا على سود أميركا، جسدته واقعة براون وغيرها من الوقائع الأخرى السابقة عليها، وبين من يرون أن في الأمر مبالغة وأن ما جرى لا يستحق الضجة التي أثيرت حوله.

وقد اتخذ اليسار بأغلب أطيافه الموقف الأول، بينما تبنى اليمين بقطاعاته وقواه المختلفة الرؤية الثانية. وقد أخذ ذلك الاستقطاب شكل معركة حامية الوطيس، حول وقائع ما جرى بالفعل يوم مقتل مايكل براون.

فقد تبنى اليسار ومعه معظم رموز الأقليات، موقف أسرة الفتى القتيل وعدد كبير من الشهود من بينهم صديق براون الذي كان معه وقت وقوع الحادث، وكانت تفاصيل روايتهم تقوم في الأساس على اعتبار أن الشرطي أطلق أكثر من ست رصاصات، اخترقت جسد براون بينما كان رافعا يديه استسلاما.

أما رواية اليمين فقد اعتمدت أساسا على شهادة ضابط الشرطة نفسه دارين ويسلون وعدد أقل من الشهود، عمدت لاعتبار أن براون كان ذا سجل جنائى خطر، ثم ان الشرطي كان يدافع عن نفسه حين قتله، لأن براون لم يستسلم وإنما دخل مع الشرطي في معركة بالأيدي على الأقل. وقد امتد ذلك الاستقطاب ليصطف الطرفان بالطريقة نفسها، عندما صدر قرار هيئة المحلفين بعدم اتهام الضابط.

وقد اندلعت التظاهرات عشية صدور القرار في عشرات المدن الأميركية، لا فيرغسون وحدها، فما كان من أوباما إلا أن دعا بعض القيادات الشابة للقائه في البيت الأبيض، وأرسل وزير العدل إلى المدينة للتهدئة.

وبعد لقاء الشباب أصدر أوباما مجموعة قرارات، منها تشكيل لجنة لدراسة الأوضاع مهمتها إصدار توصيات بشأن السياسات الواجب اتباعها، ووضع عملية نقل الأسلحة العسكرية من البنتاغون لجهاز الشرطة موضع رقابة صارمة.

لكن أهم قرارات أوباما على الإطلاق، والتي حظيت باهتمام «نخبوي» وإعلامي كبير، كان إعلانه عن إنفاق 75 مليون دولار لتجهيز ضباط الشرطة بكاميرات يرتدونها عند التعامل مع الجمهور.

وقرار إنفاق هذا المبلغ الضخم على شراء الكاميرات، لا يمكن تحليله إلا باعتباره استجابة لنخب واشنطن وسياسة الاستقطاب التي قامت في جوهرها على تضارب الأقوال والشهادات، وكأن شهادات الشهود ليست كافية.

وهو قرار لا علاقة له بلب المشكلة الأصلية التي هي عدم عدالة النظام الجنائي القضائي برمته، تجاه الأقليات عموما والسود بالذات. وما هي إلا أيام حتى افتضح أمر إجراءات أوباما، المنفصلة تماما عن الواقع على الأرض داخل الجماعة السوداء.

فقد أُعلن في نيويورك عن قرار هيئة المحلفين في قضية مقتل إريك غارنر، بائع السجائر الفرط، إذا جاز التعبير، وقد قررت هيئة المحلفين في نيويورك هي الأخرى عدم اتهام الضابط الذي قتل إريك غارنر.

لكن قضية غارنر كشفت عن طبيعة المستهدف من إنفاق 75 مليون دولار لشراء الكاميرات، لأن أحد المارة الهواة كان قد سجل بالفيديو واقعة مقتل غارنر، بالصوت والصورة لحظة بلحظة.

ومن يشاهد ذلك الفيديو يستطيع أن يتأكد بوضوح أن القضية هي عدم عدالة النظام الجنائي القضائي، لا تباين الشهادات وتضاربها. فالشريط واضح تماما لكل ذي عينين، ووجود الكاميرا التي سجلت الواقعة لم يحقق العدل!

وهزال، بل وهزلية، قصة الكاميرات، تؤكدها عشرات الفيديوهات المصورة في عدد كبير من وقائع قتل السود، ومع ذلك لم يتم توجيه الاتهام في أي منها.

وهي مسألة قديمة قدم واقعة رودني كينغ الشهيرة، التي كانت مسجلة بالصوت والصورة. وكانت واقعة الفتى جون كروفورد في ولاية أوهايو الصيف الماضي، مصورة هي الأخرى مثلها مثل واقعة الطفل ذي الاثني عشر عاما، تامير رايس، الذي كان يلهو بمسدس لعبة.

ولولا أن المسألة تدعو للحزن والأسى، لكان طريفاً أن يشهد المرء حالة الإجماع النادر التي عاشتها العاصمة واشنطن بين قوى اليمين واليسار بشأن مقتل غارنر، حيث أدى شريط الفيديو لتلاشي الاستقطاب الحاد الذي كان موجوداً بشأن قضية مايكل براون.

بعبارة أخرى، فإن وجود الكاميرا من شأنه أن يحل مشاكل النخب في واشنطن، لا مشكلات سود أميركا! فالفيديو خلق وئاماً وإجماعاً في واشنطن بين اليمين واليسار، ولكنه لم يحقق العدل في حالة غارنر، ولا في حالة الفتى جون كروفورد في كليفلاند، ولا حتى في حالة الطفل ذي الاثني عشر عاماً.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

997 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع