شخصية كلدانية من مدينة السليمانية : الدكتور نوري فتوحي

   


شخصية كلدانية من مدينة السليمانية :الدكتور نوري فتوحي

   

   

           

المقدمة :
هذه الحكاية ليست من حكايات أيام زمان ، لنبدأ الحكاية من البداية ،كان يا ما كان ، ليس في سالف العصر والأوان ، بل منذ وقت قريب في نهاية القرن الثامن عشر في مدينة السليمانية الواقعة تحت نفوذ الإمبراطورية العثمانية انذاك ، كان هنالك تاجرا في ريعان شبابه اسمه فتوحي عبد الاحد جرجيس ، كانت تجارته تشمل أهم موارد السليمانية من الصوف والجلود وعرق السوس وشعر الماعز والعفص الكردستاني الذي يكثر في المناطق الجبلية و يستعمل بدباغة الجلود ، بالإضافة للمن والسلوى .
فتوحي عبد الاحد جرجيس اخذ عن والده مهنة التجارة بالإضافة لامتلاكه خان كبيرا يستقبل القوافل القادمة الى السليمانية والخارجة منها .

    

والخان هي كلمة أعجمية تدل على الفندق في عصرنا الحديث ، و الخان يقدّم الخدمات للتّجار والرّحالة والمُسافرين كافةً ، ويوفّر لهم الراحة ويجنّبهم مشقّة ومخاطر السّفر ليلاً. يضمّ الخان مستودعات لحفظ البضائع وإسطبلاتٍ مختلفةً لإيواء العربات وأنواع الحيوانات. حيث تصل البضائع إلى السليمانية من القرى والمدن الكردية الواقعة على مقربة منها ، تباع البضائع بأسعار عالية داخل الخان لتجار محليون ثم تنقل الى بغداد بواسطة القوافل .

    

كل يوم وعند الفجر مع صياح الديك كان تجار القرى يضعون حمولتهم فوق ظهور الحمير والبغال ويشكلون قافلة صغيرة تسمى كاروان  يتوجهون نحو مدينة السليمانية . وحال وصولهم المدينة يحطون الرحال في خاناتها ومن ضمنهم خان عائلة عبد الاحد جرجيس بعد استراحة التجار وتناول طعام الفطور الذي جلبوه معهم في القافلة ، تبدأ مقايضة حمولتهم بالصوف وشعر الماعز والجلود والعفص وما تحتاجه القرى من سلع مع البضائع التي جلبها التجار من سمن حيواني وزبيب وحبة الخضرة والجوز والأقمشة المحاكة بالجومة  حيث اشتهر سكان القرى المسيحية بغزل أصواف الأغنام وشعر الماعز التي يوفرها لهم الخان.

       

اعتاد فتوحي توفير ما يحتاجه الحائكون من الغزل والصوف وبعد تسويقهم ما يحتاجون تنقل الى القرى المسيحية وتبدأ عملية حياكة قطع الملابس مثل(شل وشبك) يعني السروال والسترة الذي يعتبر اللباس الشعبي للرجل الكردي

            

بالإضافة لباس لرجال القرى المسيحية المجاورة للمنطقة الكردية وهي الملابس الفلكلورية المسيحية ، كما يحاك من الغزل (الجاروكه)رداء للنساء المسيحيات حصراً الساكنات في القرى المسيحية ولم تلبسها المرأة الكردية .
فتوحي عبد الاحد جرجيس لا نعرف سنة هجرة عائلته الى السليمانية ومن اي منطقة قدم لكنها تقدر منتصف القرن الثامن عشر،ويرجح ان اجداده من ضمن العوائل العشرة التي كانت تقطن المدينة عند تأسيسها كما ينتمي الى عائلة تلقب " حَبَكا " (هذا ما علمته من كبار السن في المدينة) . اكتسب فتوحي سمعة حسنة طيبة وثقة التجار على مر السنين يتكلم اللغة العربية والكردية والتركية والكلدانية وتعرف على تجارها وتقرب من عائلة الياس علكة الذي اصبح  ابنه عبد الكريم وزيرا لحكومة الشيخ محمود الحفيد .

        

لا عبث بالحب في السليمانية
من عادات سكان مدينة السليمانية سواءا يعيش الفرد مع عشيرته او منفصلا عنها ، أو يعمل كراع ِ جوال يبيت تحت خيمته في الجبال أو يمتلك دكانا ، أو يشتغل كفلاح أو حرفيا ، لا يعيش بمفرده في جميع الاحوال بل يصاحب زوجته وأطفاله دائما ، فقلما نجد اعزب في المدينة فالشباب يتزوجون مبكرين حيث لا ينتظرون  سن العشرين ، ويبدأ  الشاب البحث عن فتاة قد اكتملت انوثتها وربة بيت بارعة ممتازة ضليعة بالواجبات الملقاة عليها ، ولكن السعادة العائلية تحتاج الى شريك جيد لأنها مسألة بالغة الاهمية فثمة اعتبارات اخرى ماعدا الجاذبية أو الجمال لا بد من وضعها في الاذهان لأنه يقال ( لا تنظر الى الفتاة  فحسب بل الى أقاربها ) (وأنظر الى الخال وأتِ بالفتاة الى دارك ) .

  

في الريف يلتقي الشباب عادة عند الينابيع أو اثناء الاشتغال في الحقول وغاية الالتقاء تكون شريفة على الدوام ، فتسود الحشمة والفضيلة ذلك شيء تدركه الفتيات القرويات حينما ينشدن أغاني الحب أثناء حلب النعاج او حياكة السجاد ، أو هن راجعات من عيون المياه يحملن جرار الماء فتفيض أغانيهن شوقا وحنانا بما يشعر الفؤاد من اللوعة والغرام . لكن اين يجد التاجر المسيحي الذي يسكن في مدينة عدد عوائلها المسيحية عشرة عوائل الفتاة التي يخفق قلبه لها الجميلة ، الذكية ، المثقفة ، الغنية ، المتعلمة ، صغيرة السن ذات الدين وذات الحسب والنسب وذات المال .

  


البحث عن الشريك
جلس فتوحي يفكر إن أول شيء في رحلة البحث عن الفتاة أن يحدد لنفسه النطاق الذي سيبحث فيه عن شريكة الحياة ومن تكون المرشحة المناسبة لتنال رضائه ، هل هي من العائلة أم من الأصدقاء أم من العمل ، فقد كان يعلم بأن لا يوجد فتاة في عائلته ولا يوجد شابة تعمل في حقل التجارة آنذاك ،  فإذن عليه ان يبحث عند الاصدقاء ، أو عليه الذهاب الى مدن اخرى ككركوك او كويسنجق للبحث عن الفتاة كاملة الاوصاف . يقول ريج  في مذكراته ان عشرة عوائل مسيحية كانت تقطن السليمانية ستة منها كلدان والأربعة من الارمن ، وعدد الفتيات في تلك العوائل كان بعدد اصابع اليد الواحدة ومنهن من فاتهن قطار الزواج  .
وفتوحي يحلم بفتاة تدرك سحر جمالها تبديه بالدلال والغنج تتفاخر بجدائل بشعرها الاسود وبعيونها الجميلة السوداء التي تضاهي عيون المها في حسنها تتهادى في مشيتها بثوبها الفلكلوري وزينته .
بعد صمت وتفكير عميق صرخ فتوحي وجدتها كما صرخ ارخمديس وجدتها ، وجدتها ، فقد وجد ارخمديس حساب الوزن النوعي للمادة لكن فتوحي عندما صرخ وجدتها فقد وجد فتاة احلامه انها الفتاة الفاضلة كريمة الياس علكة التاجر الكبير في مدينة السليمانية اسمها خانم ، ويعلم جيدًا تربيتها وأخلاقها ويعلم يقينًا أصولها، بالإضافة إلى تطابق المكانة الاجتماعية التي توفر مناخًا مناسبًا للاستقرار في حياته الزوجية.
ولكن كيف سيصل الى الفتاة ، جميع العوائل المسيحية محافظون ملتزمون بعادات وتقاليد المدينة ، لا يكون التقائه مع الفتاة سهلا لأنه من أغنياء المدينة والحياء يكبح جماحه من الافصاح بما يخالج قلبه لإبداء الرغبة في تكوين العائلة . فتوحي شاب يلتقي والدها بالعمل وصديق اخوانها وتربطهم مصالح عمل وتجارة وربح وخسارة ، ما العمل ؟ وكيف يفاتح والدها وغير متأكد من موافقتها وفي حالة رفضها ماذا سيكون موقفه من عائلته وعائلتها .  
لكن نسى فتوحي ان المرأة المسيحية تتمتع بالحرية الى حد كبير اكثر من جيرانها وامرأة متواضعة في سلوكها فهن سافرات برغم من تغطية رؤوسهن على الدوام ويتمتعن بإدارة شؤون البيت ويبقى كيس النقود في ايديهن ويتصرفن فيه كما يشأن .ولا يفترض ان تخجل عند التقائها بالرجال الغرباء ، لأنها تمتلك شخصية صقلتها حياتها المسيحية فالنساء يتمتعن بالاحترام الكثير عند الجميع وسائر الطبقات وهن مثقفات متعلمات .
مرت الايام وفتوحي قلق شارد الذهن كلما التقى مع اصدقائه التجار ومع والدها وإخوانها في الخان يسرح ويجول في افكاره كيف يبدأ الحديث معهم لا يعلم ويسأل نفسه ما هي الطريقة الفضلى لمفاتحة ابوها. ولكن هل الصدفة او الحظ ام القسمة والنصيب ، او رب رميه من غير رامي كان لها دور مهم في حياة فتوحي.
في احد المناسبات دعاه الياس والد الفتاة لتناول طعام الغداء في منزل العائلة ، قَبِلَ فتوحي الدعوى بسرور وفرح على أمل ان يرسل اشارة الى الفتاة التي رشحها ، استقبل الياس علكة وأولاد  في منزله فتوحي وجلس الجميع حول طاولة الطعام و فتوحي يجلس بجانب والدها والفتاة واحدة من الجالسين وهو الوحيد بينهم مرتبك لا يرفع نظره نحو الجالسين يتناول طعامه بهدوء كأنه لا يشتهي الطعام ، انتبه والد الفتاة عليه وسأله مستفسرا
ـ فتوحي اراك مهموما فترة من الزمن هل خسرت في التجارة .
هز رأسه نافيا وقال :
 ـ لا بالعكس فالحمد الله ارباحي جيدة جدا .
ابتسم الوالد وقال له مازحا .
ـ فتوحي ، تقول حكمة سمعتها من جدي (لا يستقر الرجل حتى يتزوج ، من يرغب الزواج عليه أن يملك حقيبة من الذهب ،او كيسا معبأ بالأكاذيب).
رفع فتوحي عيناه بهدوء وبنبرة لا تخلو من الاحترام وبفراسة ودهاء قائلا:
ـ تقول حكمة اخرى ( لا يتم الزواج من أميرة بمهر لرعاة البقر) .
قال والد الفتاة :
ـ اذن انت تحب ..و عاشق ... او تبحث عن زوجة .
الابتسامة على وجوه الجميع مترقبون من فتوحي أن ينطق ، ساد الصمت والهدوء الحضور ولن ينبس فتوحي بكلمة ، وضع الوالد الملعقة من يده في الطبق قائلا :
ـ قل لي من هي الفتاة التي تغزو قلبك فانا على استعداد ان اخطب لك من تشاء ولو كلفت ثروتي كلها .
لحظات صمت وترقب من الجميع ، رصد فتوحي بنظره الجالسون حول طاولة الطعام ثم همس في اذن والد الفتاة بصوت خافت قائلا :
ـ التي تجلس عن يمنيك عمي الياس  .  
تفاجئ الياس بجواب فتوحي ولكنه تمالك اعصابه حتى لا يشعر الجالسين قائلا بنبرة هادئة  :
ـ سأطلبها لك من والدها إذا وافقت الفتاة على قبولك زوجا لها.
عمت الفوضى جميع افراد العائلة الجالسين حول المائدة مستفسرين من تكون الفتاة ومن هو والدها .
قال والد الفتاة بنبرة هادئة :
ـ المرأة دعامة البيت وقلعة يحبسُ الرجل فيها ، انتظروني سأقول لكم من هي الفتاة اذا وافقت على الزواج من فتوحي ،  وإذا رفضت فلن اقول لكم .
استمر الجميع بتناول الطعام وبعد الانتهاء بفترة قصيرة ودعهم فتوحي عائدا الى منزله على أمل ان يستلم الرد من والدها بأسرع وقت .
مرت ثلاثة أيام والوالد هادئا في المنزل لن يفاتح ابنته خانم يراقب حركاتها وتصرفاتها فقد شعر انها فهمت ما همس بأذنه فتوحي وكان حدسه صائبا  .
لم تصبر خانم جاءت مساء اليوم الثالث و سألت اباها بهدوء واحترام:
 ـ أبي... من تكون الفتاة التي رشحها فتوحي عروسة له .
ـ فقال لها مبتسما : اذن عرفت من تكون الفتاة التي طلبها فتوحي .
 أجابت بارتباك وخجل وبصوت مبحوح تبلع ريقها :
ـ لا اعلم فقد همس فتوحي في اذنك وليس اذني . 
غمرت وجهها براحة يديها تتظاهر بالخجل وهربت من امام والدها ولكن ناداها والدها بهدوء .
ـ خانم تعالي قِفِي امامي :
اقتربت منه وقفت باحترام تحني رأسها و ابتسامه خفيفة على شفتاها قائلا لها :
ـ خانم ..هل توافقين الزواج من فتوحي .
هزت رأسها بالإيجاب بهدوء وهرولت مسرعة نحو غرفتها دخلت وأغلقت الباب خلفها .
ابتسم والدها بهدوء ونادى على زوجته مريم قائلا لها :
ـ مريم .... ابنتكِ خانم وافقت على قبول فتوحي عريسا لها .
قالت الام  بنبرة جدية :
ـ هل تعلم ان الفتاة تستطيع الرفض ولا يجبر الاب ابنته على الزواج مما لا ترغب فيه فلها حرية الاختيار .
ضحك الوالد قائلا :
ـ ومن قال لكِ اني اجبرت بنتي على الزواج اعلم ذلك فلها حرية الاختيار واحترام ارادتها ضمن شروط وقواعد المجتمع والعائلة والمتقدم لها شاب على خلق ومركز مرموق .
في المساء اجتمعت العائلة بكامل افرادها من الاب والأم والأخوة والأخت الكبرى وابلغهم بقرار ابنته وقناعتها على قبول فتوحي ، رحب الجميع بهذه الخطوبة وتمنوا لهما التوفيق . طلب الوالد من عائلته عدم تبليغ فتوحي بالموافقة لحين التأكد من رغبته بالزواج وليس تكون نزوة عبارة اي اندفاع لمشاعره للحصول على مبتغاة وبتالى سوف يقل شيئا فشيئا هذا الاندفاع الى ان ينتهى بدون رجعا.
حافظت عائلة الفتاة على طلب الوالد عدم ابلاغ  موافقتهم قبول فتوحي صهرا لهم ، وكان فتوحي يخجل الحديث مع والدها بهذا الموضوع خوفا من ان يسمع منه الرفض لذا طلب من والدته زيارة منزل عائلة الفتاة والوقوف على طلبه .
زيارة تجربيه وجس النبض :
بعد اسبوعين ذهبت والدة فتوحي بصحبة خالته بزيارة تجريبية حاملة هدية لمنزل الياس علكة لجس نبض العائلة ، قدمت ام فتوحي الهدية للفتاة ونبذة مختصرة عن السيرة الذاتيه وحسن سلوك ابنها ، ولن تترد ام فتوحي بوصف الفتاة المرشحة لابنها بعبارات من المدح والتبجيل فوصفت جسمها وحسن اخلاقها ومحاسنها ورقتها وأنوثتها ولم تبدِ العائلة اي اعتراض ، فالفتاة تلك لطيفة لكنها خبيثة تهوى الاغاظة فلها كل السحر كي تدير رأس الفتى الذي يهواها ، قبلت الهدية واستلمها لكنها لم تعطي رأيها أمام امه بالموافقة ، وكذلك امتنع اهلها عن بيان رأيهم بدون حضور الوالد الذي كان في الخان مقر عمله ، عادت ام فتوحي لمنزلها بخفي حنين تشكي حالها لأختها التي معها وتخفي حزنها ودمعتها وتندب حظ ابنها على اختياره وتلوم نفسها على هذه الزيارة .  
في مساء اليوم عاد فتوحي من عمله متعبا على امل ان يستلم خبرا مفرحا من والدته ، ابلغته امه انها عادت بخيبة الأمل وخاب سعيها وضاع جهدها وحزينة على حظ ابنها العاثر الذي لا يتحقق اختاره . ثارت ثائرة فتوحي وخرج مسرعا من منزله متوجها نحو منزل الفتاة وطرق الباب بانفعال ، علم والد الفتاة ان الطارق فتوحي لأنه زوجته قصت له ما دار من حوار بينها وأم فتوحي بعد عودته من الخان ، طلب الوالد من ابنته المرشحة للخطوبة فتح الباب للطارق .استجابت لطلب والدها واتجهت لفناء المنزل وفتحت الباب وكانت المفاجئة لها بوجود فتوحي خلف الباب ولن تكن متوقعة قدومه في المساء .
قال لها بانفعال وبدون ان يقدم التحية والسلام .
ـ اريد مقابلة والدكِ حالا.
فهمت ما يريد من مقابلة والدها ، قالت له مبتسمة ساخرة .
ـ هل المقابلة ضرورية تستوجب حضورك بهذا المساء .
أجاب بتلعثم وارتباك .
ـ نعم لقد طلبت منه طلبا ولم يرد عليّ لحد الان رغم مرور اسبوعين  .
ابتسمت وأجابت  بهدوء.
ـ فتوحي ... لقد قبلتً الهدية التي ارسلتها مع والدتك انظر الى قلادتك التي اعلقها صدري.
مرت لحظات على فتوحي يسرح في افكاره ، تمالك نفسه لأنه اراد ان يصرخ و يضمها لصدره ، هدئت اعصابه في لحظة وفهم ما قالته خانم له ، رفع يداه للسماء يشكر الله وقال لها.
ـ شكرا خانم ... غدا سيكون لقائي مع عمي الياس في الخان ، تركها عائدا الى منزله يرقص فرحا وسرورا في ازقة المدينة ويتمتم مع نفسه اغاني الحب . وخانم تراقبه من على عتبة باب المنزل تضحك فرحا وسرورا ملئ شدقيها .
دخلت خانم الى غرفة جلوس العائلة مبتسمة مسرورة تتمايل بمشيتها تلاعب ضفائر شعرها ، سألها والدها بهدوء : خانم من كان الطارق. أجابت باحترام : انه فتوحي .
بابتسامته الهادئة سألها والدها ماذا يريد فتوحي بهذه الساعة المتأخرة ليلا.
باحترام وخجل وحياء قالت :
ـ  قال لي "اقدم احترامي ومحبتي لعمي الياس وسأزوره غدا في الخان لإكمال الاتفاق بينا " ..  ضحك الحاضرون في الغرفة وقال والدها : على بركة الله .
ضحكت ام خانم وقالت :
 لم تنتبه ام فتوحي لهذه الالتفاتة اثناء زيارتها لنا اليوم أن قبول الهدية منها تلك علامة الرضى ودليل على قبول  الخطبة ، وتوقعت ام فتوحي ان تسمع الموافقة من خانم  .
في اليوم التالي ومن الصباح الباكر لبس فتوحي ملابسه الجميلة ووضع طربوشه على رأسه وعلق سلسلة ساعته الذهبية بسترة ووضع الساعة في جيبه الصغير وعطر جسمه بعطر الفول يستعد لقاء عمه الياس للحصول على موعد للخطوبة .
حصل فتوحي على موعد الخطوبة وبعد ذلك بعدة ايام قام والد فتوحي بصحبة الاعمام والأَخْوال والأصدقاء بزيارة منزل الياس علكة وطلب يد خانم رسميا من والدها وقدمت في هذه المناسبة الحلويات من بقلاوة  مصنوعة بالسمن البلدي (الدهن الحر) ولا ننسى الكليجة المحشوة بالجوز والتمر ، وقدم فتوحي للعروس الهدايا من مصوغات ذهبية ومجوهرات ثمينة ملبسة بالأحجار الكريمة .
كل شيء مهيأ الان ، العائلتان تنتظران قدوم الربيع للاحتفال بيوم العرس الذي يحتاج في الواقع الى حفلتين الاولى هي مراسم الزواج المؤلفة من المراسيم الدينية في الكنيسة ، والثانية حفلة العرس التي تكون دنيوية صرفة خالية من المراسيم الدينية . وهي مهمة حيث يغلب عليها طابع المرح والسرور الملأ بالأغاني الشعبية والرقصات البهيجة من التراث الكلداني ممزوجا مع الفلكلور الكردي . ولو كان عدد العوائل المسيحية في المدينة قليلا لكنهم شعب من الشعوب لهم تراث حضاري واجتماعي معين خاص بهم ، ولهم ذخيرة فلكلورية ثرة من عادات وتقاليد وأساليب تفكير تشكل علامة متميزة على أصالة هذا الشعب تختلف عن الاكراد.
جاء اليوم الموعود واختلط الضجيج بالموسيقى وصوت الطبل والمزمار (زرناى ) واسهم الرجال والنساء في الرقص والدبكات الفلكلورية ، الشيء الجميل من عروستنا انها ذرفت بضع قطرات من الدموع و تظاهرت بالحزن في لحظة فراق منزل والدها ،  لكن المرافقات من صاحباتها سرعان ما يبدأن بتطيب خاطرها وتسليتها بالغناء.
وفي اليوم البهيج للعرس اشترك الاصدقاء من الطرفين في ترتيب الزوجين وتجميلهما ذهبت عروستنا مع صديقاتها الى الحمام وصبغت النساء راحة أيديهن ورؤوس اصابعهن مع اقدامهن بالحناء صبغا سخيا وقبل الذهاب الى الكنيسة لبست عروستنا ملابسها البيضاء ووضعت الكحل على عينيها ليزيد بريقها ولبست خمارها الابيض و مجوهرات كثيرة لها وزنها عند العائلتان منها سلسلة ذهبية تربط من اعلى غطاء الراس الى اسفل الحنك وقلادة تتدلى وتنزل على امتداد السترة والعقود المصنوعة من الاحجار الكريمة يعتقد أنها لها القدرة على ابعاد الشر الذي تسببه العيون الحاسدة ولا ننسى الصليب المعلق على الرقبة يتدلى على صدرها بالإضافة الى قرط ذهبي وهدية فتوحي الاولى .
أتجه موكب عروستنا بملابسها البيضاء الى الكنيسة وسلمت من والدها الى عريسنا الذي كان ينتظرها عند باب كنيسة مريم العذراء ، تأبطت ذراعه ودخلا الكنيسة على صوت الزغاريد والتصفيق والغناء من الحاضرين.
وقف فتوحي وخانم امام مذبح الكنيسة المزين بأكاليل الزهور حيث الكاهن مع الشمامسة واقفين بانتظار العريسان ، عند بدأ مراسيم اكليل الزواج يسود الكنيسة الهدوء والسكوت ينتظرون نهاية الصلاة لتبدأ الزغاريد من جديد .   
اكتملت مراسيم الزواج وخرج الجميع من الكنيسة على صوت الزغاريد والغناء ، من امام باب الكنيسة
امتطى كل فارس جواده وركبت عروستنا فرسها وأمامها عربة يجرها حصانان تحمل جهاز عرسها وحاجات مطبخها والمقصود بذلك عرض ثروة العريس ، يصل العريس وأصدقائه الى المنزل قبل وصول موكب عروستنا الى دار عريسنا فتوحي حيث يكون في استقبالها امام باب منزله وتقوم عروستنا من جانبها ايضا بالدلال وتتظاهر بالامتناع عن النزول من على متن الفرس ، لكن الامور تسير في مجراها الطبيعي كما رتب لها .وقبل دخول عروستنا بيتها المستقبلي تصاحبه طقوس تقليدية اذا قبل عبورها عتبة الباب على عروستنا ان تخطو فوق شظايا قطع لإناء فخاري محطم معبأ بالنقود .  
دخلت عروستنا خانم الى فناء المنزل وجلست على منصة في احدى زوايا الفناء هادئة وبجانبها فتوحي لا تنبس ببنت شفة كالوثن تحت خمارها الابيض المسدول وعند اكمال الحشد والغناء والرقص وملء الفؤاد ويرهق الراقصين من الرقص قدم فتوحي هدية ثمينة لعروسته وعند ذلك انبعث أزيز طلقة من مسدس احد اصدقائه اشارة الى انتهاء الحفلة . بدأ الضيوف المغادرة متوجون نحو بيوتهم .
ها هما الزوجان في ريعان شبابها وقد استقرا في بيتهما الجديد ، فقد كانت خانم ملكة متوجة في بيتها وخلق الباري المرأة لكي تخلق بيتاً هذه حكاية كلدانية فتبدأ الحياة بالسير على وتيرتها اليومية وهما في نعيم متواصل والمرأة الفاضلة باهظة الثمن وأنهما محافظان على زواجهما في اتحادهما بأواصر المحبة والإخلاص الى نهاية العمر.  وأي سرور ينتابهما عندما ينثنيان على المهد ويلمحان أول ابتسامة كي يداعبا اطفالهما ويصغي فتوحي الى اغنية المهد التي تتمتم خانم بهدوء لتهدئة طفلها وتسليته .
 رزق فتوحي من خانم اربعة بنات وصبيان هم ( مينا ، صوفيا ،نازلي ، جيران ، نوري ، قسطنطين).

   

نوري فتوحي :
ولد نوري عام 1907 وظهرت عليه علامات الذكاء وهو طفل صغير امتاز بالهدوء والثقة بالنفس .
ازدهرت تجارة والده وخاله عبد الكريم علكة ووصلت الى بيروت فقد كانا يترددان على العاصمة اللبنانية وعلما بتأسيس كلية الاباء اليسوعيين ، ففي عام 1839 استطاع الآباء اليسوعيين شراء عقار لهم خارج سور مدينة بيروت في مزرعة الصيفي ، وقاموا بإنشاء عدة مدارس ومطبعة ، وعدة مراكز يسوعيّة ومنذ عام 1843م أسس الآباء اليسوعيون مدرسة ثانوية قي منطقة غزير اعتبرت فيما بعد لولادة الجامعة اليسوعيّة في بيروت ، فقد استطاعت هذه الثانوية استقطاب المئات من اللبنانيين والسوريين والعراقيين المسيحيين ، وقد تخرج منها عدد كبير من رجال الدين العلمانيين ، أصبح منهم فيما بعد بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان ورجال سياسة ومدّرسين وأدباء وعلماء.
في عام 1919 ارسل نوري الى بيروت للدراسة في كلية الاباء اليسوعيين حيث اكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها وكان من المتفوقين مما حفز اهله ارساله الى جنيف لدراسة الطب في جامعة جنيف عام 1928 ، وأثناء اقامته في جنيف كان على اتصال دائم مع وطنه وأهله وكان يحتل ركنا مهما من اركان الجالية العراقيه في جنيف حيث كان يرافق قسم من الوفود التي تحضر الاجتماعات الدولية وذلك لغرض الترجمة من اللغة الفرنسية الى العربية
في عام 1935 عاد الى الوطن يحمل شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة وشهادة الدكتوراه في الطب حيث كانت اطروحته عن مرض "ذات الجنب" هو التهاب في النسيج المحيط بالرئتين و الصدر الذي يسمى الجنبة . وقد نظمت الاطروحة على شكل كتيب باللغة الفرنسية التي كان يجيدها اجادة تامة بالإضافة الى الانكليزية والتركية والكردية والعربية .
أول تعينه كان طبيا سيار في الشرقاط وسنجار (اي يتنقل من قرية الى اخرى ) ، حيث  عمل ستة اشهر يتنقل بين العشائر قام بتنظيم حملات ضد الامراض المتفشية في تلك المنطقة ولابد من الاشارة الى ان الامراض التي كانت منتشرة هي الاسهال في الصيف خاصة للأطفال الذين تتراوح اعمارهم بين الشهر الثامن والشهر الثاني عشر او بعده بقليل وكثيرا ما يؤدي المرض بحياة الاطفال ومن الامراض الاكثر انتشارا فهو البول الدموي.والزحارو الدوسنتري  فهو كذلك من الامراض المتفشية ، بالاضافة الى وباء الكوليرا وكان يسمى ابو زوعة أي ان الانسان يبدأ بالتقيؤ الكثير والإسهال الكثير ثم يموت وبدأ الناس يشعرون بأن التطعيم ضروري فيتهافتون على الدوائر الصحية .

  


طبيب في السليمانية

في عام 1936 انتقل الى قضاء حلبجة في محافظة السليمانية وعمل هناك ثم عين بعدها طبيبا في مستشفى السليمانية حيث ادى واجبه بكل دقة وأمانة وإخلاص تجاه اهل البلد بمختلف مستوياتهم . اثناء ذلك ترأس حملات عديدة للقضاء على الامراض المتوطنة في قرى كثيرة ضد امراض الملاريا والتفوئيس بصورة خاصة ، وبقية الاوبئة بصورة عامة وكان يتنقل بين العشائر الكردية لتنظيم حملات ضد الامراض المتفشية في المناطق للعلم يقال آه من الملاريا ذلك المرض الذي كان منتشرا نتيجة البعوض الذي يعيش على البرك المائية المنتشرة في المنطقة يفتك بالصغار والكبار على السواء فلم يسلم منه بيت ولم تسلم منه نفس ، انه المرض اللعين الذي كان يصيب الجميع ، حدثني احد الشيوخ فيقول ترتجف منه اجسامهم وتضعف حياهم لقد كان يصيب طلاب الصفوف الابتدائية يشعرون بالرجفة ويتركون الدرس ويعودوا الى بيوتهم ليقضون فيها ساعة الرجف وفترة الحمى. وكان الطلاب وقت الصباح في المدرسة يسقوهم مادة وردية اللون مرة كالحنظل تسمى القنقينة او "الكينينة " كان يعطي لكل واحد منهم ملأ استكان صباحا ومثله عصرا ، ومعظمهم يتقيأ من شدة مرارته وحينئذ تبدأ الحمى تفارقهم ويشعرون بتحسن صحتهم ، ولم يكن الحال منطبقا على الصغار طلاب المدرسة ، انما كان الحال مع الاهل في البيوت ومع اخوانهم وآبائهم ، ومع هذا فمرض البول الدموي (البلهارزيا) كان كثير ألانتشار والناس لا تهتم به كما تهتم بغيره من الامراض المتوطنة . وعمل مع البروفيسور بيتي بهذا الشأن للقضاء على الامراض المتوطنة في المناطق القروية .
اصبح في عام 1943 رئيس لصحة محافظة السليمانية لغاية عام 1947 وترأس عدة حملات لمكافحة الامراض ،كانت عيادته الطبية الخاصة مزدحمة بالمراجعين و كان يأخذ كلفة فحص المريض خمسون فلس ويفحص المرضى الفقراء يوم الاربعاء والخميس مجانا . يحكى ان في احد الايام دخل عليه الزعيم الكردي المرحوم ملا مصطفى البارزاني ومعه نجله المريض رحمه الله عليهما ففي عام 1935 تم نفي البارزاني مصطفى إلى مدينة السليمانية مع أخيه الشيخ أحمد .ولم يكن الدكتور نوري على معرفة بالبارزاني ولم يسمع عن نفيه او أنه كان يقود حركة كردية . رحب به كأي مراجع للعيادة وفحص الطفل المريض ووصف له الدواء وسلمه الوصفة وودعه وخرج ، شعر نوري ان البارزاني لا يستطيع شراء الدواء ، بعد انتهاء عمله في العيادة توجه نوري الى صيدلية رءوف وهي الصيدلية الوحيدة في المدينة في تلك الفترة واشترى الدواء الذي وصفة لنجل البارزاني وسأل عن داره اين يسكن توجه نحو منزل البارزاني الذي كان يقع في محلة قزازكان وقدم الدواء له ،كان هذا اليوم عربونا لصداقة البارزاني مع الدكتور نوري .

  


طبيب في بغداد

في عام 1947 نقل الى بغداد بناء على طلبه وعين طبيبا في مستوصف الاعظمية وقد ساهم مساهمة جدية في تطويره وتحويله الى مستشفى حيث كان من مؤسسي أول مستشفى في الاعظمية وأصبح باسم مستشفى النعمان  ،ولم يحالفه الحظ لكي يكون في المستشفى حيث نقل أول يوم افتتاحه الى عيادة الكرخ مديرا لها وخلال تلك الفترة كان الطبيب الخاص لعدد من الساسة الوطنين مثل حكمت سليمان ورشيد على الكيلاني حيث كانوا من اعز اصدقائه .
ومن  ذكريات اول اذاعي كردي السيد كامل كاكة امين المنشورة في شفق نيوز انه في اوائل 1957. بعد تمديد ساعات البث الصباحي والمسائي للإذاعة الكردية قدم الدكتور نوري فتوحي برنامج صحي في الاذاعة .
تسلم منصب رئيس صحة محافظة بغداد سنة 1958 لغاية حتى سنة  1961 وفي هذه الفترة خدم الصحة بصورة فعالة وجدية وكان له الدور الكبير في ترتيب التنظيمات الادارية وتوزيع الخدمات الصحية في جميع المحافظة .

          

هيئت الظروف الفرصة أمام البارزاني ورجالهِ للعودة إلى العراق بعد انقلاب ثورة 14 تموز 1958 ،حيث كان يقيم في روسيا وكانت الحكومة العراقية الجديدة بقيادة عبد الكريم قاسم من مصلحتها إقامة العلاقات مع الكرد . في  16/10/1958 وصلَ إلى بغداد ، وطلب البارازاني ان يكون الدكتور نوري طبيبه الخاص ويثق بعلاجه ، وفي اواخر عام 1960 غادر البارزاني بغداد وكانت مغادرته الأخيرة للعاصمة ، فقد أنتقل الى جبال كردستان حيث موطنه الأصلي وبدأ ثورة أيلول الكبرى عام 1961 بقيادته.

 

        

في عام 1961 عين الدكتور نوري رئيس لصحة محافظة كركوك ولم يباشر بالعمل حيث احيل الى التقاعد بناء على طلبه وتفرغ للعمل في عيادته الخاصة التي كانت واقعة في شارع الرشيد وكرس باقي حياته لخدمه مرضاه وكان تعاملهم معهم بعيد كل البعد عن المادة  وكانت اكثر معايناه مجانية وحتى النواحي العلاجية حيث كان يقدم لهم الدواء او ثمنه الى المريض المحتاج.

            

الخاتمة
هناك كثير من الشخصيات المسيحية لعبوا دوراَ كبيراَ في خدمة ثقافة شعبهم ، وتعريفها ببقية القوميات . ولكنهم بقوا بعيدين عن الأضواء دون الاهتمام حتى الذي كرس نفسه لخدمة أبناء جلدته مدافعاَ عن حقوقهم في بناء العراق المعاصر. خدم الفقيد العراق خدمات لا ينكرها احد ، في النهاية اود ان اقول لم يعلم احد عن فلسفته أو شعاره بالحياة  بصورة كلامية او خطية بل نستطيع ان نقول ان اعماله وحياته هي انعكاس لنظريته في الحياة ، رحم الله الفقيد الدكتور نوري فتوحي .

المصادر :
1.الاثار الكاملة ..توفيق وهبي بك .الجزء الاول
2.ك.بدرخان : المرأة الكردية ،هاوار ، العدد 19 ، 1938
3.أف . پارت : مبادئ المنظمات الاجتماعية في كردستان الجنوبية ،اسلو 1953.
4.الكرد . المستشرق توما بوا ، مركز الدراسات الكردية
5.تاريخ اعلام الطب العراقي الحديث .الجزء الثاني الدكتور أديب توفيق الفكيكي

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع