الباب الثاني: حروب الهدم البنائي الفصل الخامس: آثار الحروب في عملية الهدم الاجتماعي

       

الباب الثاني: حروب الهدم البنائي
الفصل الخامس: آثار الحروب في عملية الهدم الاجتماعي

  

المسؤولية الاعتبارية

لم تكن الحروب التي حصلت من وعلى أرض العراق، حروباً يتحمل مسؤوليتها الشعب العراقي فعلياً، وان صفقَ الغالبية لحصولها تحت تخدير الانتفاع وإنعاش الذات المشبعة بالدونية، ولم تكن وقائعها كآخر وسيلة لفض النزاعات، كما هو حالها في علوم السياسة ومفاهيم التوازن والصراع. إنها رغبة للدول النافذة كسبيل لادارة الصراع في المنطقة وفعل للقادة المحليين شخصياً سواء بجعلها خياراً وحيداً، يتم اللجوء اليه حال امتلاك القوة. أو من خلال الوقوع بوهم استغلال الفرص المتاحة لتحقيق الأهداف.اذ لم تشهد وقائعها مع ايران على سبيل المثال، ولا مع الكويت نفاذ السبل الدبلوماسية قبل وقوعها، بل وعلى العكس من هذا، كان المشهد السياسي الأخير لما يتعلق بالحرب مع الكويت اجتماع بين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزة الدوري، وولي العهد الكويتي سعد الصباح، وكأنه اسقاط فرض من قبل الطرفين، حصلت فيه تهديدات لا تمت الى الدبلوماسية، ولا الى الضغوط الاقتصادية بصلة، ولو ان العراق في حينها لم يعد يمتلك من الاوراق الاقتصادية والسياسية، ما يكفي للضغط على الكويت.      

سلبية النتائج
ان حروب العراق، "الخليج الاولى والثانية والثالثة" تقليدية، أستخدمت فيها كافة أنواع الاسلحة والمعدات سعياً من جميع أطرافها الى تدمير الطرف المقابل وإرغامه على القبول بما هو مطلوب، وقد انتهت جميعها نهايات غير تقليدية، فالاولى مع ايران لم يستطع أي من الطرفين فرض ارادته على الطرف الآخر، لان النتيجة كانت تدميراً متعادلاً، والثانية مع الكويت، لم تُرغم الكويتيين على الاستسلام، ولا العراقيين على تغيير قناعاتهم تجاه الكويت. أما الثالثة والاخيرة، فكانت نتيجتها غير تقليدية أيضاً، أرغمت الخاسر "صدام" على التواري ثم عزله عن الحكم وتغييره أي الحكم الى آخر دون حصول اتفاق بين الرابح والخاسر على تحمل المسؤولية والتبعات، كما هو حال باقي الحروب... حروبٌ أفتُعلتْ، بدأت وانتهت، وتركت آثاراً من النواحي الاجتماعية، جميعها سلبية. فالعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية، تغيرت، تغيراً واسعاً كانت بدايته الفعلية من الحرب الاولى مع ايران، التي كثرت فيها الخسارة، وتردى على اعتابها المستوى المعاشي، وقل التكافل القرابي، واندفع الجمع الى الفردية، فالابن الذي يقيم في بغداد مثلاً لم يعد قادراً بسبب العوز المادي، من الذهاب الى زيارة والديه المقيمين في بابل اسبوعياً كما كان يفعل من قبل، وَمدَ المسافة لتكون شهرياً، وأكثر من هذا كلما زاد عوزه المادي، مد المسافة الى أشهر وأحياناً الى سنوات. بعدٌ أو ابتعاد، تجاوز الوالدين في دائرة العلاقة القرابية، ليشمل الاخوة وابنائهم، والعمام وعوائلهم، فاتسعت المسافة النفسية، واستمرت بالاتساع، فضاع وسطها التكافل الذي ميّزَ القرابة عند أهل العراق لعقود من الزمن.
وفي الحصار الذي ضاعف مستويات الفقر، وجد الأب انه مسؤول عن ابناءه يحاول اطعامهم بالقدر المعقول، ووجد انه غير متحمس لاطعام اولاد شقيقته أو شقيقه المحتاجين الى الطعام بدرجة أكبر، وهكذا بعدت المسافة بينهم، وقل التكافل قيمة اجتماعية كانت تميز علاقاتهم.        
ان الحروب التي خاضتها الحكومة العراقية من عام 1980 واستمرت بشكل شبه متواصل الى عام 2003، وامتدت بصيغ أخرى حتى وقتنا الراهن"2012" طالت آثارها السلبية بناه التحتية في الصناعة والزراعة والتجارة والتربية.... آثار مادية يمكن تلافيها بجهد مضاعف من قبل الدولة والمجتمع، لكن الآثار الأكثر تأثيراً واستمراراً هي النفسية والاجتماعية.
فالاضطرابات النفسية التي تصيب الفرد والجماعة جراء الحروب وضغوطها، يصعب التخلص منها في مجتمع مثل العراق الذي لا يمتلك برامجاً وجهداً نفسياً منظماً لهذه الاغراض، ولا قدرات فردية بعد أن تركه غالبية الاطباء النفسيين المعروفين، وهاجروا للعمل والاقامة خارجه.
والآفات الاجتماعية التي استشرت خلال الحرب والحصار وما بعدها مثل الفساد، والسرقة والتجاوز، والدعارة وغيرها قد اتسعت بالتدريج وان تغيرت الحكومة، وان وضعت في أعلى أولويات برامجها الانتخابية التخلص منها.
وانواع السلوك العدائي، الميال الى الانتقام والتنكيل والتهميش والاقصاء، قد تعززت في السلوك لتكون عند البعض عاداة يصعب التخلص منها دون جهد مركزي من قبل الدولة يستمر فاعلاً لعشرات السنين.
واتجاهات الانحياز والتفضيل التي شاعت، لا يمكن تجاوزها كذلك في عشرات السنين.
انها حالة تصدع نفسي اجتماعي اصابت المجتمع العراقي، امتدت الى الجيش والقوات المسلحة، ساعدت على تصدع ببنيتهما العامة، بعد ان اصبحت معضلة، هي الأكثر تاثيراً وتعقيداً لحياة ما بعد الحرب، وأكثر استمراراً في عملية الهدم. يصعب في ظروف الادارة الحالية، ومستويات التخلف الحضارية، التنبؤ بنهايتها، بعد انتقالها من جيل الى آخر تأثر بوقائعها، وأخذ من حيثياتها وقوداً لاستمرارها الى عدة أجيال متعاقبة(24).
ان آثار النتائج السلبية للحروب وأعمال القتال على المجتمع العراقي التي امتدت من ستينات القرن المنصرم، الى زمننا الحاضر "2012" كثيرة جداً، وشديدة جداً، حتى ان من كثرتها وشدتها باتت السبب الاساسي لحالة اضطراب عاشها العراقيون بينهم العسكريون، ومازالوا يعيشونها لأكثر من ثلاثة عقود متصلة. هذا ولأغراض ايضاح طبيعتها علمياً سيتم الاكتفاء ببعض جوانبها في عنوانين رئيسيين يتناول الاول الآثار المباشرة، والثاني غير المباشرة بايجاز يراد له ان يكون مادة أولية لمن يريد التفصيل في موضوعها الحيوي لاحقا، يمكن أن تساعد في إعطاء صورة أوضح، خاصة وإن أجيال الشباب والشيوخ الحالية، وما بينهم قد عاصروا زمنها أو عاشوا بعض أحداثها، وقد علقت في عقول غالبيتهم بعض آثارها.

الآثار الاجتماعية المباشرة

ان الحرب وبأي مكان تقام وفي أي وقت تكون، تترك آثاراً مباشرة على المجتمع الذي يكون سبباً في حصولها، وكذلك على المجتمعات المشاركة فيها، وآثاراً اخرى تختلف شدتها على المجتمعات التي تجبر ان تكون ساحة لها. فالحرب العالمية الثانية، تركت آثاراً شديدة على المانيا التي كانت سبب الحرب، خاصة على عسكرها الذي قاد معاركها وقاتل فيها. واقل منها على بريطانيا المشاركة فيها، واقل منهما سوية بالنسبة الى المجتمعات التي كانت اراضيها او بعض من اراضيها ساحة قتال وقتية مثل  تونس وليبيا التي مرت منهما الجيوش المتقاتلة في تلك الحرب. مثلٌ يصح على حرب الخليج الثانية، التي تركت آثاراً أشد واضخم على المجتمع العراقي وقواته المسلحة، الطرف الرئيسي فيها. ومن بعده الكويت المشارك فيها، واقل منهما السعودية التي انطلقت منها القوات المشاركة في الحرب. وهي  حروب وان تشابهت متغيرات التأثير الاجتماعية فيها مثل "العوز، التجاوز، الفساد، الخدر، التقصير، والاستغلال... الخ"، فان شدة التأثير على المجتمع وأمده، تختلف من مجتمع إلى آخر، تبعاً لمستويات تحضره، ومقادير تماسكه، وطبيعة نظمه السياسية، وسعة قيمه الاجتماعية، وعوامل أخرى(25).
فالحرب الامريكية الفيتنامية مثلاً تركت آثاراً على المجتمع الفيتنامي، كانت أشد مما هي عليه بالنسبة الى المجتمع الامريكي، كما استمرت فاعلية التأثير على المجتمع الاول، فترة اطول مما كانت عليه في الثاني، الذي استطاع بفترة قصيرة من انتهائها، تنمية اقتصادة، وتطوير قواته المسلحة، وتعويض خسارة الانسحاب شبه القسري، بتقوية ادوات ووسائل الحرب الباردة "النفسية" ومد النفوذ الى أماكن جديدة في العالم. كما ان الحرب العالمية الثانية التي تركت آثاراً كارثية على اليابان والمانيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا، فقد تخلص الالمان واليابانيون، من بعض آثارها الاجتماعية بوقت اسرع من باقي المجتمعات، التي عانت منها بنفس المقادير او قريباً منها. وعموما فان الآثار المباشرة للحرب على المجتمع والعسكر العراقي، كانت متعددة الاوجه، يؤشر حصولها بشكل واضح من خلال المجالات الآتية:     
1. الخسارة. لقد كلفت الحروب عراق الحاضر مقداراً كبيراً من الخسائر البشرية، تقدرها الاحصاءات العامة بما يزيد عن المليون، كما مبين من قبل. هم أو غالبيتهم من الصفوة، فقدوا أرواحهم شهداء، وأكثر منهم معاقين. رقم لاصابات، وان لم يأت من احصاءات معتمدة منهجياً، فهو على وجه العموم كبير نسبياً، لمجتمع لم يزيد تعداده عن الخمس والعشرين مليون نسمة آنذاك. خسارةٌ جلها من الاعمار المنتجة، كان تأثيرها كبيراً، لان آلاف العمال قد قضوا، ومثلهم علماء واساتذة ومتخصصين وفنيين، وعسكريين مهنيين قد غابوا استشهاداً أو اصابة، لم يعوضوا ولا يمكن ان يعوضوا في المستقبل القريب.
فخسارة عالم فيزياء أرسل الى جبهة الحرب لاغراض المعايشة، كسياق أمرت به القيادة لغير المقاتلين آنذاك، ومات فيها جراء القصف مثلاً، لا يمكن تعويضه في ظروف تعطلت فيها الدراسات العليا، وتوقفت البعثات الدراسية، والغي شراء المجلات العلمية.
وفقدان الأب، عسكري كان ام مدني، تسبب في إبقاء أسر بكاملها محتاجة من الناحية المادية والاجتماعية، وتسبب في انتقال اطفاله اليتامى الى الشارع دون رقيب قادر على الحسم والتقويم، ولا رمز يقلدونه مثالاً في عملية اكتساب معايير الرجولة والقيم الاجتماعية الصحيحة، وتسبب في دفع الزوجة الشابة الى التنقل بين الدوائر والمؤسسات، تستجدي استحقاقات زوجها بين موظفين بعضهم لا يرحم، ومجتمع ضاغط لا يتوقف عن سحق الضعاف، وتسبب في ان يتلقى الشارع أفواجاً من المعوزين، غير القادرين على تأمين حاجاتهم المادية والنفسية، الا بالطرق غير الشرعية.
والابن الشاب، المعيل الوحيد لعائلة فقيرة، وضعت كل آمالها في تعديل مستلزمات عيشها على نشأته واستمراره في الحياة، كان موته في معركة عابرة فاجعة، لفقدان العزيز، والسند الداعم لوجودها واستمرارها في الحياة، شعوراً يصيبها باليأس والاحباط وان امتلكت اعلى درجات التحمل والقدرات النفسية.   
إن الفقدان سواء كان للأب أو الزوج أو الأبن، هو شعور بقسوة الخسارة التي لا يمكن أن تعوض، وهي وان حاولت الحكومة التخفيف منها من خلال منح الشهيد قطعة ارض سكنية، وسيارة صالون، ومنح مالية، الا ان مشاهد انفعال تهجمي على الدولة سجلت في بعض سرادق العزاء، تؤشر ان محاولات التخفيف المادية، وان تُهَدّئ من انفعالات البعض، لكنها لا تلغي الشعور بالخسارة عند الكثير، والتي تصيب المعنيين بالاكتئاب، وتعزز من مشاعر عدوانيتهم ضد الدولة والمجتمع في بعض الاحيان. خسارة حتمت انتهاء اجيال في الجيش كانت مدربة، مهيئة، عُوضت بأخرى، لا يمكن ان تسد الفراغ الحاصل لعشرات مقبلة من السنين.     
2. الترمل. اذا ما كان العدد المذكور لشهداء الحروب التي تكررت، صحيحاً، واذا ما افترضنا، واسلمنا بضوء هذا الافتراض ان المجندين للحرب في تلك الحقبة الزمنية تقع متوسطات أعمارهم بين 20 ــ 40 عاماً، وافترضنا بالاضافة الى ما ورد من فروض وبضوء الاعراف والتقاليد الاجتماعية التي تحث على الزواج المبكر، وظروف الحرب التي تؤخر سن الزواج، أن نصف الشهداء كانوا متزوجين، فتكون النتيجة افتراض آخر قوامه أن ما يقارب نصف مليون أرملة كانت قد دفعت خارج بيوت الزوجية المطمئنة الى محيط الترمل المثير الى التوتر والضياع.         
إن هذا العدد الهائل من الأرامل، في ظروف تتزايد فيها الارقام، ويتدنى فيها مستوى العيش، ويزداد فيها الخوف من الغد غير المطمئن، أدت الى تأخر سن الزواج، حتى اضيف الى هذا العدد الهائل من الارامل، مثله من العوانس، والمطلقات، فاستقبل الشارع غير المستقر اجتماعياً واقتصادياً اعداداً هائلة من النسوة الشباب، اللواتي تفتش عن حضن آمن فلم تجده، وعن معيل ضامن فلم تجده، وعن اشباع شرعي للغريزة الجنسية فلم تجده أيضاً. فكانت مشكلة حقيقية، أدركت الحكومة أنذاك تبعاتها من معدلات الجريمة والانحراف المسجلة في الشارع، وحاولت التقليل من آثارها بتشجيع الزواج من الارامل وزوجات الشهداء، وخصصت منح مالية، لكن هذه المحاولات لم تخفف من وقع الاثر بالشكل الملموس، حتى باتت معدلات الانحراف الاخلاقي في ازدياد الى مستوى حدوثها ظاهرة انتشرت بكثرة في تسعينات القرن الماضي، فلجأت الحكومة عندها الى استخدام القوة لتقليل الاثر، مثل قطع رؤوس النسوة المشكوك بممارستهم البغاء، نوعاً من العلاج غير المعقول، ولم تخف الظاهرة التي انتقلت من الزمن القديم الى الزمن الجديد. اذاما أخذنا بالاعتبار أن النسوة اللواتي يفقدن ازواجهن المعيلين لهن كأرامل، عادة ما يعانين صعوبة تأمين العيش المناسب، وصعوبة التخلص من نظرة المجتمع القاسية الشكوكة للمرأة الارملة العاملة. الصعوبة التي تجعلها عرضة الى التحرش والمضايقات غير اللائقة.    
ان الاثر السلبي للترمل، تجاوز الجانب الاخلاقي الذي يعد جانباً مهماً في مجتمع اسلامي محافظ مثل العراق، الى حدود الاهمال غير المقصود من قبل بعض الارامل الضعيفات وغير الملتزمات لاطفالهن من البنين والبنات، حتى شب بعضهم اعوجاً، يقلد الام في سلوك خطأ، قد سلكته مجبورة او ينتقم من المجتمع الذي رملها ودفعها الى السلوك الخطأ، وبالنتيجة تم ضخ آلاف من القتلة والسراق والمجرمين الى شارع ضعفت فيه السلطة الأمنية والاجتماعية والادارية الضابطة. جانب خطأ يفسر جانب آخر من استجابات التجاوز والخطأ والانحراف، التي سادت بين الشباب بعد 2003 عندما غابت السلطة الضابطة فجأة، وأنطلقت بسبب غيابها الغريزة الحيوانية عند البعض من عقالها، فأشعلت نيران تناحر قتالي ما زال لهيبها قائما الى عام 2012. لتضيف المزيد الى كم الارامل الموجود في الاصل. بصدده وجدت دراسة لمنظمة الاغاثة العالمية عام 2011 أن ثلاث من كل خمس ارامل في العراق فقدن ازواجهن في سنوات العنف التي اعقبت التغيير عام 2003، ووجدت ايضا أن 10% من نساء العراق البالغ عددهن بحدود 15 مليون أمرأة هن أرامل، بينهن 59% قد ترملن ابان الحروب السابقة. وفي استنتاجاتها حذرت الدراسة من احتمالات قيام العصابات الاجرامية والمجموعات الارهابية بتجنيد بعض الارامل اليائسات، مشيرة الى ضرورة ان تحل مشاكلهن، وبعكسه يمكن ان يُجر بعضهن الى الدعارة والمخدرات واعمال الارهاب (26).
ان اعداد الارامل في تزايد مستمر حتى ان البعض من الباحثين، يخشى ان يكون العراق من اكثر المجتمعات التي تحوي على ارامل. مشيراً الى احصائية رسمية لوزارة التخطيط عام 2007 تبين أن من مجموع ثمانية ملايين ونصف أمرأة عراقية بين الاعمار (15 – 80) هناك ما يقارب من المليون أرملة. اعداد اخلت بالتوازن الاجتماعي، وشكلت ضغوطاً على الدولة، وعلى أية حكومة تأتي في الوقت الراهن والمستقبل، حيث ستستنزف طاقتها التي يفترض ان يخصص جزء منها الى ادارة ودعم الحرب الدائرة ضد الارهاب، وجزءً آخراً لاعادة بناء الجيش والقوات المسلحة.  
3. اليتم. ان الانسان العراقي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كان ميالاً للانجاب، فلا يكتفي مثل ابناء جنسه في الدول المتقدمة بطفلين وحيدين، مؤمن باعتقاد نافذ في داخله انه ملزم بالانجاب لزيادة اعداد الامة. حقيقةٌ نقدر بضوئها، معدل أفراد العائلة العراقية الشابة بحدود الخمسة أفراد، منه والرقم المذكور عن الشهداء وقتلى الحروب والارهاب، سيكون لدينا أكثر من مليوني يتيم فاقدين الرعاية الأبوية. واذا ما تصورنا، غالبية الامهات الارامل غير قادرات على تامين العيش الملائم، نصل الى استنتاج سريع قوامه، وجود اهمال حتمي في التربية البيتية. ودفع للاطفال تحت ضغط العوز الى العمل المبكر على حساب الاستمرار بالدراسة. واستغلال الاطفال المهملين في قضايا اخلاقية، وجرمية من قبل البعض المسيطر على سوق العمل. وعلى اساس هذا الوجود، يمكن تصور كم الانحراف الموجود بين الاطفال اليتامى والشذوذ الموجود بين الشباب اليتامى، وكم هو التردي والإضطراب في الجانب القيمي لشرائح يعول عليها اجتماعيا(27). وتأكيدا على هذا الاستنتاج، فقد تكشفت عام 2007 فضيحة تعامل غير انساني مع أطفال يتامى من ذوي الحاجات الخاصة، يقيمون في احد الدور الرسمية للدولة، حيث التجويع، والتعامل المخل انسانياً. وذكر مركز الدفاع عن حقوق الاطفال في العراق أن ما لايقل عن 1450 طفلاً مشرداً في مدينتي كركوك وبغداد وحدهما، يعيشون في الشوارع والاحياء ومرآب السيارات وتحت الجسور، يتم استغلالهم بابشع صور الاستغلال الجنسي والارهاب وتعاطي المخدرات، وغيرها من الاعمال التي يفرضها الكبار على هؤلاء الاطفال المشردين(28). معاناةٌ حقيقية يمكن إرجاع بعض دوافعها الى ما سببته الحروب، من غياب للاب والترمل والعنوسة وبعثرة العائلة والاولاد، وضعف الادارة العامة للمجتمع، اذا لم تحل جوانبها المادية والنفسية، ستنشأ أجيالاً من الشباب، تسيطر عليها المشاعر العدائية، لا تصلح ان تعمل في المؤسسات العسكرية والامنية، بمجتمع مثل العراق، هدمت العدائية الشائعة بعض اركانه.  
4. العوق. محصلة حروب العراق خسارة ارواح ذكرت بما يزيد عن المليون، واصابات تصل الى ضعف العدد الكلي لخسائر الموت المذكورة، على وفق القياسات التقليدية للحروب، كل الحروب وفي كافة المجتمعات البشرية. على اساسها يمكن تقدير عدد الجرحى أو عدد الاصابات بحدود المليونين على أقل تقدير. بعضها بسيط يشفى صاحبه سريعاً، لا تعيقه من ممارسة أعماله الحياتية التقليدية. واخرى بنسبة تصل الى 50% تكون بدرجة اكبر يمكن تصنيفها بالمتوسطة، تتسبب في اعاقة المصابين عن ممارسة أعمالهم الحياتية جزئياً. تترك أثراً ملحوظاً على البنية العامة لجسم المعني، وربما على حالته النفسية. كذلك يمكن ان تكون مستويات الاصابة بدرجة أعلى من التصنيفين المدرجين في أعلاه من حيث الشدة. تترك أثراً واضحاً، فيه إعاقة تمتد طويلاً "دائمة" بمستوى تجعل صاحبها غير قادر على ممارسة حياته العملية، بشكل أعتيادي. هذا وبالعودة الى عدد المصابين جراء الحروب التي قدرت افتراضا بمليونين اصابة، تجعل تقسيمها من حيث الشدة الى ثلاث مستويات أفتراضية أيضاً، على اساسها يمكن القول ثلث المليونين هم من ذوي الاصابات الشديدة التي تحول دون قيامهم بالعمل الذي يكفل عيشهم، ودون قيامهم بممارسة حياتهم الاجتماعية بشكل طبيعي، وهذا تصنيف عددي، إذا ما وضعنا محدودية تقديم الدولة العراقية للرعاية والدعم اللازم لمثل هؤلاء المصابين، خاصة بعد 2003 عندما اضطربت الادارة وتحددت اتجاهات الميزانية والصرف، وعندما حاول البعض تسييس هذا الموضوع وربط الاصابات السابقة على وجه الخصوص بحروب افتعلها صدام، متجاوزين على أحقية الجانبين المهني والانساني في موضوع الاصابة. منها يتبين أن مئات الآلاف من العراقيين باتوا يعانون إعاقات ليست عضوية فقط، بل وكذلك إجتماعية لما تتركه من معاناة نفسية، بينها على سبيل المثال عدم قدرة البعض على التواصل مع العائلة والمحيط الاجتماعي وعلى الزواج، ومن كان متزوجاً عدم قدرته على الانجاب أو على الايفاء بمتطلباته جنسياً أو على رعاية الزوجة والاولاد، وهذا واقع حال يعني إضافة أعداداً من الاولاد المحرومين انفعالياً، والزوجات المحرومات عاطفياً إلى اعداد تعاني نفسياً واجتماعياً، عندها ستكون الاثار الاجتماعية شديدة على مجتمع غير مستقر إقتصادياً وأمنياً واجتماعياً منذ عام 1968 قمة الحروب الداخلية، وعام 1980 بداية الحروب الخارجية وحتى عام 2012 التي لم تنتهي فيه الحروب والصراعات الداخلية بتأثيراتها الخارجية(29).
ان الاعاقة في العراق باتت معضلة مستمرة، بسبب اعمال الارهاب والقتال الداخلي، وبسبب الالغام التي خلفتها الحروب، اذ ان بعض الاحصاءات التي اوردتها المنظمة العراقية لازالة الالغام ان هناك ما يقارب 25 مليون لغم مزروعة بمناطق متفرقة من جنوب العراق حتى شماله في كردستان، عدا القنابل العنقودية والتقليدية غير المنفجرة، مما يعني ان لكل فرد لغم ينتظر التفجير عرضاً، ويعني ان يومياً يضاف معاق الى قائمة المعاقين، التي قدرتها دراسة لمنظمة المعاقين الدولية بالتعاون مع وزارتي العمل والصحة بمليون معاق، مؤكدة ان واحد من بين كل 25 عراقي بات معاقاً، وانه لا يمر شهر على اقليم كردستان من دون ان يَنْظم شخصان او اكثر الى قائمة المعاقين، وكذلك الحال في محافظتي البصرة وميسان من الجنوب، وتؤكد المنظمة أن في البصرة وحدها بات المعاقون جزءً من المشهد اليومي للمدينة، وان غالبيتهم يعيشون حياة صعبة، اذ يمتهن بعضهم الاستجداء في الاماكن العامة، بالزحف على اطرافه السفلى او ملوحين باطراف عليا مبتورة. وذكرت نفس المصادر أن عدد المعاقين العراقيين المنتسبين الى هيئة رعاية معوقي الحرب 436000 معاق بينهم 5600 من ذوي العجز الكلي، و100 الف مبتوري الاعضاء ومثلهم مكفوفين، و205 ألف مهددين بالعمى وضعف البصر، وان الكثير منهم يعانون اضطرابات نفسية، ويجدون انفسهم قد تحولوا بشكل مفاجئ من عسكريين معيلين لعوائلهم الى عاطلين، غير مكفولين، يكونون عالة عليها(30). منظرٌ بائس، اذا لم يتم تجاوز بؤسه، لا يمكن اعادة بناء قوات مسلحة، قادرة على ادامة زخم القتال نفسياً.
5. الفقدان. الموت في الحرب تحصيل حاصل، وكذلك الاصابة بدرجاتها المختلفة، ومثلهما الاسر والفقدان. حصل في الحرب مع ايران بشكل أكبر واكثر ايلاماً، اذ بقي البعض ماسوراً أكثر من عشرين سنة، وفقد البعض حياته ثمناً لموقفه المهني فيها، وعومل البعض الآخر بقسوة شديدة أخلت بحالته النفسية، واستمرت مشاكل المفقودين منهم مستمرة لأكثر من ثلاث عقود من حصولها، بين دولتين مسلمتين.
أن عدد الاسرى والمفقودين قُدر بحدود الربع مليون أسير ومفقود، ناتج جميع الحروب الداخلية مع الاكراد في الشمال، نزولاً عند حروب اقيمت مع إيران والكويت، وإنتهاءً بالاحتلال عام 2003، غالبيتهم يعانون معاناة نفسية وعضوية لا تقل عند البعض منهم عن معاناة المعاقين، لانهم شريحة وقعت بين مطرقة الحاكم في الزمن السابق، وسندان الدولة الجديدة. فالاول لم يكن يحترم الاسير، حتى ان سلوكه وتعامله مع الموضوع وقراراته ومباحثاته مع الطرف الايراني في حينه، تؤشر انه يعتبر المأسور شخص قصر في واجبه، كان يفترض به ان يموت دون ان يؤسر، كما يشك في وجود تقصير في الاداء تسبب في حصول الاسر، وعلى اساس هذه المشاعر غير السوية لم يحصل الاسرى خاصة على الرعاية المناسبة.
وفي الدولة الجديدة هناك رأي له قدر من التأثير، هو ان الاسرى كانوا لحرب تعود الى صدام، وناتجها وذنوبها عليه وعلى من شاركه فيها، وان كان جندياً بسيطاً، وبذا خسروا "الاسرى والمفقودين" الرعاية المطلوبة. وخسر موضوع الاسر فرص الدراسة والبحث والمتابعة، بالمقارنة مع مواضيع اخرى تتعلق بالحرب. وخسر العسكر حقهم في التخلص من اعباء القتال. وخسر المجتمع قدر من استقراره المطلوب"
فعديد من حالات الانفصال بين الازواج ابان وجود الاسير في اسره قد حصلت، ومثلها بعد عودته،  قد حصلت ايضاً. وعديد من الزوجات لم تعد تقوى على تحمل ضغوط العيش مع الزوج العائد من الاسر. وانعزل عديد من الاسرى العائدين، عن عوائلم، لتجاوز بعض اعضائها على حقوقهم أثناء غيابهم عنها ابان فترة الاسر، مثل سيارته وماله، وأحيانا بيته وحتى زوجته. وصعب على عديد من الاسرى العائدين، العودة الى الحياة الطبيعية والتكيف لها من جديد، بعد ان امضى البعض جزءً من حياته تحت ضغط خصم آسر لا يتفاهم، او سجن انفرادي لا يرحم، اختل بسببها نفسياً، بدرجات متفاوتة تبدأ من الضجر والميل الى العزلة من ثم الى الاكتئاب الشديد، مروراً بالهلاوس والتهيؤات.
انها وبمجموعها ضغوط، واخرى غيرها، تسببت في حصول مشاكل وإضطرابات إجتماعية متعددة الأوجه.
ان الاسر وأكثر منه الفقدان، حالة تتعدى آثارها الزوج الغائب، لتطال الزوجة التي فقدت شريك حياتها في ظروف غير طبيعية، وبقيت متعلقة بأمل مفقود، وحيرة بين البقاء في دائرة الامل، مستسلمة للقدر، وبين منطقية العيش على وفق استحقاقات الحياة العملية. وتطال الام التي فقدت عزيزاً أو معيلاً، وبقيت في وضع نفسي كئيب تمني نفسها بالقدوم وان يأست من حصوله بين الحين والاخر. وكذلك الأبنة التي تنتظر داعماً لها، والأبن الذي يفتش عن معين له، مما تسبب في إضافة العديد من المشاكل الاجتماعية، التي تفوق آثارها المباشرة وغير المباشرة تلك الآثار التي تسببت في حصولها صدمة الأسر والفقدان من الناحية النفسية. مشاكل يرصدها العسكري الموجود في الخدمة، يتكلم عنها مع الزملاء والاقرباء> بمحصلة تؤثر سلباً على من وضع نفسه في خانة البناء.    
6. التهجير. الحرب دمار للمنطقة التي تحدث فيها او قريباً منها، ومن بين الدمار الذي يحصل هجرة من المنطقة نفسها الى مناطق أخرى داخل البلد او خارجه، هذه في الحروب التقليدية اما حروب الأمن الداخلي، فيصحبها كما حصل بالعراق، تهجير قسري مصحوب بمشاعر الحيف، وهجرة طوعية الى الخارج مصحوبة بالمقت وخدش الوطنية. هجرةٌ قدرت اعدادها بعض المصادر العراقية والدولية غير الرسمية بما يزيد عن الثلاثة ملايين فرد خلال تلك الأعوام التي أشتدت فيها الحروب، هجرةٌ لابناء جميع الطوائف والأقوام والديانات دونما استثناء، كانت قسرية غير منظمة، أربكت المجتمع العراقي، وزادت من الضغوط على الجيش والقوات المسلحة، وأفرزت العديد من الحالات الاجتماعية السلبية متعدده الجوانب على الصعيد المجتمعي العراقي، إذا ما تم النظر إلى جوانبها النوعية، منها يتبين أن أساتذة متميزون، وعلماء مرموقون، وأطباء اختصاصيون، وفنانون مقتدرون، وأدباء معروفون، وضباط وطنيون، وصناعيون متمكنون، وتجار نزيهون قد تركوا العراق، وان تركهم له في الظروف الصعبة، كوّنَ فراغاً علمياً واعتبارياً، لا يمكن سده لعشرات السنين، لأن ما يستغرقه الطبيب والفيزيائي والنفساني والضابط من زمن للتخصص ما بعد الدراسة الاولية، لا يقل عن العشر سنين، وما يحتاجه الصناعي والتاجر ليكون متمكناً فاعلاً في مجتمعه أكثر من العشر سنين.
وبمحصلة القول ان الفراغ الذي تركته الهجرة النوعية، التي بدأت بعد الحرب مع ايران، وأثناء الحصار، وزادت ابان الحرب الداخلية ضد الارهاب، من السعة حداً يصعب املاؤه وان تم ملؤه، حسب مقتضيات الحاجة سيكون ناقصاً، لان بعض اشخاصه، لا يرقى الى نفس مستوى الغائب، الذي ترك موقعه مهاجراً.
انها معظلة اكدها مدير دائرة الاعلام في وزارة الصحة، بالاشارة الى انه وفي عام 2006 فقط، هاجر ما بين 2000 – 3000 طبيب أخصائي من الدرجة الاولى كان البلد معتمداً عليهم فيما يتعلق بالصحة العامة والتدريس، وكانت هجرتهم بسبب اعمال العنف والتهديد، وكنتيجة لاغلاق بعض المؤسسات التي كانوا يعملون فيها، كما نوه عن ان الاطباء الخريجين الجدد يتوجهون الى تقديم معاملات ليس للتعيين على ملاك الوزارة، بل للحصول على وثائق تخرجهم وممارستهم المهنة، كي يعملوا في الخارج، ونوه عن مساومات قد جرت مع علماء وبينهم أطباء، من قبل جهات ارهابية، تخيرهم بين الموت او الهجرة.
وبنفس الاتجاه اكد وكيل وزارة الصحة مبيناً ان الوزارة تعاني نقصاً في الكادر الطبي المتخصص، وان مستشفيات تخصصية تعاني بشكل اشد، مثل مستشفى ابن النفيس التخصصي بامراض القلب، ومستشفى ابن الهيثم ومركز أمراض القلب في مدينة الطب.
كذلك بيَنَ المدير الاداري لرابطة التدريسيين العراقيين بان ثمن التهجير فادحاً، نتيجة استهداف كفاءاته العلمية، ونتيجة اصرار اطراف دولية لارجاع العراق الى العصور القديمة، مبيناً أن 185 استاذاً جامعياً قد اغتيل منذ التغيير الى عام 2006 ، وان وزارة الصحة قد خسرت لنفس الفترة بحدود 720 طبيبا بين قتيل وجريح(31).
انها حالة هجرة وخسارة تركت فراغاً علمياً لا يمكن إملاؤه لعشرات مقبلة من السنين، أربك إدارة الدولة والمجتمع، وخلق العديد من المشاكل والعثرات أمام إنسيابيتها المفروضة، ستبقى آثاره ماثلة لعديد مقبلة من السنيين.

الآثار الاجتماعية غير المباشرة

ان للحرب آثارها النفسية الاجتماعية المباشرة أو الملموسة، ولها ايضاً آثاراً غير مباشرة، لأن فيها قسوة، تنتج احباطاً.
خسارة، تستثير خوفاً، يعزز الشعور بالدونية.
وفيها ضعف اداري، يشتد تدريجياً مع أستمرارها، يؤدي الى التسيب.
أستنزاف للقدرات العامة، ووهن اقتصادي، تفضيان الى الفقر.
حرب نفسية للعدو المقابل، تكوّن شكوكاً وحيرة، واضطراباً في الروح الوطنية، وعدم أرتياح.
وغيرها آثار غير مباشرة على المجتمع الذي يخوض الحرب. هي في العراق كثيرة تم تناول غالبيتها في أبواب هذا الكتاب، مثل تفشي الفساد الاداري والاجتماعي والسياسي، وبروز ظاهرة الجريمة المنظمة، وأنتشار دائرة التزوير، واختلال روح المواطنة، واتساع دائرة الارهاب، ونماء التحلل الأخلاقي، والتخلف العلمي والأمية، وتدني مستويات الصحة العامة، وأنتشار الامراض المزمنة، والتشوه الخلقي، والنكوص الثقافي، وأختفاء الانشطة الخاصة بالثقافة والفنون، واتساع ثقافة الخوف والقلق(32)، وتصدع الطبقات الاجتماعية التقليدية، وأختفاء الطبقة الوسطى الراعية للتقدم والاستقرار، وبروز تجار الحروب على حساب الطبقات الفقيرة، واتساع الفجوة بين أفراد المجتمع، وبينهم من جهة وحكومتهم من جهة أخرى.
وامور اخرى تحتاج الى جهد علمي دقيق لإحصائها ومتابعتها من قبل الباحثين الاجتماعيين والنفسيين.
ان آثار الحروب بكافة أوجهها، المباشرة وغير المباشرة كارثية، أكثرها ايلاماً تلك الآثار النفسية على أطرافها الكبار أي المشاركين فيها، وعلى عوائلهم وأطفالهم، مثل تلك التي أكدها أحد ممثلي الامم المتحدة، باشارته الى ان نصف مليون طفل في العراق، بحاجة الى علاج نفسي جراء الحروب، وأكدها الباحثون النفسيون من باب الآثار التي تتركها صدمات الحروب "عقابيل ما بعد الشدة" التي أصابت الكثير من العراقين، والتي تفوق في شدتها كل الكوارث الطبيعية(33).

قيمومة الآثار
الحرب قائمة، وجدت مع الانسان، واستمرت وستستمر معه، حقيقة وجود دائمة، آثارها مثلها قائمة ومستمرة. المادية منها يمكن أن تنتهي، عند تمكن الدولة والمجتمع مغادرتها بروح التحدي واعادة البناء. فألمانيا تعمرت بعد الحرب الثانية بأحسن مما كانت عليه قبلها. وكذلك اليابان، ومثلهما بريطانيا وروسيا وآخرين. اما الاجتماعية فتبقى ماثلة طالما بقيت النفوس محبطة مستسلمة، قد تمتد الى أجيال وأجيال. فآثار الحرب العراقية الايرانية علقت ببعض محاربيها ومن عاصرها، وانتقلت منهم الى أبنائهم عاصروها أطفالا صغاراً. بعضهم شذ بسببها، وبات يعبث بمقدرات الناس قاتلاً أو عاطلاً أو فاسداً بعد ما يقارب ربع قرن من انتهائها.
انها آثار، هكذا قد تستمر لسنين أخرى، تبعاً لخطط الدولة والمجتمع في ادراك حقيقتها، ومن ثم التعامل معها والسعي إلى علاجها علاجاً صحيحاً، هو في العراق لم يكن موجوداً في الأصل، ولا توجد نوايا لإيجاده، لأن الأنظمة السابقة التي أفتعلت الحروب أهملت موضوع آثارها أو إنها لم تعترف بوجودها في الأصل، حتى ان لجنة بحوث أنشئت على مستوى الدولة العراقية ابان الحرب مع ايران، من بين مهامها دراسة آثارها، وعندما انجزب بعض بحوثها، وعرضتها للمناقشة بحضور وزير الداخلية سمير الشيخلي، منتصف ثمانينات القرن الماضي، أنكر وبغضب حدوث حالات دعارة وفساد في المجتمع، معلقاً وبصوت مسموع للباحثين والحضور، أن مجتمع يقوده البعث لايمكن أن تكون فيه دعارة أو فساد. نكران بعقلية الجاهل المنحاز، ضاعف آثارها. ولان الأنظمة اللاحقة لم تتذكرها، بإعتبارها غير مسؤولة عن حدوثها، وهي غير قادرة بإمكانياتها المحدودة على التعامل مع موضوعها، بل وأضافت عليها المزيد من المشاكل والاضطرابات. على العكس من الدول المتحضرة، التي لم تكتف بدراسة آثار الحرب على مجتمعها والمجتمعات الاخرى، وانما دفعت سياسييها الى التفكير والسعي باتجاه الحلول السلمية لمشاكلهم بدلاً من الحروب، وإيجاد روابط ثقافية وإجتماعية وسياسية واقتصادية تقربهم من بعضهم البعض، ليتفادوا الحروب وآثارها التدميرية مادياً وإجتماعياً، كما هو الحال بالنسبة إلى الاتحاد الاوربي التي تحملت بعض دوله وزر التقارب مادياً مع الدول الأخرى الأقل ثراءً، في سبيل إنشاء مجتمع أوسع تبتعد فيه المجتمعات الفرعية من الحروب وآثارها الاجتماعية.

التنبه الى الآثار
إن الحروب التي حصلت في العراق لا يتحمل المجتمع العراقي مسئولية حصولها كما ورد آنفاً، وان عاش برمته تحت ضغوطها، وكان ابناءه طرفاً مقاتلاً فيها. لقد حصلت وتركت آثاراً لا يستطيع هذا المجتمع بحالته الصعبة أن يتجاوزها، او تناسيها والقفز من فوقها، على هذا لابد أن يتوقف عندها وقفة صراحة، يتنبه لها وينبه الدولة بمؤسساتها المختلفة الى طبيعتها، ولابد للحكومة أية حكومة ان:
- تتنبه هي الاخرى لمعطياتها، وتسعى لتجاوز آثارها المباشرة وغير المباشرة من خلال برامج تشمل التربية والعلاقات العامة.
- تدفع باتجاه ترميم القيم وبناء الانسان العراقي وطنياً.
- تخصص ميزانيات مالية كافية تغطي خطى العلاج والترفيه والترميم والاطلاع على خبرات عالم آخر لم يترك أبناؤه تحت ضغوط الحرب، وان لم يكن طرفاً فيها.
انها السبيل الوحيد للتخلص من آثارها، مباشرة كانت أو غير مباشرة، والسبيل الوحيد لابقاء الجيش مؤسسة يرى منتسبوه في القتال عن الوطن واجب، دون التحسب لتلك الآثار وما ينجم عنها من لوم للضمير وخرق للحالة المعنوية.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/30513-2017-06-16-16-21-14.html
   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

947 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع