الحرة:منذ أكثر من خمسة عشر عاما، لم تغب التظاهرات الشعبية عن شوارع العراق. منذ عام 2010، شكّلت مطالب تحسين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، وتعبيد الطرق وتوفير فرص العمل، إلى جانب إصلاح النظام السياسي وإنهاء النفوذ السياسي، عناوين بارزة في حراك الشارع العراقي.
لكن الزخم السياسي لتلك التظاهرات تراجع بعد القمع الذي واجه احتجاجات تشرين 2019.
تحوّل التركيز بعد عام 2020 من إصلاح النظام السياسي إلى المطالب الخدمية بشكل أكبر.
عودة التظاهرات
خلال الأيام القليلة الماضية، عادت التظاهرات المطلبية إلى شوارع بغداد والبصرة والناصرية وديالى، مدفوعة بارتفاع درجات الحرارة إلى ما فوق 50 مئوية، وتفاقم أزمة الكهرباء ومياه الإسالة.
قطع المتظاهرون عددا من الطرق، بينما أدّت محاولات قوات الأمن فضّ التظاهرات إلى اندلاع اشتباكات في بعض المدن.
وتتزامن الحراك الجديد مع تحذيرات رسمية من احتمال توسعها إذا استمرت السلطات في تجاهل المطالب.
وحذر رئيس مجلس النواب، محمود المشهداني، في مقابلة تلفزيونية بُثّت في 13 يوليو، من احتمال اندلاع موجة احتجاجات جديدة خلال أغسطس القادم.
“هناك خشية من حدوث اضطرابات أمنية، وحينها لن نكون قادرين على تمديد عمل البرلمان، وبالتالي سنضطر إلى تشكيل حكومة طوارئ،” قال.
يشير النائب في مجلس النواب العراقي، علي الجوراني، إلى أن المشاركين في تظاهرات تشرين أصيبوا بخيبة أمل بسبب ما اعتراها من “تشوهات”.
وقال لـ”الحرة”: “نحن واثقون أن الحراك سيعود بصيغة صحية تحافظ على المطالب الحقة، وتضغط على الحكومات المحلية والاتحادية لإنجازها.
غياب القيادة وتراجع الدعم
رغم تجددها سنويا خصوصا في فصل الصيف، لم تتمكن التظاهرات من تحقيق أهدافها الخدمية أو السياسية، مع أن بعض الناشطين يعتقدون أنها حققت بعض المطالب.
“أجبرت التظاهرات رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي عام 2019 على الاستقالة، وغيرت قانون الانتخابات وأجريت بموجبه انتخابات عام 2021، وتمكن العديد من ناشطي الحراك الشعبي من الوصول إلى البرلمان لأول مرة،” تقول الناشطة ثريا أمير لـ”الحرة”.
شاركت ثريا أمير في معظم التظاهرات منذ 2010، بما فيها احتجاجات تشرين، وتؤكد أنها تعرّضت للضرب أكثر من مرة، وأصيبت برصاص بنادق الصيد التي استخدمتها القوات الأمنية عام 2020.
ما لم تستطع التظاهرة تحقيقه يرتبط بأسباب عدة؟
“غياب الوعي المجتمعي بأهمية التظاهرات والاحتجاجات وحقوق الموطنة، الى جانب غياب قيادة موحدة للتظاهرات،” تقول الناشطة.
تعتبر احتجاجات تشرين 2019 أكبر حركة احتجاجية شهدها العراق منذ عام 2003، وشملت العاصمة بغداد ومدن الجنوب، وطالبت بتغيير النظام السياسي في البلاد وإنهاء النفوذ الإيراني، وتشكيل حكومة مؤقتة والإعداد لانتخابات مبكرة تحت إشراف دولي.
لكنها لم تحقق أيا من تلك الأهداف، كما أنها لم تؤد إلى ظهور تيار مدني منظم وضاغط.
وبحسب الناشط مهند محمود، فإن “نرجسية بعض الناشطين وكثرة القيادات” أعاقت بناء حركة موحدة.
يقول محمود لـ”الحرة”، “لم تنته التظاهرات المطلبية في العراق، لكنها تعاني من تراجع الدعم الشعبي بسبب ضعف النواب المنبثقين عن ساحات التظاهر، وافتقارهم للشخصية القيادية، بينما اقتنع قسم آخر منهم بالمقعد الذي حصل عليه، واعتزل المدافعة عن حقوق الناس الذين صوتوا له”.
قمع ممنهج ونفوذ إيراني
بحسب أرقام حصلت عليها “الحرة”، قُتل أكثر من ألف متظاهر وناشط، وأصيب أكثر من 25 ألفًا آخرين خلال احتجاجات تشرين، بعضهم أصيب بإعاقات دائمة.
ويشير عدي الزيدي، عضو اللجنة المنظمة لتظاهرات تشرين، إلى أن المحتجين لم يواجهوا القوات العراقية فقط، بل أيضا ميليشيات موالية لإيران، “والحرس الثوري الإيراني”.
ويضيف الزيدي أن المتظاهرين يواجهون القتل والملاحقة من جهات عدة، في ظل غياب حماية الدولة، مما يُضعف زخم الاحتجاجات سريعا. ويتراجع عدد المشاركين بسبب الاغتيالات، ,الاتهامات بالخيانة، وفتاوى التحريض، و”حتى تفجير المنازل كما حدث في البصرة”.
تظاهرات مخترقة
بالتزامن مع استخدام كافة الأدوات لإنهاء التظاهرات في العراق، لم تكن صفوف المحتجين موحدة، إذ لم تقتصر جهود السلطات والأحزاب المرتبطة بإيران على القمع المباشر، بل لجأت، وفق الناشط المدني مهند محمود، إلى “اختراق ساحات التظاهر بعناصر موالية لها مهمتها إثارة الفوضى وتشويه سلمية الحراك”.
ويقول محمود: “رأينا خلال التظاهرات عناصر من الميليشيات ومتورطين بجرائم قتل، بل حتى مسلحين من العصابات، يتواجدون داخل الساحات ويبدون آراءهم، وهم في الواقع تابعون لأحزاب متعددة”.
ويشير إلى أن تنقية الصفوف منهم كانت شبه مستحيلة، في ظل آلة دعائية مستمرة تسعى لتشويه صورة الحراك.
وبحسب شهادات حصلت عليها “الحرة”، تعرّض عدد من الناشطين والمتظاهرين لهجمات داخل الساحات على يد مجهولين متنكرين، تابعين لأحزاب سياسية، استخدموا أدوات حادة بالتزامن مع محاولات قوات الأمن والميليشيات فض التظاهرات.
ويرى الناشط الحقوقي عمار البصري أن هذا الاختراق الحزبي ساهم في تقويض التظاهرات ومنع تحقيق أهدافها.
“بعض هذه العناصر حرّفت المطالب المشروعة نحو شعارات عنيفة كالدعوة لسحل السياسيين أو إسقاط النظام، بدلًا من التركيز على إبعاد الأحزاب التقليدية عبر آليات دستورية وانتخابية سلمية”.
“نظام سياسي هجين”
يعتقد الباحث السياسي العراقي، علي زغير جبر، أن “النظام السياسي الهجين” والاقتصاد الريعي في العراق من أبرز الأسباب التي حالت دون تحقيق التظاهرات أهدافها.
ويقول جبر لـ”الحرة”: “الطبيعة الهجينة للنظام السياسي تمنح القوى الحاكمة القدرة على الالتفاف على الضغوط الشعبية، من خلال اللجوء إلى انتخابات شكلية، كما حدث مع احتجاجات تشرين، حين وافقت الأطراف المهيمنة على تنظيم انتخابات مبكرة أدت إلى انقسام المتظاهرين وتفكيك زخم الحراك”.
ويُعرف النظام السياسي الهجين بأنه يجمع بين مظاهر الديمقراطية، مثل الانتخابات والتعددية، وبين ممارسات استبدادية تشمل القمع وانتهاك الحريات، ما يجعله نظاما هشا وغير مكتمل.
ويضيف جبر أن هذا النوع من الأنظمة لا يمكنه احتواء الاحتجاجات من دون اقتصاد ريعي يعتمد أساسا على عائدات النفط، التي تتركز بيد الأحزاب، وتُستخدم كأداة لشراء الولاءات، سواء عبر استمالة قادة الاحتجاج أو تقديم فرص عمل لإسكات الشباب الغاضب.
827 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع