
الاستاذ الدكتور نزار الربيعي
الفصل بين التاريخ الأشوري والتاريخ العام
يجد الدارس لحضارة وادي الرافدين صعوبة الفصل بين التاريخ الأشوري والتاريخ العام لهذه الحضارة،نظرا للتماثل الكبير بين مختلف المظاهر الحضارية لهذا البلد.لكن دراسة الحقبة المبكرة في تاريخ أشور تشكل ضرورة ملحة من اجل استيعاب الأصول الأولى للحضارة الأشورية،والتي تتسم بالصعوبة البالغة في متابعتها،إذ إن دراسة هذه الحقبة تصطدم بعقبات كبيرة،فعلى العكس من الجنوب الذي وصلنا منه كتابات غزيرة سواء نصوص تاريخية(قوائم ملوك،كتابات ملكية،نصوص نذرية)،أو نصوص أدبية (أساطير،ملاحم،مراثي،أدب مدرسي)،أو نصوص قانونية (عقود اقتصادية ،عقود زواج،قوائم جرايات،نصوص إصلاحات)،أو نصوص دينية (تراتيل،أدعية،قوائم بأسماء الآلهة) التي تقدم مادة غنية ومهمة للباحث في العصور المبكرة لبلاد سومر،ولكن في بلاد أشور فان الأمر مختلف،ففي العصور المبكرة،لاسيما في عصر فجر السلالات (Early Dynastic Period)،فإننا لا نمتلك أي وثائق من اجل بناء تصور واضح حتى لو كان جزئيا عن بلاد أشور،وقد أشير إلى هذه الحالة من قبل المنقب الألماني فالتر اندريه (Walter Andréa) انه في أشور نعاني:"من غياب كامل للنصوص الكتابية.لذا فان اعتمادنا الكلي في كتابة تاريخ أشور في هذا العصر سيعتمد بالدرجة الأساس على المادة الاثارية المتوفرة والتي كشفت عنها التنقيبات الاثارية،ومن ثم الإشارات القليلة التي وردتنا من وثائقنا في الجنوب أي بلاد سومر.
يسمى هذا العصر في بلاد أشور بعصر الطبقة (G-H) ،وان معرفتنا عن هذا العصر ،من الناحيتين السياسية والحضارية ناقصة وغامضة لاسيما في الطورين الأول والثاني من عصر فجر السلالات،إلا انه في الطور الثالث من هذا العصر أخذت تصلنا بعض المعلومات عن هذه المنطقة.ويؤرخ المنقب اندريه عصر الطبقتين (G-H) بفترة زمنية ترقى إلى الألف الرابع-الثالث قبل الميلاد.هذا ويعد اندريه إن شعب الطبقة (G) معاصرين لسلالة لكش(Lagaš) الأولى أي في عصر فجر السلالات الثالثلذا لابد من تخفيض تواريخ اندريه وربما كان عصر الطبقة (H)في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد.
لا نعرف شيء عن التنظيم السياسي لبلاد أشور خلال هذا العصر ويعتقد احد الباحثين انه على الرغم من ورود إشارات عن شمال بلاد الرافدين لكنها لم تذكر الأشوريين،مما يؤكد على أنهم لم يؤسسوا بعد كيان سياسي لهم.ونمتلك إشارة في كتابة لـ (اياناتوم) (Eanatum) حاكم من سلالة لكش الأولى انه واجه حلفا عسكريا أقيم بين عيلام(Elam) وبلاد سوبار(Subar) ومدينة أورو- أ (Uru-a)وانه انتصر عليهم أو كما يقول اياناتوم:
elam Subarki Uru-aki a-Šhur-ta tum-Šè bi-Šè
أي:"عيلام (و) سوبار (و) أورو- أ،وذلك ابتداءً من قناة اشخور،بالسلاح قد ضربها
إن الذي يهمنا في النص هو اشتراك سوبار في الحلف،وهو الاسم المرادف لبلاد أشور،ومن الجدير بالملاحظة إن اياناتوم يذكر سوبار وبعدها اللاحقة (Ki) والمعروف إن هذه اللاحقة تتبع أسماء المدن والمناطق،الأمر الذي يشير إن الاسم سوبار ذا دلالة جغرافية وليس قومية.وان هذا النص يشير إلى مسألتين مهمتين وهما اشتراك سوبار(Subar) في حلف عسكري مما يشير إلى امتلاكها قوة عسكرية معدة للحرب،والمسألة الثانية هي إنها أقامت علاقات سياسية مبكرة مع المناطق المجاورة.لكن ذلك يصطدم بشكل مؤكد مع نتائج التنقيبات الاثارية،فقد أشار اندريه إن سكان أشور خلال عصر الطبقتين(G-H) كانوا على ما يبدو مسالمين،إذ لم تكشف التنقيبات عن أية تركة حربية لهم،فصحيح إن هيكل الآلهة ليس المحل المناسب لكي يزين بالأسلحة،لكن لابد من وجود اثر ما في موضع ما من المدينة لتلك الأدوات،كذلك لم يبق شيء من التحصينات الأشورية لتلك الفترة السحيقة،ويرى هذا المنقب انه يجب أن ننسب القبور القديمة التي حرص السكان على أن يدفنوا فيها مع الرجال أسلحة برونزية،إلى ادوار أشورية لاحقة،ربما منتصف أو نهاية الألف الثالث قبل الميلاد(لابد من التذكير هنا إن تواريخ اندريه مرتفعة) بسبب ما تحويه من الأواني الفخارية لذا يفترض اندريه إن بلاد أشور خلال هذه الفترة لابد إنها عاشت تحت حماية قوية،ولم تكن هذه الحماية إلا من الجنوب بل يذهب اندريه إلى ما هو أكثر ويقول انه ربما كان شعب الطبقة (G)أصلا من السومريين (يسميهم اندريه بابليين نسبة لبلاد بابل)،أي إن بلاد أشور كانت خاضعة سياسيا إلى إحدى الدويلات الجنوبية،ويستند اندريه في رأيه هذا إلى عدة أسباب وهي:
- تشييد سكان أشور في هذا العصر معبدهم حسب الخطة الجنوبية.
- الاختلافات الملفتة للأنظار التي تظهر في رؤوس التماثيل،والتي افترض سابقا ماير (Meyer) وجود عرقين من البشر متعايشين جنبا إلى جنب.وهذه المسألة تتعلق بالرجال فقط،حيث يبدو بعضهم حليقي الرؤوس فضلا عن اللحية،وهذا نشاهده أيضا في الجنوب لاسيما في بسمايا وتلو،بينما يظهر رجال آخرون حليقي اللحية أيضا لكن لهم شعر غزير منسدل إلى الخلف،حيث يستقر فوق الرقبة على شكل ضفيرة.ويصادفنا هذا الشكل في أعمال النحت في بسمايا ونفر وتلو.
- وجود تناقض بين التماثيل الأشورية والسومرية،إذ تغيب تماما النقوش الكتابية من التماثيل الأولى التي تظهر في معظم التماثيل السومرية،وهنا يتساءل اندريه هل إن شعب أشور يجهل الكتابة ؟ إن ذلك غير ممكن برأي المنقب،فقد عثر في منطقة القصر القديم في أشور على كسر لرقم مشوية تحمل علامات كتابية،وقد وجدت هذه الكسر في الطبقات العميقة جدا التي لابد إنها تتطابق مع طبقة المعبد (G)أو (H).ولهذا يرى هذا المنقب بأنه ربما كانت الكتابة على التماثيل امتيازا للأمراء الكبار،بينما كان يجب على الأمراء الأصغر شأنا الاكتفاء بصنع تماثيل فقط دون نقش أية نصوص.
من خلال ذلك يخلص اندريه إلى نتيجة مفادها إن شعب الطبقة(G) كان تابعا لأحد الحكام من الجنوب،كما حصل لزريقوم الذي حكم لاحقا في عصر سلالة أور الثالثة غير إن هناك أسباب وجيهة تجعلنا نرفض رأي اندريه،وان أشور في هذا العصر لم تكن خاضعة للجنوب،فبالنسبة للحجة الأولى الخاصة ببناء السكان معابدهم على غرار المعابد البابلية،فلا يشكل دليلا على سيطرة سياسية من الجنوب،طالما إن المؤرخين يؤكدون إن بلاد أشور كانت خاضعة طوال الألف الثالث قبل الميلاد لمؤثرات قادمة من الجنوب.وان القول بوجود عرقين من البشر في أشور على أساس الاختلاف في النحت،فهو أمر لا يمكن الركون إليه لان المنحوتات تخضع للأذواق الفنية أكثر مما تعكس اختلافات عرقية،فضلا عن إن استخدام المنحوتات كأدلة لاختلافات قومية أصبح مرفوضا من قبل الباحثين المحدثين وان غياب النقوش من التماثيل الأشورية ربما يعود بالفعل إلى عدم معرفة السكان بالكتابة،ويبدو إن هذا الأمر هو الذي جعلنا لا نشهد وثائق كتابية من هذا العصر في أشور،ويشير العالم الألماني اوتو ادزارد إلى حقيقة إن العلاقات بين بلاد بابل وبلاد أشور كانت مغلقة إلى درجة ما،بسبب وجود جبل حمرين،وهو فرع من سلسلة جبال زاكروس،والصحراء الواقعة إلى الجنوب منه.ويعتقد ادزارد إن ذلك هو السبب في عزلة بلاد أشور لذلك فإنها لم تحصل على الكتابة إلا في وقت متأخر كثيرا عن بلاد بابل،فهناك بعض النصوص تظهر فقط في أشور فقط خلال الفترة الأكدية وان الافتراض الذي يقول إن غياب النقوش الكتابية من التماثيل في أشور بسبب إن ذلك امتيازا خاصا بالأمراء الكبار وليس من حق الأمراء الأصغر شأنا يتناقض مع نتائج التنقيبات الاثارية،فقد عثر في ماري(Mari)(تل الحريري قرب البو كمال الحالية) على تماثيل عليها كتابة أعانت الباحثين على معرفة أسماء الأشخاص الذين تصورهم التماثيل ومنها تمثال الطحان أيدي-ناروم(Idi-Narum) والمغنية أور-نانشة (Ur-Nanše) ،وليس هناك من دليل على إن هؤلاء كانوا من الطبقة الحاكمة.

985 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع