"الهجرة المعاكسة".. هل فقدت ألمانيا جاذبيتها للعمالة الماهرة؟

المصدر: (أ ف ب)عُرفت المانيا ، طوال عقود، بكونها دولة جاذبة للعمالة الماهرة لما تتمتع به من مزايا اقتصادية أغرت "الطموحين نحو بناء حياة أفضل"، غير أن هذه القاعدة بدأت تشهد تحولاً.

وفي ظل هذا التحول لم يعد الحديث عن "الهجرة المعاكسة" أمراً غريباً، رغم ما قد يثيره هذا المصطلح من تناقض؛ فمن جهة تكافح ألمانيا الهجرة ، وتغلق الحدود في وجه أي وافد جديد، ومن جهة أخرى تعمل من أجل الاحتفاظ بالمهاجرين المهرة.


ومن المعروف أن ألمانيا استقطبت، منذ خمسينيات القرن الماضي، بعد أن خرجت مهزومة ومدمرة من الحرب العالمية الثانية، ملايين العمال والمختصين في المجالات المختلفة، وانهمكت في بناء دولة سرعان ما تربعت على عرش أوروبا اقتصاديا، وسميت بـ"عملاق الاقتصاد الأوروبي".

لكن الثقة في هذا البلد الجاذب للعمالة بدأت تهتز، وهو ما تظهره آخر الاحصائيات، علماً بأن نسبة الموظفين الأجانب بلغت، في العام 2024، نحو 16% ، غير أن الكثير من هؤلاء يفكرون، الآن، في المغادرة، بحسب دراسة لمعهد أبحاث التوظيف، التابع لوكالة التوظيف الاتحادية الألمانية.

وتظهر الدراسة أن "26 % أو نحو 2.6 مليون شخص قالوا إنهم فكروا بالفعل في مغادرة ألمانيا في العام الماضي"، وإن "حوالي 3% لديهم بالفعل خطط ملموسة للهجرة".

الدراسة، التي استندت إلى استطلاع تمثيلي على الإنترنت شمل 50 ألف شخص وُلدوا في الخارج وهاجروا إلى ألمانيا، أوضحت أن نصف الراغبين بالمغادرة يرغبون بالعودة إلى بلادهم الأصلية. أما النصف الآخر، فيرغبون في اخيتار بلد آخر مثل بولندا ورومانيا، فيما يفضل آخرون الانتقال إلى سويسرا المجاورة أو الولايات المتحدة أو إسبانيا.

وبينت الدراسة أن اللاجئين والأشخاص الذين جاؤوا في إطار لم شمل الأسرة، أظهروا ميولاً للهجرة أقل بكثير من الأشخاص المتعلمين تعليماً جيداً والناجحين اقتصادياً، وهو ما يعني أن العمالة الماهرة هي التي ترغب في "الهجرة المعاكسة".

ويمثل مثل هذا الاتجاه تحدياً لألمانيا التي تعاني نقصاً في قطاعات مختلفة، مثل: الطب، وتكنولوجيا المعلومات، والبناء، فضلاً عن نقص في معلمي دور الحضانة، والطهاة، والسائقين المحترفين لشاحنات النقل، وحافلات الركاب.

وتقول كاتيا غاليغوس توريس، وهي باحثة في المعهد التي أجرت الدراسة إن "من النتائج الرئيسة لاستطلاعنا أن الأشخاص الذين انتقلوا إلى ألمانيا للعمل أو الدراسة والذين هم أفضل تعليماً أو أكثر نجاحاً اقتصادياً، ويتقنون اللغة الألمانية، هم الذين يفكرون في مغادرة البلاد أو يعبرون عن خطط ملموسة للهجرة بتواتر أعلى من المتوسط".

وتضيف توريس، وفقاً لما نقله عنها موقع "دويتشه فيله": "في قطاعات الخدمات كثيفة المعرفة مثل تكنولوجيا المعلومات والتمويل والخدمات المتعلقة بالأعمال التجارية، يفكر ما بين 30 و39 % من المشاركين في الاستطلاع في الهجرة، فضلاً عن اتجاهات مماثلة لدى العاملين في قطاعات الرعاية الصحية والتصنيع والخدمات اللوجستية".

وبهذا المعنى، فإن القطاعات التي تحتاجها ألمانيا بشدة هي التي تفقد العمال المهرة، وهو ما ترى فيه توريس تحذيراً "ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة لمستقبل ألمانيا الاقتصادي".

ويبرز هنا سؤال بشأن الأسباب والعوامل التي حولت ألمانيا من فردوس للعمالة الماهرة، إلى بلد طارد لهم.

الضرائب المرتفعة
من أبرز العوامل التي تسهم في تعزيز الرغبة بالمغادرة هو الضرائب، إذ يشكو الجميع، سواء كان عاملاً عادياً أو خبيراً مختصاً، أو صاحب شركات، من الضرائب المرتفعة.

وتعد الضرائب في ألمانيا مرتفعة قياساً إلى العديد من الدول، فضلاً عن ضرائب على السلع تبلغ نحو 20% من قيمة السلعة.

ويضاف إلى ذلك أن العمال والموظفين يتحملون دفع اشتراكات إجبارية للتأمينات الاجتماعية، مثل: التأمين الصحي، والتقاعدي، وتأمين البطالة، مما يرفع نسبة الاستقطاع من الراتب الإجمالي لتصل في بعض الحالات إلى ما يزيد على 40% من الدخل.

ورغم أن هذه الضرائب توفر للمواطنين خدمات ذات مستوى عالٍ، غير أن العمالة الماهرة تشعر أن الاقتطاعات الضريبية باتت تمثل عبئاً لا يمكن تحمله، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة.

سطوة البيروقراطية
ألمانيا بلد "بيروقراطي" بامتياز، وقلّما يمر يوم دون أن يجد المواطن الألماني في صندوق بريده خطاباً من جهة حكومية، أو إدارة خدمية، أو حتى من مدرسة طفله.

ورغم أن الهدف من هذا النظام الصارم هو ضمان الشفافية والمساواة بين الجميع، إلا أن تراكم الخطابات، وكثرة القوانين، يضيفان تعقيدات إلى الحياة اليومية، فكل طلب أو معاملة يتطلب سلسلة طويلة من النماذج، والموافقات، والزيارات الشخصية.

ومثل هذه الإجراءات تشيع حالة من الإحباط لدى العمالة الماهرة التي تشعر أن هذه البيروقراطية تثقل عليهم، فيبحثون عن دول تتمتع بالمرونة والتبسيط في تطبيق مثل هذه الاجراءات.

المزاج السياسي
لا يمكن إنكار هذا العامل، كأحد أقوى الأسباب للتفكير في الهجرة المعاكسة، فطوال عقود احتفظت ألمانيا بسجل ناصع في مجال الترحيب بالمهاجرين، لكن هذه السياسة بدأت تتغير، في ظل صعود اليمين المتطرف الذي يجهر بالعداء، وكراهية المهاجرين.

ويرى خبراء أن صعود اليمين دفعت الأحزاب التقليدية إلى طرح برامج مماثلة تحاكي برامج تلك الأحزاب، لقطع الطريق أمام هذا التيار اليميني.

ووضعت الحكومة الألمانية الجديدة التي تشكلت إثر انتخابات مبكرة جرت، في فبراير الماضي، قيوداً مشددة ضد الهجرة، وأغلقت الباب أمام "ثقافة الترحيب".

ويرى خبراء أن سياسات الهجرة هذه تركت تأثيرات سلبية على المهاجرين خاصة العمالة الماهرة التي بدأت تشعر بضغوط متزايدة في بيئة العمل والمجتمع تدفعها إلى التفكير في المغادرة.

تمييز غير معلن
رغم أن الدستور الألماني يشدد على المساواة بين الجميع، ويرفض أي نوع من المفاضلة على أساس الجنس أو العراق أو اللون، غير أن الكثير من العمال من أصول مهاجرة يشعرون أن ثمة تمييزاً في التعامل.

ووفقاً لخبراء، فإن هذا التمييز غير المعلن يترجم على شكل صعوبات في الحصول على وظائف تناسب مؤهلات العمالة الماهرة المهاجرة، أو وضع شروط مبالغ بها من حيث الخبرة وإتقان اللغة الألمانية، مقارنة مع شروط أخف للعمال الألمان أو الأوروبيين، وفقاً لبعض الاستطلاعات.

يضاف إلى ذلك أن الكثير من العمالة الماهرة تشعر أن ترقياتهم في المؤسسات والشركات التي يعملون فيها لا تتناسب مع خبراتهم وشهاداتهم، وهو ما يخلق انطباعاً بأن تقييمهم لا يأخذ بعين الاعتبار مؤهلاتهم وكفاءاتهم، بقدر ما يخضع هذا التقييم لاعتبارات تتعلق بخلفياتهم الثقافية وأصولهم المهاجرة.

وتقلل بعض الصور النمطية الشائعة عن المهاجرين والأحكام المسبقة بشأنهم من الخيارات والفرص المتاحة أمامهم، خاصة تلك العمالة الماهرة القادمة من بلدان الشرق الأوسط، وأفريقيا، وهو ما يجعلها تشعر بعدم التقدير، فتكون المغادرة، عندئذ، الحل الأمثل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

532 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع