النحات العراقي الخالد جواد سليم، ونصب الحرية العملاق الذي أزيح الستار عنه في 16 يوليو 1961، هما القطبان البارزان الشامخان، بل صنوان متلازمان بقوة، في المشهد التشكيلي داخل العراق وخارجه، وقد بدآ معا بالسمو والعلو يوما بعد آخر، وسنة بعد أخرى، منذ بروزهما مع بداية العقد الستيني وإلى يومنا هذا.
العرب علي إبراهـيم الدليمي:عندما نود الحديث عن الفنان العراقي الراحل جواد سليم (1920 /1961)، فإننا سنذكر على الفور نصبه العملاق “الحرية” قبل أعماله الأخرى، كذلك الحال عندما نريد أن نتكلم عن نصب الحرية، فسرعان ما نبتدئ الحديث عن جواد سليم، وثقافته ومسيرته ومعاناته مع ولادة هذا النصب الشامخ.
فهذان الخالدان، لم يتأتيا اعتباطا، ولم يظهرا فجأة أو صدفة، بل إنهما ثمرتان ناضجتان من شجرة طيبة شامخة مغروسة في أرض خصبة عميقة، تؤتي أكلها كل حين.
كانت هناك بعض الهواجس أو الآراء المتنوعة، عن الأولوية أو الفضل الكبير في وضع التسميات الاستباقية.. هل هي للنصب، أم للفنان؟
أنا أجزم الحالة قطعا، أن كليهما مكمل للآخر، لبلاغتهما المتناهية في الإبداع، فلولا الثقافة التاريخية والفنية العميقة والواسعة التي يتمتع بها الفنان جواد سليم، لما كان هناك عمل فني شامخ كـ”نصب الحرية” بمفهومه الفكري الإنساني والفني العالي، الذي أنار درب الفن العربي عموما، وأصبح السمة البارزة والمهمة في مسيرة الحركة الفنية في المنطقة، فضلا عن الآفاق البعيدة للأجيال التي جاءت بعده من الفنانين الآخرين.
وهناك أيضا “جدارية النصب” الخالدة بحجمها الكبير.. (50م × 10م)، والمميزة في انتصابها الهندسي الرمزي الدقيق، في قلب العاصمة بغداد، وهي تضم بين دفتيها أربع عشرة قطعة فنية برونزية، باهرة في أفكارها الإنسانية وخطابها البليغ، والمستلهمة لمضامينها من عمق تاريخ الحضارات العراقية المتواترة، وقد اختار أسلوب النحت البارز باعتباره السمة الأساسية للفن العراقي القديم، حتى تكون الجدارية بالتالي خطابا إنسانيا وأخلاقيا وفنيا شاملا في كل زمان ولكل مكان لو تطلب الأمر ذلك.
الجدارية أكد من خلالها الفنان جواد سليم على عبقريته الفنية وحضوره الإبداعي والإنساني في تيار النحت العربي والعالمي عموما.. لقد ألقى جواد ظله الفني والوطني على حركة النحت من خلال رسالة هذه الجدارية العملاقة، وهذا ما جعل النصب، طالما وهو شاخص، يذكر الناس بجواد سليم.
يقول الراحل في مذكراته المؤرخة في 23 سبتمبر 1943: إن الفنان الذي ينشد الوصول إلى هدفه يجب أن يكرس له كل قواه وحياته، فيجب عليه أن يهضم كل قديم فيأتي بالجديد، وما هذا القديم إلاّ دنيا هائلة.
لقد جمع الفنان جواد سليم، ما بين الاتجاه الرمزي والاتجاه الواقعي في فن النحت من خلال جداريته هذه، التي وضعها في الهواء الطلق، شامخة.. تراها عيون الجميع، في الصباح والمساء.
إذن، فهما -جواد سليم وجدارية نصب الحرية- تنطبق عليهما القاعدة الفيزيائية الثابتة “لكل فعل ردّ فعل”.
لقد اختزل النحات الراحل إسماعيل فتاح الترك تجربة سليم ونصبه، بجملة بلاغية استشرافية عندما قال “النحت العراقي سيمرّ من تحت نصب الحرية”.
1375 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع