طريق الحرير

     

               طريق الحرير...

بقلم/د- محمد هشام

1- المقدمه

كان الصينيون قد اكتشفوا صناعة الحرير في حدود سنة 3000 قبل الميلاد، وعرفوا في هذا الوقت المبكر فنوناً مبهرة لإتقان صنعته وتطريزه. وقد أذهلت هذه الصناعة عقول الناس قديماً، فسعوا لاقتناء الحرير بشتى السبل، حتى أنهم كانوا يحصلون عليه مقابل وزنه بالأحجار الكريمة. وقبل خمسة آلاف سنة، بدأ الحرير يأخذ طريقه من الصين إلى أرجاء العالم. ليس الحرير وحده بالطبع، وإنما انسربت معه بضائع كثيرة، مالبث انتقالها من الصين وأقاصي آسيا، إلى أواسط آسيا وشمال أفريقيا ووسط أوروبا؛ أن اتخذ مسارات محددة ، عرفت منذ الزمن القديم بأسم طريق الحرير      

وفى واقع الأمر، فإن طريق الحرير لم يكن طريقاً واحداً، وإنما شبكة من الطرق الفرعية التي تصب في طرق أكبر أو بالأحرى في طريقين كبيرين، أحدهما شمالي (صيفي) والآخر شتوي كانوا يسلكونه في زمن الشتاء. والذي يجمع بين هذه السبل والمسارات جميعاً، هو أنها مسالك للقوافل المتجهة من الشرق إلى جهة الغرب، لتمر في طريقها ببلدان ما لبثت أن ازدهرت مع ازدهار هذا الطريق التجاري الأكثر شهرة في العالم القديم.

وقد انتظمت مسارات طريق الحرير منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وظلت منتظمةً لألف وخمسمائة سنة تالية، كان طريق الحرير خلالها معبراً ثقافياً واجتماعياً ذا أثر عميق في المناطق التي يمر بها. لم يتوقف شأن طريق الحرير على كونه سبيل تجارة بين الأمم والشعوب القديمة، وإنما تجاوز (الاقتصاد العالمي ) إلى آفاق إنسانية أخرى، فانتقلت عبره (الديانات) فعرف العالم البوذية وعرفت آسيا الإسلام وانتقل عبره (البارود) فعرفت الأمم الحروب المحتدمة المدمرة، وانتقل عبره (الورق) فحدثت طفرة كبرى في تراث الإنسانية مع النشاط التدويني الواسع الذي سَهَّل الورقُ أمره، وانتقلت عبره أنماط من (النظم الاجتماعية) التي كانت ستظل، لولاه، مدفونة في حواضر وسط آسيا .. غير أن النشاط الاقتصادي، ظل دوماً هو العاملُ الأهم، الأظهر أثراً. ويكفى لبيان أثره وأهميته، أن طريق الحرير أدَّى إلى تراكم المخزون العالمي للذهب، في الصين، حتى أنه بحلول القرن العاشر الميلادي، صارت الصين وحدها، تمتلك من مخزون الذهب قدراً أكبر مما تمتلكه الدول الأوروبية مجتمعة.

 ومن اليابسة إلى البحر، انتقل الاقتصاد العالمي نقلةً كبيرة مع اكتشاف التجار أن المسارات البحرية أكثر أمناً من الطرق البرية. وقد تزامن ذلك مع اشتعال الحروب المغولية/ الإسلامية بقلب آسيا، وشيئاً فشيئاً، اندثرت معالم طريق الحرير وصارت البضائع، والثقافات الإنسانية، تنتقل في مسارات بحرية منتظمة، تتجه عبر المحيط الهندي من حران آسيا الجنوبية، إلى شمال أفريقيا مروراً من البحر الأحمر، لتستلم القوافلُ البرية البضائع من آخر نقطة فى خليج السويس، لتنقلها إلى المراكب الراسية في ثغر دمياط وما حوله من موانئ مصرية .. وفى هذا الزمان، كان مماليك مصر يتقاضون رسوماً عالية مقابل هذه (الوصلة) حتى أنهم كانوا، مثلاً يحصِّلون على الفلفل الأسود وزنه ذهباً.

وازدهرت مصر المملوكية حيناً من الدهر، حتى اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح، فصارت السفن تحفُّ جنوب أسيا، لتمر بحواف أفريقيا، فترسو على موانئ شبه جزيرة أيبيريا .. فازدهرت البرتغال وإسبانيا، وانطفأت مصر أواخر عصرها المملوكي وخلال عصرها العثماني.

ولما افتتحت قناة السويس، واتصل المسارُ البحري الآتي من آسيا إلى أوروبا، تغيَّر الحال .. وانتظمت التجارة واستولدت قناةُ السويس مدناً مصرية من الصحراء فكانت السويس والإسماعيلية وبور سعيد وبور فؤاد، وكثيراً من نقاط حضرية أخرى موزعة على الحافة الغربية لمجرى القناة .
2ـ نشأة طريق الحرير:
في عام 1877، أطلق العالم الجغرافي الألماني F.Von Richthofen على طريق المواصلات لتجارة الحرير بشكل رئيسي  فيما بين الصين في أسرة هان وبين الجزء الجنوبي والغربي لآسيا الوسطى والهند اسم "طريق الحرير". ويقصد بـ" طريق الحرير" هو خط المواصلات البرية القديمة الممتد من الصين وعبر مناطق غرب وشمال الصين وآسيا كلها إلى المناطق القريبة من إفريقيا وأوروبا، وبواسطة هذا الطريق، كان تجري التبادلات الواسعة النطاق من حيث السياسة والاقتصاد والثقافة بين مختلف المناطق والقوميات.

               

إن الصين أول دولة  تزرع التوت وتربي ديدان القز وتنتج المنسوجات الحريرية في عالم العصور القديمة، وتعتبر المنسوجات الحريرية الصينية من أهم المنتجات التي تقدم لشعوب العالم حتى اليوم، وينتشر الحرير الصيني في كل العالم، ويعد من مساهمات الشعب الصيني للحضارة العالمية . وعلى الرغم من تسمية بعض أجزاء "طريق الحرير"   بـ  "طريق اليشم" و" طريق الأحجار الكريمة" و"طريق الدين البوذي" و"طريق الفخاريات والخزفيات"، ولكن في الأخير لا يمكن تبديل اسم "طريق الحرير".

3ـ انتقال الحضارة المادية عبر طريق الحرير إلى الخارج:

بدأ الغرب يعرف الصين من انتقال الحرير الصيني عبر "طريق الحرير" إلى الخارج. في عهد أسرة تانغ، بلغت صناعة الحرير الصينية الذروة، وازدادت أساليب نسجه وزخرفته. وقد ورثت المنسوجات الحريرية في عهد أسرة مينغ تقاليد كثرة أنواعها وجمالها الزاهي منذ عهد أسرة تانغ، فاجتذبت تجار مختلف بلدان العالم بنوعيتها الممتازة. وعندما وصل الحرير الممتاز النوعية والزاهي الألوان إلى الغرب أعجب به الغربيون شديد الإعجاب، فقد مدح الشاعر الروماني ويجير الحرير الصيني بأنه أجمل من الزهور وأدق من نسج العنكبوت. ومع انتقال الحرير الصيني إلى الخارج، عرف الغربيون الحرير كما عرف الصين. و في العصور القديمة أصبح الحرير الصيني بضاعة انتقلت وبيعت إلى مكان أبعد ووصل حجمها التجاري إلى الأعلى  وبلغ سعرها الأغلى وربحها الأكثر تدريجيا في التجارة العالمية. وإلى جانب الحرير، أعجبت بلدان الغرب بخزفيات الصين ومنتجاتها اللكية ذات الجاذبية الشرقية.

وفي "طريق الحرير"، كانت الثقافة المادية متبادلة، فقد حمل شعوب مختلف بلدان أوروبا وآسيا منتجاتهم المتنوعة إلى الصين أيضا.

4ـ الحضارة المادية الخارجية في طريق الحرير:

 بعض النباتات والمنتجات التي نراها دائما في سوق الصين اليوم هي مستوردة من الخارج مثل الفلفل والجزر والبصل والبطيخ وما إلى ذلك، وقد ورد في السجلات التاريخية الصينية القديمة أن هذه النباتات والمنتجات جاءت أكثرها من المناطق الغربية التي خارج حدود الصين آنذاك . ومنذ بداية عهد أسرة هان، لم ينتقل بعض النباتات إلى الصين فحسب، بل انتقلت بعض الأوعية الزجاجية من روما والرقص والموسيقى والأكروبات من المناطق الغربية إلى الصين أيضا. ومنذ عهد أسرتي وي وجين حتى عهد أسرتي سوي وتانغ، انتقلت الموسيقى والرقص والأطعمة والملابس ذات الميزات الخاصة من آسيا الغربية والوسطى إلى الصين مع دخول أهل "سوته " المنتمي الى سلسلة الثقافة الفارسية الى الصين بأعداد كبيرة . فإن شق "طريق الحرير" وبقاءه على مدى زمن طويل  قد ساهما مساهمات هامة في تبادل الثقافة المادية والثقافة الروحية بين الصين والمناطق الغربية.

5ـ الأديان والفنون على طريق الحرير:

مع كثرة تبادل التجارة بين الشرق والغرب، ازدادت تأثيرات حضارتهما المتبادلة يوما بعد يوم. وفي الوقت الذي يجري فيه تبادل الثقافة المادية، تنوعت النتائج الثقافية التي جلبها "طريق الحرير". فقد انتقل الدين البوذي، باعتباره من الأديان الثلاثة الكبرى في العالم،    إلى الصين في نهاية عهد أسرة هان الغربية (206 ق.م – 8م)، وشهد تطورا في فترة أسرتي سوي وتانغ (581 –907م) وتغلغل بين صفوف الشعب، وليس ذلك فحسب، بل أسس كبار الرهبان الصينيين مدارس بوذية صينية . و بفضل التأثيرات البوذية المباشرة وغير المباشرة يمكن رؤية المعابد القديمة والكهوف البوذية في مختلف مناطق الصين اليوم. وجدير بالإشارة إلى أن الكهوف البوذية بجوانب "طريق الحرير" مثل كهوف موقاو في دونهوان وكهوف يويلين في آنشي وكهوف جبل مايجي في تيانشيوي وكهوف يونقانغ في داتونغ وكهوف لونغمن في لوهيانغ وغيرها من الكهوف المشهورة تجسد اندماج الأساليب الفنية الشرقية والغربية وروح الدين البوذي، وهذا دليل قاطع على تبادل ثقافة الشرق والغرب على "طريق الحرير". وقد جلب انتشار الدين البوذي في أرجاء الصين تأثيرا عميقا وواسعا في ثقافتها وروح الصينيين، ومن هنا ، بدأت ثقافة الصين تستفيد من الثقافات الخارجية الأخرى.


6ـ نشأة طريق الحرير البحري:

تشكل "طريق الحرير" البحري منذ عهد أسرة هان. رغم أن مختلف البلدان تفصلها المحيطات والبحار ، ولكنها أصبحت طريقا بحريا سالكا بعد أن استوعب الناس تقنية صنع السفن وتقنية الملاحة. وكان مصدر البضائع المنقولة إلى الخارج عبر "طريق الحرير" مثل حرير القز والمنسوجات الحريرية يقع في مناطق جنوب نهر اليانغتسي والمناطق الساحلية، وكانت هذه المناطق قاعدة لصنع السفن أيضا، فاستطاعت تموين البضائع وأدوات النقل إلى وراء البحار.

ويشكل ذلك عوامل اجتماعية وأسسا مادية لشق "طريق الحرير" البحري في عهد أسرة هان. وقد شق الإمبراطور وو دي (140ق.م –87ق.م) في أسرة هان "طريق الحرير" البحري، وبدأت التجارة مع روما عن طريق  الهند عبر البحار، وتمت إقامة العلاقات التجارية مع الخارج وزيادة الأسواق الخارجية وخطوط المواصلات البحرية، فتشكل "طريق الحرير" البحري تدريجيا في عهد أسرة هان.

  

7ـ تطور "طريق الحرير" البحري:

 منذ عهد أسرة تانغ (618-907م ) صار طريق الملاحة في بحر الصين الجنوبي ابتداءا من مدينة كانتون طريقا سالكا هاما لـ"طريق الحرير" البحري. وقد لعب هذا الطريق دورا هاما في دفع تبادل المواد والثقافات بين مختلف البلدان إلى جانب نقل الحرير إلى ما وراء البحار. كانت بلدان جنوب آسيا الشرقية وآسيا الجنوبية والغربية وأوروبا ترسل رسلا إلى الصين عبر الطريق البحري لطلب الصداقة وتجارة الحرير معها، وهكذا كان الحرير كبضاعة تجارية هامة تنتقل إلى مختلف البلدان بلا انقطاع.

كانت أرباح التجارة البحرية من مصادر الضرائب الهامة للحكومة وقتذاك. وأنشأت أسرة تانغ وأسرة سونغ وأسرة يوان هيئات خاصة بإدارة تجارة الصادرات والواردات في كانتون (قوانغتشو اليوم) ومينغتشو(نينغبوه اليوم) وتشيوانتشو (مدينة الزيتون) باعتبارها مدنا تجارية مشهورة واقعة في سواحل بحر الصين الشرقي والجنوبي، وقدمت للتجار الأجانب الآتين إلى الصين للتجارة معاملات تفضيلية على قدر الإمكان. وقد أصبح "طريق الحرير" جسرا لنقل الصداقة والربط بين حضارة الشرق وحضارة الغرب.

8- ثمار يانعة لحضارة الصين:

مملكة الحرير:

قبل آلاف السنين ،عندما انتقل الحرير الصيني إلى أوروبا عبر "طريق الحرير"، لم يكن ما انتقل معه إلا الأقمشة والملابس الحريرية الجميلة فحسب، بل انتقلت حضارة الشرق القديمة والزاهية أيضا، ومنذ ذلك الوقت، أصبح الحرير رمزا لنشر حضارة الشرق. وقد اكتشف أقدم المنسوجات الحريرية في أطلال ليانغتشو الثقافية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل 4700 عام تقريبا.

كان في الصين أسطورة عن الحرير، التي تروي أنه في قديم الزمان، انتصر الإمبراطور الأصفر على تشي يو، وقدمت "إلهة ديدان القز" للإمبراطور الأصفر حرير القز تعبيرا عن احترامها له. وأمر الإمبراطور الأصفر بنسج الحرير وخياطة الملابس به، وبعد لبسها شعر بالراحة. وبدأت تبحث لي تسو زوجة الإمبراطور الأصفر عن ديدان القز وتقطف التوت لتربيتها. وفيما بعد، سمى الشعب لي تسو "إلهة ديدان القز" والإمبراطور الأصفر "إله نسج الحرير". وقد أصبح اقتطاف التوت وتربية ديدان القز ونسج الحرير عملا من الأعمال الأساسية التي يزاولها عامة الشعب في المجتمع الصيني القديم على مدى عدة آلاف سنة .

إن الصين مصدر تربية ديدان القز ونسج الحرير وهما من أهم الإنجازات في الاستفادة من الألياف في عصور الصين القديمة. وفي العصر الحجري الحديث، اخترعت الصين نسج الحرير وفن الصباغة، ومع تحسين ماكينات النسيج ورفع فن الصباغة فيما بعد، تزداد أنواع المنسوجات الحريرية يوما بعد يوم، لتشكل نظاما متكاملا للنسيج والصباغة، فاحتلت الصين في عصورها القديمة مركزا أولا بين بلدان العالم في نسج الحرير وفن الصباغة.
 
9ـ معرفة الصين بواسطة الحرير:
  في القرن الأول قبل الميلاد، عندما ظهر الحرير في روما، سماه الرومانيون "سيريس". فلقد مر انتقال الحرير مثله مثل الأقمشة النفيسة بعمليات عديدة لتوصيله إلى روما، وقد تكون هذه التسمية جاءت من كلمة " سي " في اللغة الصينية التي تعني الحرير والتي تحولت على ألسنة التجار الي كلمة " سيريس " وبداية الأمر ما عرف الرومانيون شيئا عن مصدر الحرير، واعتقدوا أنه من إنتاج دولة الحرير البعيدة عنهم، بل عرفوا أن في مكان أبعد دولة تكتنفها الأسرار تصنع الحرير وتسمي " شينا " ( China ) ، وبسبب مراحل انتاج الحرير المحاطة بالأسرار ونوعيته الممتازة ، لقي الحرير ترحيبا حارا من قبلهم. إن الحرير أول البضائع في التبادلات بين الصين والغرب، والحرير مثل الأقمشة الأحمر اللون والمنتجات الزجاجية الراقية وما إلى ذلك من الكماليات، استخدم في البداية في الزينة والزخرفة، واستخدم فيما بعد في تغليف حشايا الكراسي، ثم في صنع الملابس أخيرا. وبالمقارنة مع قماش الكتان والصوف، يتحلى الحرير بميزة الليونة والراحة، لذا يحبه الرجال والنساء حبا كبيراً. 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

706 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع