(خواطر جميلة ومؤثرة لحفلات عرس العراقيين في دولة الآمارات كما رأيناها وعايشناها)
في غربتنا تعتصرنا آلام الغربة ومحبة الوطن تارة، وتعانقه نشوة الحب والسرور تارة أخرى..
لهذا فأن حنين الذكريات لا يبرح في أعماق قلوبنا حيث يرافقنا في رحلة حياتنا إلى أي مكان نحط فيه، فيكون مؤلما رغم جماله ويحول الحياة إلى سلسلة من الأحاسيس الأنسانية الرقيقة كلما توغلنا في زرقة مياه الذكريات فتموجاته ترسل تعابير الشوق لتكشف الكثير والحسن المثير إلى ردهات قلوبنا، وليست الذكريات وحدها ما تجعلني أبتعد عن الرقاد حتى أستسلم النوم بحلم جميل في بستان يصدح عنها أصواتا سيمفونية جميلة تتربع علي عرش القلوب ونغمات شذية كرقصة شرقية علي وقع الحب أو كحفلة عرس في بلدي الجميل مترعة بالبهج وبوقع الطبول وصيحات النسوان وزغردتهن تجعلني أردد أغاني مطربين تغنوا بها ذات الرقة والخيال ومراقبة السماء بصوتها ولأليء نجومها وقمرها المضيء في ليالي يأبى أن يولج في حدقات النسيان في مضي الأيام والليالي.
تختلف تقاليد الزفاف ومراسم الأعراس المتبعة بين بلد وأخر ومهما اختلفت هذه التقاليد والطقوس الا ان جوهرها هي فرحة الأهل بزواج الابن أو الابنة وإتمام الزواج ضمن قوانين اجتماعية متوارثة تضفي الصفة الشرعية والرضا على قران شريكين متلازمين مدى الحياة.
إن الواقع التاريخي والجغرافي للكثير من أقطار الخليج العربي وأقطار عربية أخرى ينعكس في التشابه الكبير لتفاصيل الاحتفالات للعرس في هذه الأقطار ولو أن هناك بعض الاختلافات الطفيفة وتطوي القرون ذكريات الماضي لتظهر في الحاضر فترة جديدة ذات طابع استقى ملامحة الحضارية لحركة التطور الاجتماعي الذي صاحب فترة ما بعد ظهور النفط في العراق ومعظم أقطار الخليج العربي فهذه الاحتفالات تقرب من الأذهان الفرحة الكبيرة التي كانت تعم الأسرة والأقرباء رغم الحالة الاجتماعية والمالية للكثير من الأسر في ذلك الوقت.
وقد كان الزواج البابلي... قد بلغ شوطاً من الرقي بالقياس للزواج في المجتمعات المعاصرة، وعلى الرغم من تطوره الا ان المرأة فيه ليس لها الحق في اختيار الزوج بل ان الامر كله متروك لوالد العروس فهو الذي يقرر كل شيء، كما ان الرجل ليس من حقه اختيار عروسه، فوالد العريس هو الذي يقوم باختيار الزوجة له وبعد الاتفاق يقدم (النيشان) على صينية او بواسطة الوالد ويعرف هذا عندهم باسم (تيرهاتو) بالاضافة الى تقديم الهدايا ومبلغ من المال لوالد العروس.
اما عند الاشوريين فحال الفتاة عندهم حالها لدى البابلين، امرها بيد ابيها وعند اعلام الخطوبة يقوم الخطيب بصب العطور على رأس خطيبته ويقدم لها الحلي وبعض النفقة وتنسب الفتاة منذ تلك اللحظة الى اسرة خطيبها وحتى لو توفي الخطيب فبامكان والد الخطيب تزويج الفتاة لاي ابن من ابنائه في سن الزواج وفي مناطق اخرى من العراق قديماً كانت الفتيات يجتمعن في سن الزواج في مكان معين ويجمع حولهن الرجال الراغبون في الزواج وينادي عليهن ويشتري كل واحد الزوجة المناسبة.
يعرف العراقيون دائماً بقدرتهم الواسعة على التعامل مع الظروف وما لا يرضون عنه، برغم ما في ذلك من سلبيات أو إيجابيات، لكن تبقى تلك أحدى صفاتهم التى لم تغيرها السنوات،
يعانى الكثير من الشباب العراقي من تكلفة إقامة حفل عرسه، وصارت إقامة حفلات الخطوبة والزواج هماُ يضاف إلى هم بناء عش الزوجية من السكن في بيت مستقل أو ألعيش في بيت الأهل وتأثيثه إلى شراء ذهب العروس النيشان.. حسب التعبير الشعبي، خاصةً مع ازدياد النزعات الاستهلاكية بين العراقيين فى السنوات التى أعقبت عصر الانفتاح الاقتصادي، ودخول عصر العولمة، ليصبح التباهي أوالكشخة من أهم لوازم الزواج.
بعد أن كان الزواج يتم عادةً فى بيوت الأهل، ويقام حفل الخطوبة لدى أهل العروس، وكذلك الامر مع حفل الزفاف، ظهرت فى الثمانينيات وحتى أواخر التسعينيات، موضة إقامة حفلات الخطوبة فى قاعات المناسبات والنوادى والفنادق، وهو ما يمثل عبئاً على أهل العروس المتكفلين باقامة الحفل، وبدأت موضة استعراض العريس لإمكانياته المادية أمام أهل العروس، من خلال تحمل نفقات حفل الخطوبة بالكامل الى جانب نفقات حفل الزفاف.. مع مرور الوقت، صارت الأسر تتوجع من تلك التكاليف، فكانت العودة إلى الطريقة القديمة، إقامة حفل خطوبة بسيط فى بيت العروس على نفقة أهلها، وتقلص الأمر إلى (قراءة الفاتحة) مع تبادل الخواتم ، ونادراً ما تقدم شبكة كاملة فى هذا الحفل.
ازدادت في الأونة الأخيرة ظاهرة عزوف الشباب العراقيين عن الزواج داخل العراق خصوصا بين فئة الشباب الذين تجاوزوا من العمر الثلاثون عاما
الاحتلال الأمريكي وما أدى إلى تفكيك كيان دولـة كامـل بـصناعاتها ومـشاريعها نتيجة الزراعية، فالاحتلال الأمريكي للعراق في العام ٢٠٠٣ وما نجم عنـه مـن التـدمير والنهب والحرق الذي أصاب مؤسسات الدولة والبنية التحتية ، وعلى وجـه التحديـد المؤسسات الصناعية ، وما تبع ذلك من أعمال تخريب وتوقف تـام للإنتـاج ،حيـث توقفت شركات صناعية حكومية عن العمل تماماً ، كا نـت تـستوعب الآلاف،فضلا عن حل الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي والمؤسـسات الأمنية المختلفة الأخرى بقرارات من قبل الإدارة المدنية لقوات الاحـتلال الأمريكـي
في أيار ٢٠٠٣، فضلا عن تفشي الجهل وانعدام المواطنة تقريباً لدى السلطة الحاكمة وتفشي الفساد والسرقات بصورة ملحوضة وانخفـاض الـولاء للوطن، لا شـك أن هذه الأمور له أثر كبير على تعظيم مشكلة البطالة حيث كثير من المشاريع تعد حبـرعلى ورق دون أن ترى النور، فخريجوا الجامعات العراقية بعددهم المتزايد واجهوا البطالة وعدم توفر أسواق العمل والتهجير وعدم الأستقرار جعلت الكثير منهم يعيش بلا أمل، وأمامه بلد يخرب وخال من الاحلام وبذلك أصبح مستقبله مجهول من كافة النواحي ومنها الزواج.
فرضت الظروف التي يمر بها العراقيون منذ 2003، أقدمت كثير من العوائل ومن مختلف شرائح المجتمع العراقي من العيش في الغربة، شعائر جديدة في حلّهم وترحالهم، أعراسهم وأحزانهم في تجمعهم بمناسبات الفرح وتكاتفهم عند المصائب وحتى في التقاليد التي كانت شائعة من ابتهاج وانشراح، ويكاد صوت الزغاريد يختلف خارج الوطن عما هو عليه في داخله، الداخل المثقل بحزن شديد لا يفكه زواج شاب ولا يزيح سواد ثيابه خطبة شابة، فالحزن في القلوب أقوى من أن ينسى، ومصيبة العراقي وألمه ليس بالأمر الهين، بل هو حزن غيور أو غيورة على وطن ضائع وتسرب من بين الأنامل كما الماء المسكوب، ولكن يبقى الأمل دوماً بعودة الحياة إلى ربوع بلاد الحضارات برغم فداحة الثمن، حلم قائم وأمل متجدد، فأي بلد أفنى الإنسان حياته فيه يستحق تضحية مواطنه فكيف إذا كان هذا البلد هو العراق.
شاركت في بعض حفلات الزفاف هنا في ألآمارات، إلا أنني قد أستطيع أن أنقل نظرة عامة عن كيفية الاحتفال بالزواج هنا، خاصة و أنني حضرت حفلات متنوعة لفسيفساء المجتمع العراقي والحمد لله أبتعدت عنها ريح الطائفية المسمومة وحلت محلها المواطنة العراقية الأصيلة،
يغلب على حفلات الزفاف هنا الترتيب التام والذوق الجميل في الاعداد تزينها الورود والشرائط الملونة تتوسطها واحة الرقص، يتواجد عدد كبير من القائمين على خدمتك، مع فرقة موسيقية أوال (دي جي)، و تصوير فيديو محترف، هو عرس حقا كبلادنا، لا يفرق عنه الا أن غالبية المدعويين من الأصدقاء، فأنت لن تجد في الغربة العدد الكافي من عائلتك لتدعوه لهكذا احتفال، كما و تحاول كل عائلة من العوائل العراقية أن تضفى طابعها العام على الاحتفال، فتجد العرس العراقي يذخر بكل ما طاب من أطباق عراقية ولبنانية وسورية وعندما يبدأ حفل الزفاف و كأن بداية الحفل كانت ايذانا للجميع بالبدء في الرقص الذي لن يتوقف إلا أثناء الطعام، هناك تختلط دموع الفرح مع دموع الحزن لعدم وجود أغلب الأحباب بين الحضور من الأخوة و الأخوات وأصدقاء والأقارب، مع فرصة رائعة لسماعك بعض الأغاني التراثية القديمة والحديثة التي أشتهرت ما بعد الأحتلال والتي غناها مطربون شباب صعدت نجوميتهم في الغربة بالأضافة للمطربين المعروفيين، فالعرس العراقي من غير مبالغة من أجمل الأعراس التي يتغناها أهل العراق والعرب عند احتفالاتهم بها من خلالها نشد ازرنا ونشحذ همنا من خلال السماع للموسيقى والكلمات الشاعرية الرقيقة والمعبرة التي تزيد من الحماس الذي يدفع المزيد من البذل والعطاء وكلمات الأغاني تنبعث من روح سامية لعشق الوطن، وما اغنية منصورة بغداد التي تتصدر حفلات الزواج الأ وتلهب روح المواطنة فتتوحد فيها المشاعر اتجاه الوطن وما أن تؤدى حتى تلتهب مشاعر كل الحضور رجالا ونساء مهما تنوعت أصولهم لتردد بصوت واحد منصورة يا بغدادا منصورة يا بغداد، تليها أغنية يا كاع ترابج كافوري التي تتغنى بتراب العراق وتبدا الهلاهل التي تزغردها النساء، يحرص العراقيون على توريث تراثهم الشعبي من جيل الى اخر خوفاً من تغيبه وحفاظاً على هويتهم من الاندثار والضياع وتعتبر رقصة الجوبي احدى اهم صور هذا التراث الذي يستند الى ارث فني وثقافي عميق يمتد زمنا طويلا عبر التاريخ تشتبك الايدي خلال اداءها كدليل على الوحدة والتضامن، وتبدأ حلقة الجوبي بالتشكل مع صوت قارع الطبل فيجتمع الشباب ويقوم شاب متمرس وهو يلوح بمسبحة أو منديل معقود الرأس ويدب الحماس للمشتركين وتضرب الأرجل بالأرض دلالة على الرجولة قفزاً أو أنحناءً وحسب الأيقاع بنسق جميل ومؤثر ترافقها أغاني متعارف عليها وسط زغاريد النسوة، ويستمر رقص الرجال وترفع وتلوح المناديل بالتحية بمشاعر فياضة ومؤثرة والعبرات تختلج في الأعماق والدموع تملأ العيون وبنشوة عميقة تهيمن على جزء من الروح لتملأها بالحب والحنين للوطن ولسمائه ومياهه، و يتذكر معها المدعويين زمنا قد انقضى لم يبق منه سوى بعض الذكريات التي احتفظ بها البعض لينقلها للأجيال.
لقد تحكم القدر بنا لأن نعيش في الغربة.. ولكن مع ذلك تستمرالعائلات العراقية في ممارسة التقاليد والعادات في الأعياد والمناسبات بشتى الطرق لتحافظ عليها بشكلٍ منظور، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
995 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع