سنوات صدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبدالمجيد ـ الحلقة الثالثة

   

سنــوات صــدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبد المجيد ـ الحلقة الثالثة

    

من الذي غدر ببغداد؟

صدام : سكان الجنوب أشجع من المقرّبين الذين خانوني..

على الرغم ممّا أصابني من دهشة للسرعة التي استولى بها الأميركيون على بغداد، فإني لا أجد بداً من الإقرار بأني قد ذهلت أيما ذهول، حين علمت بعد مرور ثلاثة أيام على سقوط النظام أن محمد الصحاف، وزير الإعلام، كان ولا يزال يسعى لإسماع صوت الرئيس العراقي. فقد اختبأ في بيته لبضعة أسابيع، رافضاً أي مقابلة حتى إذا كانت مدفوعة الأجر.

وبعد ذلك استسلم للأميركيين، الذين ما لبثوا أن أطلقوا سراحه، فهو القائد العراقي الوحيد الذي عرف كيف يتخلص بلباقة من المأزق!!!.

بعد سقوط بغداد بأيام قليلة، ظهر صدام لأخر مرة في الأعظمية، حيث راح يُحيي من داخل سيارته بعض الناس، ومن بينهم امرأة عجوز تقدمت منه لكي تمدّ له سبحتها وهي تقول على ما يبدو: »حفظك الله!«.

ثم تقدمت السيارة حتى منتصف الجسر حيث خرج صدام منها، ثم التفت نحو الأعظمية، وراح ينظر إليها في حركة أشبه بوداع لحي أعزّه وتعلق به كثيراً، ثم صعد في السيارة قبل أن يختفي عن الأنظار.

في اليوم نفسه، كان صدّام قد سجل شريطاً أذاعته محطة الجزيرة أكد فيه: «إنّ أقرب الناس إليّ هم الذين وجهوا لي طعنة من الخلف»، لم يستعمل صدّام كلمة «خيانة» لكن وكأنه قالها بالفعل.

وقبل فراره قيل لي إنه توقف عند أحد أصدقائه لبعض دقائق بالأعظمية وقال له وهو يضع يده على فخذه:

ـ سكان الجنوب أشجع من المقربين إليّ الذين خانوني، فهؤلاء ليسوا أفضل من نعل حذائي.

        

موجة الخيانات

في الشهور التي سبقت الحرب، سعى الأميركيون للتقرب من رجال أعمال ومسؤولين عراقيين عن طريق الهاتف، وقد كانت الرسالة واضحة: «إن هزيمة العراق وشيكة فلماذا تظلون إلى جانب المهزومين؟ التحقوا بنا! فسوف تكسبون المال، وسوف تحتلون مناصب في العراق الحر الذي سوف نبنيه معاً».

                       

وقد زعم بعضهم أن الأميركيين قد نجحوا في إقناع الكثير منهم، وقد ذُكر اسم أحمد حسين رئيس الديوان. ويقال إن الأميركيين قد اتصلوا أيضاً بأكرم عطّا مدير مصلحة الديوان بالرئاسة بوساطة مراسل أجنبي، وأن هذا الأخير قد قال له بأن الحرب لا معنى منها، ونصحه بأن ينسحب من النظام، لكن أكرم عطّا رفض العرض، غير أنه مع ذلك لم يُطلع رجال الأمن بهذا الاتصال مع العدو، ربما بدافع الخوف من الانتقام.

      

أما أنا فلا أحد سعى للالتقاء بي، لكن وزير الداخلية العراقية الجديد نوري بدران،الذي اختاره الأميركيون للتعاون معه ومع أعضاء آخرين من المعارضة ، ما لبثوا أن صاروا صلة وصل ما بين وكالة الاستخبارات الأميركية وما بين ضباط عراقيين زوّدهم الوزير بهواتف نقالة متطورة، كان النظام قد حظر استعمالها تحت طائلة ملاحقات صارمة، فقد كانت هذه الهواتف مخصصة للقادة وحدهم، وكان قصي، مثلاً، قد جلب منها مئات عديدة من أحد البلدان المجاورة.

أمام تضاعف هذا النوع من الاعترافات، صارت موجة الخيانات لا تثير أي شك اليوم. لقد صدرت الأوامر بعدم محاربة الأميركيين الزاحفين على بغداد، وأنا على يقين من كل ذلك. فحول محيط المطار، كانت قيادة إحدى الوحدات قد طلبت من رجالها أن تنتظر وصول المدد والعون، قبل أن تبدأ في استعمال الأسلحة.

  

وفي غضون ذلك، كانت عشرات عديدة من المدرعات الأميركية تنقضّ على بغداد، بل وحتى في داخل الوحدات النخبوية فضل بعض الرجال الامتناع عن خوض المعركة، فقد قال لي أحدهم إن قائده قد منعه من تفجير الألغام المزروعة تحت الجسور.

فقد أمره هذا القائد قائلاً:

ـ ابق مكانك! واسحب رجالك!

وفي شرق بغداد، كان جسر ديالى ممتلئاً بالعبوات الناسفة، لكن لم تنفجر منها أي واحدة!

لكن من الذي غدر بصدام؟

فحتى يحبط تقدم الأميركيين، تلقى اللواء ماهر سفيان التكريتي الأمر بإطلاق صواريخ على بغداد، حتى وإن خلّف ذلك خسائر في أرواح المدنيين العراقيين. كان قريب صدّام هذا قد عيّن العام 2002 قائداً لوحدة المرافقين أي حراس صدام، وهي الوظيفة التي حل محله فيها قبل الحرب ببضعة أشهر العميد حبيب.

    

كان ماهر سفيان رجلاً من رجال الظل، على غرار كل قادة الرئيس، فقد اقتربت منه من حيث لا أدري العام 1998، كنت أنتظر سكرتير الرئيس الخاص في مكتب رئيس الديوان أحمد حسين، حين دخل رجل أشقر بزي مدني، وقد تبادلنا الحديث نحو خمس دقائق قبل أن يغادر المكتب. بعد خروجه أخذ عليّ أحد كتّاب الديوان عدم تقديمي المراعاة والتقدير اللائقين بمرتبته.

كنت بالفعل أجهل هذا الرجل، الذي كنت أتحدث معه للتو. وحسب التقارير فإن ماهر سفيان قد تسلّم خمسة وعشرين مليون دولار مقابل الخيانة. وقد اعترف ضمنياً بهذه الاتهامات فيما بعد، فقد باح سره لبعض المقربين إليه قائلاً:

ـ لم أرتكب أي خيانة، بل على العكس وفرت خسائر عراقية حين رفضت معركة غير متكافئة أمام الأميركيين.

وثمة مؤشر آخر يؤكد الشكوك الدائرة حوله، وهو أن اسمه لم يرد ذكره في قائمة الشخصيات العراقية الخمسة والخمسين التي ألح الأميركيون في البحث عنها.

                                       

                         الفريق الركن/ حسين رشيد

وثمة أيضاً مسؤولون آخرون يشتبه في ارتكابهم للخيانة، ومنهم حبوش رئيس المصالح الاستخبارية، والذي لم نسمع عنه خبراً منذ بداية الحرب، والفريق حسين رشيد الأمين العام لقيادة القوات المسلحة ونجله علي الذي كان يعمل إلى جانب قصيّ. وقد ورد أيضاً ذكر صهر صدّام جمال مصطفى السلطان الذي كان مسؤولاً عن مكتب العشائر، والذي كان قد عُيّن العام 2002 مساعداً لعبد حمود. وقد استسلم جمال مصطفى للأميركيين في التاسع عشر من ابريل بعد مرور عشرة أيام فقط على سقوط بغداد.

        

مترجم صدّام

كنتُ وأنا طفلٌ أحلم بأن أكون طيّاراً حربيّاً، لكني صرتُ، حين كبرتُ، مترجماً خاصاً لصدّام، وما زلتُ حتى هذا اليوم أسائل نفسي، حين أنظر إلى الوراء، أيَّ معجزةٍ أوصلتني إلى ما وصلت؟ فلعله القدر أو إنْ شئتم «المكتوب» كما يسمّونه في الشرق الأوسط، ومع ذلك فقد بدأتْ الحياةُ بالنسبة لي على سوء تفاهم، في الأول من ابريل من عام 1945 في بغداد.

في تلك الأثناء لم تكن إدارة الحالة المدنية منضبطة في كل الأحوال. وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء تسجيل ميلادي في موعده على خلاف إخوتي وأخواتي جميعاً. في ذلك المساء كان عبدالمجيد، والدي، في أحد النوادي برفقة بعض الأصدقاء. وحين بلغه الخبر السعيد فرح له أيّما فرحٍ، ولمّا حاول أن يتوارى عن صحبه ليلتحق بوالدتي قهقه الصحب وقالوا:

«إنها كذبة ابريل! لا تغادرنا!» فوالدي إذنْ لم يعلم بميلادي إلا في آخر ساعة في الليل، ولذلك فمثل هذا اليوم من ابريل لا يمكن أن يُنسى بأي حال!

تَعُودُ أصولي الكردية بجذورها إلى السليمانية في شمال العراق، التي انحدرت منها سُلالات والدي ووالدتي. في بغداد كنا نتحدث الكردية داخل البيت، لكننا لم نكن نتحدث خارجه غير العربية، اللغة السائدة، فقد كنت أتحدث بكلتا اللغتين منذ الطفولة. وكان والدي يغضب أحياناً حين يراني أتبادل الحديث بالعربية مع إخوتي أو أصدقائي، فيردّد في سخطٍ وتذمّر: «علينا أن نحافظ على لغتنا!». لقد كان أبي متمسّكاً بتقاليدنا العائلية أيما تمسك، مولعاً بعاداتنا أيّما ولع.

              

كان والدي، الموظف بالجمارك قليل الاهتمام بالسياسة. كان مكلّفاً بمطاردة المهربين الذين كانوا ينتشرون بكثرة في العراق، فقد كان هؤلاء المتاجرون يسربّون الكحول في اتجاه الكويت والعربية السعودية عن طريق قنوات سرية، أما مع إيران فكانوا يُقايضون الشاي بحمولات من الفول السوداني والفستق. كان هؤلاء المهرّبون ينعمون بهذه التجارة كثيراً، لأنّ حدود العراق مع جيرانه كانت من الاتساع والامتداد بما يجعلها لا تخضع لأي مراقبة، ولم يتغير هذا الوضعُ اليومَ كثيراً.

وسوف أظل أذكر دوماً ذلك الهلع الذي أصابني ذات صباح حين اكتشفنا خنجراً مغروزاً على باب البيت، فقد كنا جميعاً تحت وقع الصدمة، كان ذلك العمل تهديداً سافراً ضد والدي، الذي كان قد أوقف للتو إحدى العصابات، لكنّ ذلك التهديد لم ينل من عناد والدي وإصراره على أن لا يستسلم للتهديد والابتزاز.

  

في الخمسينات والستينات، كانت الحياة في بغداد تبدو مهتزة مرتجة. كان الجو العام فيها متحرّراً طليقاً. كنا نذهب إلى السينما لمشاهدة الأفلام الأميركية، وكنت مولعاً بالأفلام التي يمثل فيها برت لانكستر، وكنت أقرأ الترجمة العربية لروايات موريس لوبلان وأهيم بمغامرات أرسين لوبين. وكنت أذهب مع العائلة إلى حفلات المطربة اللبنانية الكبيرة صباح.

           

قبل العام 1968 كانت الحكومات الملكية أو الجمهورية قد فرضت قيماً حضرية على القرويين وسكان الأرياف القادمين للاستقرار في العاصمة. وقد كان النازحون الجدد يسعون إلى «التّبغدد» بالتخلي عن لهجتهم الريفية، حتى لا يبدو عليهم مظهر التخلف.

ومع قدوم صدام وقومه من التكريتيين إلى السلطة، خلال السبعينات، انقلبت الظاهرة رأساً على عقب. فقد صارت الأرياف هي التي تفرض عاداتها ونمط حياتها على البغداديين. وهكذا صارت القيم العشائرية تقرض وتقضم شيئاً فشيئاً، الطابع الغربي لتلك الحياة التي أحببتُها كثيراً.

        

كنت، منذ الطفولة، قد تعلمت الانجليزية بالمعهد الأميركي للّغات في بغداد. وعند نهاية دراستي الثانوية رغبت في أن أحقّق أحلامي في الالتحاق بالقوات الجوية، لكنّ والدي ما لبث أن رفض هذه الرغبة لما في هذه المهنة، حسب رأيه، من خطورة بالغة، ناهيك عن أن أبناء الطبقة البرجوازية لا يحق لهم أن يكونوا غير أطباء أو محامين أو مهندسين، ولذلك لجأ إلى حيلة من حيله الماكرة حتى أعدل عن تلك الفكرة، حيث قال لي:

ـ إذا تنازلت عن فكرة انخراطك في الجيش، فسأدفع عنك تكاليف أربع سنوات دراسة في انجلترا لكي تصبح مهندساً.

         

وعن طيب خاطر قبلتُ بالعرض، وقد تملكني الفضول في اكتشاف الغرب ولا سيما انجلترا، تلك القوة التي كانت تحتل العراق يوماً. وهكذا وجدت نفسي عام 1962 في ثانوية «بُولتون» في منطقة مانشستر. غير أنني سرعان ما أدركت أنني لا أملك أيّ موهبة في الرياضيات أو الهندسة أو الفيزياء، بل كنت مولعاً بالأدب الإنجليزي أيما ولع، فكنت أمضي الساعات في التهام شتى أنواع الروايات. وكنت أعلم أنني لن أصبح مهندساً بأي حال من الأحوال.

وبعد مرور عام عدتُ إلى العراق لقضاء إجازات الصيف، وكان السفر بقطار الشرق السريع، الذي اشتهر في تلك الفترة حتى اسطنبول على الأقل، وقد استغرق السفر بعد هذه المدينة أربعة أيام، أدركتُ بعدها بغداد، التي وصلتها ذات يوم أحد، فوجدت والدي وقد أنهكه إعياءٌ ما لبث أن فارق على إثره الحياة في اليوم التالي، وكأنه آثر انتظاري حتى يلفظ ما بقي به من أنفاس، ولذلك لم أفكر في العودة إلى انجلترا لإنهاء الدراسة، واخترت الالتحاق بدائرة الآداب الانجليزية في جامعة بغداد.

بدأتُ حياتي المهنية بعيداً عن ضفّتي دجلة، ففي الستينات كانت بلاد الخليج تستقطب الكفاءات من سائر البلدان العربية، فكان المصريون والفلسطينيون والعراقيون يذهبون إلى هذه البلدان ليساهموا في بنائها بعقولهم وسواعدهم. وقد أرسل العراقُ أفواجاً من المدرسين إلى السعودية، وكنت واحداً من هؤلاء، فحصلتُ على وظيفة أستاذ للإنجليزية في السعودية. ووجدتُني في دهيبة وهي منطقة نائية في شمال البلاد.

كان يعيش في هذه القرية نحو خمسة آلاف من البدو تأويهم بيوتٌ بسيطة، قوامها الطوب والتراب المدكوك، وقد خلت من أسباب لين العيش، فلا ماء ولا كهرباء. إذ لا ثلاجات ولا تكييف، كان زادنا من الفواكه والخضر الطازجة يأتينا مرة أو مرتين في الشهر، تحمله إلينا إحدى الشاحنات المقبلة من العقبة، الميناء الأردني المجاور، وكانت هذه المؤونة تشحّ أحياناً، فأراني أمنّي النفس بشيء من الحليب الرايب ومن البندورة، ولو أتاني بها أحدٌ لأعطيته كامل الراتب.

في قرية دهيبة كنت أحسنّي بعيداً، فقد كانت بغداد وحياتها المضطربة تبدوان بعيدتين نائيتين، فلم يكن بالمكان سوى مظهر واحد للحداثةٍ هو مبنى المدرسة الجديد الوهاج، الذي شيدته شركة إيطالية في وسط القرية.

كان يزاملني بهذه المدرسة نحو عشرة من اللبنانيين والمصريين والفلسطينيين . أما إدارة هذه المدرسة فلم تكن تحق لغير سعودي، وكان الرجل يحترمني ويقدّرني كثيراً ولكنه كثيراً ما كان يقول لي في تذمرّ:

ـ أنتم العراقيون أصحابُ كفاءة واقتدار ولكنكم عنيفون عصبيّون، وتغضبون لأتفه الأسباب!

على مدى ثلاث سنوات ظللت أعيش حياة البساطة والتقشف، فكانت ساعاتُ لَهْوِي الوحيدة سهراتُ السّمر الطويلة التي كنتُ أقضيها على الشاطئ مع زملاء المدرسة.

  

فتحت النجوم كنا نستذكر العالم ونتأمل غروب الشمس، ونحن نستمع إلى أم كلثوم على أمواج إذاعة «صوت العرب» التي كانت تبث من القاهرة. كانت تلك الفترة فترة انتصار الناصرية.

كنت كل عام أسافر إلى العراق أنفق فيه ما كسبته في السعودية.

    

 وفي آخر صيفٍ رغبت قبل العودة إلى بلادي في زيارة القاهرة وبيروت. في العاصمة المصرية استأجرت غرفةً من رجل عجوز، وذات مساء اكتشفت أن كل مدخراتي قد اختفت، وكانت قناعتي أنّ صاحب البيت هو الذي جنى عليّ فرفعتُ شكواي إلى المحافظة التي أشفقت على الرجل، فلم تجد بدّاً من القول:

ـ بالإمكان أن نعذّب صاحبك حتى يقرّ بفعلته، لكنه كما ترى طاعن في السنّ، وقد يموت بين أيدينا!

فشعرت بالمرارة وعدتُ إلى بغداد مُفلساً، مُعدماً!

تحديات لغوية

لكن الحظ ما لبث أن ضحك لي، فقد بلغني أن وزارة الصناعة العراقية كانت تبحث عن مترجمين عن الإنجليزية. وما إن حصلتُ على الوظيفة حتى وجدتُني متآلفاً مع عالمٍ جديد، عالم الإدارة والإحصائيات، لكنّ كلَّ ذلك لم يُثبط وَلَعِي بالثقافات الأجنبية وتعلّم اللّغات.

وهكذا شرعتُ، بمحض الصدفة المطلقة، في تعلّم الفرنسية: كنت في الواقع أرغب في تعميق لغتي العربية، لكن الدراسات في جامعة المستنصرية كانت تدوم أربع سنوات، بينما في المقابل لم تكن دروس الفرنسية تدوم أكثر من عامين. وهكذا، بقليل من الكسل وكثير من الفضول، انطلقت في تعلم لغة موليير.

بعد عامين من الدراسة حصلتُ على الشهادة، فقد صارت فرنسيتي سليمة، غير أنني ظللتُ أعاني من نقص كثير في التحدث وفي الكتابة على السواء، فلم أجد بداً من الالتحاق بالمركز الثقافي الفرنسي،طلباً لمزيد من الدروس في المحادثة . وهنا أيضاً ربما كان قدري مكتوباً وحسن طالعي متألقاً، ففي هذا المركز الثقافي الفرنسي تعرفت على زوجتي نُهى. ولم يزدني اكتشاف الفرنسية إلا حماسة وإقبالاً.

                     

كان العام 1967 فترة ذهبية في العلاقات الفرنسية العراقية، فقد حصلت المؤسسات الفرنسية على عقود تلو العقود. وقد أبرمت وزارتا الصناعة في البلدين العديد من اتفاقيات التعاون، ارتبطت إحداهما بالمركز الوطني للإدارة الذي كنت انتقلت إليه. وبفضل شهر العسل هذا، حظيت بقضاء سنة كاملة في باريس بمعهد الإدارة العامة.

لكنّ مفاجأتي كانت كبيرة حين أدركت أن الفرنسية، التي تعلّمتها في بغداد، بعيدة كل البعد عن فرنسية الباريسيين، فهي تكاد أن تكون لغة أخرى مختلفة. ولذلك رحت أعمل بلا انقطاع ولا تأنٍّ وأخزّن من المفردات اللغوية ما وسعني التخزين، لدرجة أنني أنهيت امتحانات معهد الإدارة العامة النهائية الأول على طلبة الشرق الأوسط، وهكذا هزمت تحدياً لغوياً ولم يكن ذلك سوى بداية.

  

بعد مرور بضعة أشهر على عودتي إلى بغداد العام 1980 أعلن التلفزيون العراقي أن البلاد ستنظم بعد عامين في بغداد قمة للبلدان غير المنحازة. وحتى تُعِدَّ هذا الحدث، الذي كان صدّام حسين يُريد أن يصنع منه واجهةً، وجّهتْ وزارة الإعلام نداءً للشباب الذين يعرفون لغات عديدة أن يتقدموا بترشيحاتهم للحصول على وظائف كمترجمين ومترجمين فوريين، ومن يقع عليهم الاختيار يذهبون إلى الخارج لفترة اتقانٍ تدوم عامين في مدرسة للترجمة.

ولم أدع هذه الفرصة تفلت منيّ، فقد كانت انجليزيتي أفضل من فرنسيتي، فتقدمت بملف ترشح لمعهدٍ للغات في انجلترا، لكن الذين ترشحوا لمعهد لندن كانوا ثلاثة آلاف، بينما لم يزد عدد المرشحين لمعهد باريس عن الخمسمئة، ولما كنت أملك قواعد جيدة في الفرنسية فقد رشحوني تلقائياً لامتحان أوّلي في هذه اللغة، وفي هذا الامتحان أُقصي نصف المرشحين في الحال.

           

كان السلطات تُولي اهتماماً بالغاً لتنظيم هذه القمة الذي فُوّض أمرها ل ـ طه ياسين رمضان ـ، أحد أعضاء قيادة الثورة، الجهاز الأعلى في العراق. ولذلك كان من غير الوارد على الإطلاق إرسال مرشحين من «المدعومين» أو من الكسلاء والطائشين. وبالفعل، لم يتم قبول سوى أفضل العناصر.

ولهذا الغرض استقدمت وزارة الإعلام إلى بغداد أستاذين فرنسيين من المعهد العالي للترجمة الفورية والترجمة «إيزيت» لإجراء الفرز الأخير. وكانت السلطات العراقية تريد الاحتفاظ بعشرة طلاب، لكن حين وقع حكم اختصاصيي «إيزيت» لم يبق من المرشحين الذين يملكون المستوى المطلوب للدراسة في باريس سوى خمسة، وكنت من هؤلاء المحظوظين.

كانت ظروف حياتنا في باريس ظروفاً غاية في اليسر. كنا نتقاضى عن كلّ شهر نحو سبعة آلاف فرنك فرنسي. وقد سكنت في بيت من ثلاث غرف في حي الدفاع «لاديفونس». وأكثر من ذلك فقد أمكنني شراء سيارة، فقد كانت حكومتنا تفي بالنفقات في الحال. في مجموعة العراقيين بمعهد «ايزيت» كان اندفاع البعض للمتع التي توفرها العاصمة الفرنسية كثيراً ما يطغى على أي حافز عندهم لتعلّم تقنيات الترجمة.

أما أنا فقد كان الخوف من الفشل يستبدّ بي كالوسواس، فكنت مع زميلتي العراقية ميسون وطالب من تونس نُراجع الدروس معاً. وكنت بعد العودة إلى البيت مساءً أشاهد أفلام «نادي السينما» على التلفزيون، وكنت أترجم الحوارات لزوجتي التي لم تكن تعرف الفرنسية كثيراً، وكانت تلك وسيلة إضافية لي على طريق الإتقان.

لم نكن، نحن المتدربين على نفقة حكومتنا، مضطرين لمتابعة فترة دراسية كاملة، فقد أعدت لنا إدارة المعهد برنامجاً خاصاً، لكن بعد مرور ستة أشهر، كنت وزميلتي ميسون قد قطعنا شوطاً من التقدم والنجاح، مما جعل الإدارة تقترح إدراجنا ضمن قائمة الدفعة الرسمية للمدرسة وإعداد الدبلوم. إنّ «إيزيت» مركز للتكوين الاصطفائي عالي المستوى، فالمدرسون فيه ليسوا منظرين بل محترفون للترجمة والترجمة الفورية.

فقد كان أحد الكوميديين يعلّمنا تقنيات التنفس وكيفيات بث الصوت وتحسين الإلقاء واللعب على النبرات. وكنا نستعمل الفيديو أيضاً حتى نتدرب على رصد الأخطاء، ففي «إيزيت» تحديداً تعلّمت قواعد مهنتي، وقد أفادتني نصائح أساتذتي على مدى حياتي المهنية: ألاّ أذهب لأي حديث بدون ربطة عنق، وأن أتفادى شرب الكحول حتى ولو من أجل التخلص من التعب العصبي المرتبط بالتركيز المكثف، وألا أدخّن كثيراً، وأن أقرأ الصحف يومياً حتى لا أنقطع عن الأحداث... إلخ.

  

وقد حصلت على الدبلوم في يونيو 1982، وعند إعلان النتائج قال لي أحد أعضاء لجنة التحكيم، وهو مترجم في «الفاو»، منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، دون مقدمات: أنت مترجم ممتاز، هل ترغب في العمل في روما لحسابنا؟ لقد أحضرتُ معي استمارة توظيف.

كان اقتراحه مغرياً، لكن في واقع الأمر كان الواجب يعذبني: فلم يكن يسعني أن أتخلى عن بلادي التي مولّت دراساتي، وفي النهاية رفضت العرض في أدب، مخيّباً بذلك أمل زوجتي التي لم تغفر لي يوماً ذلك الرفض.

وعند عودتي إلى بغداد، كانت مفاجأة سيئة في انتظاري، حيث اكتشفت أن قمة البلدان غير المنحازة التي كنت أعدّ لها نفسي منذ عامين لن تعقد في العاصمة العراقية ولكن في نيودلهي بالهند! فالحرب ما بين العراق وإيران جعلت هذا اللقاء مستحيلاً، وشعرت بالخيبة والإحباط، لكنني وجدت عزائي في المهنة التي منحتها لي السنتان اللتان قضيتهما في فرنسا.

         

تحت رئاسة ناجي صبري

لكن فرصة القفز من جديد لم تطل كثيراً، فقد عينت رئيساً لدائرة الترجمة لندوات دار المأمون. فدار النشر هذه، التابعة لوزارة الإعلام والثقافة، مختصة في منشورات خطب الرئيس صدام حسين، فقد كانت تصدر صحيفة بالإنجليزية «بجداد أوبزرفر» وكذلك نشرة «بجداد» وهي مجلة شهرية بالفرنسية. في تلك الفترة كان مديري يُدعى ناجي صبري، وقد صار وزيراً للشؤون الخارجية العام 2001.

وما إن تسلمت الوظيفة حتى اقترحت عليه بأن «يُعرّق» قطاع الترجمة، فقد كان العديد من مترجمينا لبنانيين أو مصريين لقاء مكافآت كبيرة. ولذلك فإن إحلال عراقيين كان الكثيرون منهم عائدين مثلي لتوهم من تكوين في أوروبا، مكانهم كان سيكلفنا مبالغ أقل، وقد اقترحت أيضاً أن يُوزَّع نصف المال الذي نجنيه من الندوات على المترجمين من أجل تحفيزهم. وبدون تردّد قبل ناجي صبري هذا «التوطين». هذه السنوات التي قضيتها في دار المأمون كانت سنوات من الحرية الحقيقية. فقد كنت مُولعاً بعملي أيما ولعٍ، وقد تردّدت مرات عديدة على فيينا ونيقوسيا والبحرين، مترجماً للندوات التي كانت تنظمها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقد عملت أيضاً بشكل منتظم لحساب وكالات متخصصة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة مثل «الأونروا» وكذلك «الفاو».

ثم ذات يوم من أيام 1987 دعاني ناجي صبري إلى مكتبه. ولن أنسى تلك اللحظات على الإطلاق، فقد أعلن لي قائلاً:

ـ سمّان، ستعيّن مترجماً رسمياً لدى الرئيس.

وأحسستني في السماء السابعة وكأن عناية الله قد أحاطت بي. في الظاهر، كان مترجم صدّام خليل الخوري، وهو لاجئ سياسي سوري يعاني من بعض المشكلات الشخصية، فكان لابد من استبداله، وقد أضاف ناجي صبري قائلاً:

ـ لقد اخترتك ليس فقط لأنّ فرنسيتك ممتازة، ولكن أيضاً لأن الشخص الذي سيعمل لحساب الرئيس ينبغي أن يكون مهذباً مثقفاً. فمترجم الرئيس سيحضر في الولائم الرسمية، وهذا الرجل سوف يكون أنت، هيا اركب! إن الوزير في انتظارنا.

        

كان لطيف نصيف جاسم، الذي كان يحظى بتقدير صدام حسين، يشغل منصب وزير الإعلام والثقافة، وما إن جلستُ بجانبه حتى سألني هذا السؤال المربك:

ـ ماذا كانت نتائجك في الجامعة؟

إلى الحد الذي جعلني لا أستوعب معنى هذا السؤال:

ـ آسف، سيدي الوزير، أي جامعة تقصدون؟

ـ لقد درست الترجمة، أليس كذلك، فهل كنت تلميذاً نجيباً؟

ـ أجل سيدي الوزير، لقد حصلت على 16 من 20 بدبلوم «الإيزيت».

ـ جيد، جيد، شكراً، إلى اللقاء.

ذلك هو الحديث الذي اضطرني إليه وزير الإعلام والثقافة.

في الأسابيع الأولى اعتقدت أنهم سيطلبونني أو أن مصالح الرئاسة ستستدعيني لكي تستجوبني، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث على مدى شهور عديدة، فلم أتلق مكالمة هاتفية واحدة. وقد بدأ هذا الصمت يشغل بالي، ووضعت ذلك على حساب تدهور الأوضاع في العراق.

     

كانت الحرب ضد ايران قد استنفدت موارد البلاد، فقد كان الآلاف من الشباب يذهبون إلى ساحات المعارك. وحتى يكثف تعبئة المجتمع أنشأ النظام الجيش الشعبي، فقد صار كل الناس، من شباب ودون الشباب، يُستدعون لقضاء أربعة إلى ستة أشهر في هذا الجيش.

وقد شاركت أنا نفسي في هذه الخدمة، حيث أرسلوني إلى منطقة زاخو الواقعة في الشمال على الحدود التركية. وفي خلال إجازة مدتها أسبوع واحد في بغداد، انتهزت الفرصة لزيارة أصدقائي وزملائي بالوزارة، وبعد أن غادرتهم صعدت إلى مكتب ناجي صبري لألقي التحية عليه. وما أن رآني حتى رشقني بالسؤال:

ـ هل تسلمت الرسالة؟
ـ لا، ما الأمر؟
ـ ولكننا في انتظارك منذ أسبوع، فالرئاسة في حاجة إلى خدماتك!
وعلى الفور استقبلني لطيف ناصيف جاسم، حيث سألني:
ـ هل أنهيت خدمتك في الجيش الشعبي!
وشرحت له أنني كنت في إجازة، وبأنني سأعود إلى الجبهة في صباح اليوم التالي.
ـ هذا غير وارد، ستبقى هنا!
ثم طلب سكرتيره وأملى عليه رسالة موجهة إلى قيادة الجيش الشعبي: «نحن في حاجة إلى سمّان عبدالمجيد، ولذلك يجب أن يُعفى من الخدمة العسكرية الإجبارية».

وأخذت الرسالة وتوجهت بها إلى قيادتي في الجيش التي أنهت تجنيدي. وبعد يومين عدت أدراجي إلى بغداد، حيث وجدت رسالة كان لطيف ناصيف جاسم قد تركها لي. كان علي أن أظل على أهبة الاستعداد، وأن انتظر الاتصال في أي لحظة.

                            


للراغبين الأطلاع على الحلقة الثانية:

http://www.algardenia.com/fereboaliraq/8462-2014-01-21-18-58-57.html

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

908 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع