الكاظمية في الخمسينيات من القرن الماضي مشاهدات ... وذكريات

الكاظمية في الخمسينيات من القرن الماضي مشاهدات... وذكريات

الكاظمية في الخمسينات لا تتجاوز مساحتها الكلية (13300 دونم) ومجموع بيوتها (4264) داراً، كما سجلت ذلك الاحصائيات البلدية عام 1953،

والكاظمية تعيش في وسط من بساتين ومتنزهات ومزارع ممرعتة، أن هذه الجنائن موزعة بشكل قوس اخضر يمتد من حدود الطارمية ماراً بالمحيط منتهياً عند آخر حد فاصل من العطيفية،بحسب الحدود الادارية للقضاء، مشكلا مع نهر دجلة هلالاً مائياً دائم العطاء. فيه تكثر أشجار النخيل والحمضيات كالنارنج والبرتقال والليمون، تعانقها اشجار التفاح والمشمش والخوخ والتين.

وتتناثر بينها الدور الفخمة لتضفي عليها الاطمئنان. كانت تلك البساتين، متنزهات مفتوحة امام الناس للراحة والابتعاد عن صخب الحياة، بخاصة للأسر وتلامذة المدارس، حيث كانت تزدحم بهم ايام العطل والاعياد:

ومع ذلك فلم يخطر على بال احدهم صغيراً كان ام كبيراً ان يقطع بعض اغصانها او يستولي على شيء من ثمارها.

وكان للموسرين من اصحاب البساتين اماكن خاصة لحفظ الأثاث وادوات الطبخ وبعض الغرف للاستقبال والراحة، ولطالما استمع الناس الى الغناء العفوي ينطلق من تلك البساتين فيمنحهم المسرة والانس كان اغلب مالكي البساتين او المغارسين كرماء نحو معارفهم واصدقائهم ايام جني الثمار، كانوا يهدون كميات منها شاكرين المولى على نعمته داعين لزيادة البركة والخير.

نتقدم قليلاً نحو قلب المدينة حيث يطالعنا المرقدان المقدسان الطاهران للامام موسى الكاظم وحفيده الامام موسى الجواد، وليس بعيداً عنهما مرقد الفقيه القاضي ابو يوسف، وكان هذا المكان الشريف يسمى تاريخياً بـ(مقابر قريش) على عهد العباسيين. ان مشهد البناء الشامخ بقبتيه ومنائره الاربع الموشاة بالذهب، والاضرحة المغلفة بصفائح الفضة، تعطي الانسان رهبة وصعوداً روحياً ينسى معهما ماديات الحياة اليومية، هنا ترى الناس وهي تحيط بالاضرحة صفوفاً متراصة متدافعة تدعو وتتضرع وتطلب التقرب والتبرك، اما في الصحن الواسع فتتعدد المداخل وتتنوع السبل، لتقودك الى طارمة القبلة او الديوان الصفوي او الرواق الشرقي، حيث الجدران والسقوف مغطاة بقطع المرايا الصغيرة، في حين تكون الأعمدة والزوايا الجدارية مغلفة بالقاشاني الملون، تعلوها آيات قرآنية كريمة واحاديث وادعية شريفة خطت بصيغ والوان تتداخل فيها الحروف بالزخرفة الاسلامية ذات الشهرة الواسعة.

في الصحن الواسع وباحاته العريضة يجلس الناس هنا وهناك يأكلون – كباب – الكاظمية الشهير ويشربون – الاسكنجبيل – الحلو في مذاقه، او الشاي المنعش، بينما يروح الاطفال يتقافزون هنا وهناك وقد كوّنوا لهم صداقات آنية وحلوى النذور تتناثر فوق روؤسهم.

نخرج الان، بعد ان ملأنا جوانحنا بالرحمة والحب والحنان ننطلق في ارجاء الكاظمية، في اسواقها وخاناتها وفنادقها ومقاهيها ومطاعمها وازقتها التي تحنوا عليها (الشناشيل) ذات الالوان الزاهية. كانت الخانات ايامها هي الفنادق التي يلجأ اليها المسافرون القادمون الى الكاظمية في اوائل هذا القرن. وكانت تلحق بهذه الخانات مواقع خاصة للطبخ، وكذلك مواقع آخر للخيول او غيرها من الحيوانات. كما كان بعض هذه الخانات مخصصاً لخزن البضائع والمتاجرة بها. وأشهر هذه الخانات (خان السادة، وخان الاستربادي، وخان جرموكة، وخان باب الدروازة... الخ).

وتنتشر هنا وهناك الحسينيات والمدارس العلمية والرسمية والدينية، كما تنتشر فيها او خارجها المكتبات المخصصة للطالعة والمراجعة. وقد اتيحت لي الفرصة غير مرة، بدخول تلك المكتبات والتعرف على كنوزها الثقافية ومخطوطاتها النادرة، ومن ابرز تلك التي زرتها، مكتبة الحسن العام، ومكتبة الجوادين، والمكتبة الخالصية ومكتبة آل ياسين، ومكتبة آل محفوظ وغيرها وهي مكتبات خاصة بمعنى التملك، ولكنها مفتوحة امام الجميع لينهلوا من معينها الثر، فكم رسائل للماجستير والدكتوراه.. وكم من الكتب المؤلفة اعتمدت في مصادرها على تلك المكتبات. لقد كان بودي زيارة مكتبات أخر تعود للصفواني وآل الحيدري وآل شرف الدين، والخاقاني وغيرها فلم يسنح الوقت ولا الحظ.

إلى جانب هذه المكتبات هناك مراكز صحفية واعلامية مهمة، كان يعمل بعضها وكان يشار إلى البعض الآخر بالتقدير لما أدى من رسالة ثقافية ومن اهمها، (العدل الاجتماعي) للدكتور صادق مهدي السعيد، و(الصياد) فاضل الطائي، و(مدينة العلم) للشاعر محمد هادي الدفتر، و(الوسيلة) لطارق الخالصي، و(الكتاب) لجمعية الخدمات الثقافية و(العلم) للسيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني وهي مجلة ثقافية عامة كان لها صداها الواسع في حقول المعرفة عند صدورها.

إذا ما سرنا قليلاً متجهين الى باب الدروازة لندخل السوق، شممنا رائحة البخور والعطور والشموع المشتعلة، مختلطة بروائح ماء الورد والحلويات والشواء والمخللات، تنبعث من هذا الدكان، او ذاك المطعم. وبين هذا المحل وذاك نشاهد الملابس والعباءات والاقمشة الملونة تطل عليك معلقة على واجهاتها.

في نهاية السوق، مكان لا ينساه الزائر (إذا كان قد ادرك دوره في نهاية الاربعينات واستعاد الذكريات عنه) ذلك هو محطة توقف واسطة النقل الاساسية بين الكرخ والكاظمية إلا وهو (الكاري)، تلك العربة الخشبية ذات الطابقين التي تجرها الخيول على سكة الحديد، وكانها عربة قطار حديث حيث تمر بـ (المنطقة) موقع جامع براثا حالياً، ثم بقصر عبد الهادي الجلبي الذي ينتصب في واجهته الامامية (الأيل) الحجري الضخم: ثم ينتهي به المطاف عند السوق الذي نقف الان عنده.

لم تكن في الكاظمية غير خمس محلات هي "التل" شمالا على طريق الطارمية، و"الدبخانة" و"القطانة" على بساتين المحيط المطل على دجلة، و"الشيوخ" على شارع العسكريين المحاذي لطريق سامراء، و"العطيفية" في الجنوب الغربي حتى طريق سكة الحديد بغداد – الموصل. وفي هذه المحلات ازقة وعقود نتعرف على اهمها: كباب الدروازة، والسادة، والعكيلات، والانباريين، الوبحية، وام النومي، والشوصة، والنواب، والنعش خانة، والهبنة، وفضوة آل ياسين.. الخ. وفي الازقة التراثي دور واسعة هي تراثية ايضا بكل ما في الكلمة من معنى، وهي تعبير معماري شرقي لن يتكرر بديازته وطابوقه االمزخرف واعمدته الخشبية و(طارماته) و(حجراته) ونوافذه الزجاجية المتعددة في الالوان والزخارف. والامثلة على تلك البيوت الرائعة، بيوت النواب والاستربادي، وعبيدة واقبال الدولة..

وشأن ازقة بغداد جميعها، تجد دكاكين صغيرة لذوي المهن كالحلاق والحائك والعطار ومصلح الدراجات.. الخ كما تجد المقاهي الصغيرة الخاصة في بهذه المحلة او تلك منبثقة في تلك العقود، تجاورها حمامات عامة للرجال او النساء، ومعامل يدوية للنسيج، واحيانا تجد صيدلية او عيادة طبيب او قابلة، او مكتبة قرطاسية وصحف وما الى ذلك.

وفي جولتي شاهدت معملاً للدباغة متواضعاً بامكاناته وعماله، لكنه ينتج من الجلود المدبوغة الملونة ما تعجز عنه بعض المعامل الكبيرة. في الخمسينات ظهرت في الكاظمية معامل كبيرة، ربما اسست قبل هذا التاريخ، ولكننا ونحن نتجول شاهدناها قائمة تعمل بجد وتعطي منتوجا ضخماً ومتميزاً، كمعمل الطابوق العصري ومعمل فتاح باشا للنسيج وغيرها، وهي تعمل في الطاقة الكهربائية وتؤدي عملها ميكانيكياً وقد استخدمت العشرات من الأيدي العاملة.

تنتشر في الكاظمية مجالس الادب والشعر والتاريخ وهي تنعقد بانتظام في ايام محددة، ويؤمها عدد من رجال الثقافة، حيث تتاح لهم فرصة اللقاء باصدقائهم ومعارفهم، ومن بين تلك المجالس الكثر ثلاثة مجالس حضرتها غير مرة مع عدد من الادباء والشعراء. وهي مجلس السيد هبة الدين الحسيني في مكتبة الجوادين، ومجلس الخالصي في مدرسته الواسعة، ومجلس آل ياسين في بيتهم العامر، كما حضرت مرة واحدة مجلس الصحفي الكبير سلمان الصفواني. في تلك الفترة كنت أزور الكاظمية في بعض الجمع، فاجلس في مقهى الزهراء قرب مستشفى الكاظمية العام وبناية المحاكم والقائمقامية، واتطلع الى السوق الذي يربط بين ساحة الزهراء والمراقد المقدسة المزدحم بالمحلات والزائرين القادمين من كل حدب وصوب، منتظراً الشعراء والادباء الاصدقاء خاشع الراوي، وصادق القاموسي وعبد الصاحب الملائكة وطارق الخالصي وصبري الزبيدي، وبعد تبادل احاديث الادب والشعر، يخرج لفيف منا في جولة تنتهي عند مكتبة الجوادين، حيث نصغي الى الحكمة والنادرة التاريخية والطرفة الشعرية يرويها بهدوئه المعهود ولسانه العذب السيد هبة الدين الحسيني، ثم نخرج منه مرددين مع انفسنا (حقاً ان المجالس مدارس) لينطلق كل الى حال سبيله، ولأواصل وحدي مسيرتي فامر على معمل الغزل والنسيج للشركة العراقية المتحدة، ثم انعطف نحو ازقة العطيفية المحاطة بالبساتين من كل جانب حتى النهر، تطل عليه قصور حديثة البناء، وبالقرب منها سايلو بغداد المطل على النهر يقابله على الشارع العام جامع براثا، وهو من الجوامع الكبيرة، له منارتان تطلان على الشالجية وباحة واسعة وقاعة شتوية كبيرة، ملحقة به مقبرة وغرف للادارة ولراحة المصلين والزائرين.

عن كتاب (في هوى بغداد).ذاكرة عراقية ,خالص عزمي

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع