في ذكرى ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ احد المقربين من العائلة المالكة العراقية يفتح قلبه لأول مرة
في بداية عام 1967 افتُتِحَ في بغداد مطعم انيق سمي مطعم فاروق، نسبة الى صاحبه السيد فاروق عبد الرحمن الياسين. وبفترة وجيزة اصبح هذا المطعم قبلة العوائل العراقية المتوسطة والغنية. ثم اصبح الملتقى شبه اليومي لقادة البعث الذين وصلوا الى السلطة في 17 تموز/يوليو 1968. (وهذه قصة اخرى سيفرد لها مقالا اخر.) المهم ان ما لم يكن يعرفه الكثيرون من العراقيين ان العصامي فاروق عبد الرحمن كان ملازما اولا في الجيش العراقي عندما احيل على التقاعد في يوم الثورة، وانه كان من أفراد الحرس الملكي و أحد الأشخاص المقربين للمرحوم الامير عبد الاله الوصي على العرش، وصديق شخصي ومقرب من الملك فيصل الثاني ، بل و أكثرهم قربا لكليهما. ظل الرجل صامتا طوال هذه الفترة حتى أقنعته بان يروي ذكرياته مع العائلة اللمالكة العراقية في في الذكرى التاسعة والخمسين لثورة 14 تموز. وكان غرضي ان اعرف منه اكثر عن الاسباب الداخلية (داخل العائلة المالكة) التي أدت الى المصير المؤلم للعائلة المنكوبة.
ولد فاروق عبد الرحمن في بغداد عام 1930، وبعد ولادته بفترة قصيرة توفي والده ليخلفه وشقيقه المرحوم خلوق أيتاما. بعد ان أنهى دراسته الابتدائية والثانوية التحق بالكلية العسكرية عام 1948، رغم ان ذكاءه كان يؤهله للالتحاق بكلية اخرى، الا انه اثر العسكرية لكي يضمن لنفسه موردا ماليا ثابتا وجيدا ومستقلا، ينهي العسرة المادية التي كان يعاني منها. تخرج من ضمن الدورة 28 برتبة ملازم . وسأسرد ذكرياته كما يرويها ردا على أسئلتي، مع بعض الملاحظات او التعليقات البسيطة من قبلي، يقول:
(ابتداءا أحب ان اثبت ملاحظة أساسية و رجاء لقاريء هذه الذكريات ان لا يعتبر قسم مما يرد فيها بانه انتقاص من، او تجريح بأحد أعضاء العائلة المالكة رحمهم الله جميعا. لأني والله يشهد أحببتهم وأحترمهم ، ولهم في قلبي منزلة كبيرة جدا وذكرى عطرة. ولكني احاول ان اثبت بعض الأمور التي عشتها للتاريخ.
البداية
تعرفت على المرحوم الامير عبد الاله في جلسة عائلية كنت قد اصطحبت فيها خالتي لزيارة الأميرة صالحة عمة الامير عبد الاله. والأميرة صالحة كانت هي من هرب الوصي بعباءة نسائية اثناء حركة مايس 1941، وظل يحفظ لها هذا الموقف. وفِي هذا اللقاء شجعني على الالتحاق بالكلية العسكرية، بعد ان أخبرته باني اروم الالتحاق بكلية الطب. وبالفعل فعلت ذلك في عام 1948 بعد تجربة قصيرة في كلية الحقوق والعمل بعد الظهر لكي اوفر لنفسي موردا ماليا. وفي هذا اللقاء ايضا، وبعد ان عرف باهتماماتي الرياضية، دعاني للمشاركة في رحلة صيد ابن اوى الذي كان يقيمها بين فترة واُخرى. وأتاحت لي هذ المشاركة التعرف على المرحوم الملك فيصل الثاني، ونشأت علاقة صداقة حميمة بيني وبين الرجلين حتى قبل ان التحق بالحرس الملكي.
بعد ان تخرجت برتبة ملازم ثان في عام 1951 تم تنسيبي الى الحرس الملكي. حيث ازداد قربي من الوصي والملك، الذي وجد فيّ شخصا قريبا من عمره واشاركه هواياته مثل الصيد والتنس ومشاهدة الأفلام السينمائية التي كان دائما ما يدعوني اليها في قصر الزهور.
منذ ان دخلت القصر وجدت ان الوصي وآرائه تسيطر سيطرة تامة عليه وعلى افراده الذين كانت غالبيتهم العظمى من النساء، الذين أحاطوا الملك الشاب برعاية خاصة جدا ربما كانت السبب في ابعاده عن الحياة العامة والسياسية، وخلقت منه شخصا ضعيفا. وكانوا يبررون ذلك بسبب إصابته بالربو (الأسمة) والنوبات التي يسببها هذا المرض له. من ناحيته فان الملك كان إنسانا مؤدبا جدا وخاضعا لهيمنة خاله الوصي وزاهدا بالحياة السياسية والمُلك والسلطة والنفوذ. كما انه كان محاطا بأصدقاء قليلين جدا من أبناء العوائل الغنية ورؤساء العشائر، والذين لم يكن لهم اية اهتمامات سياسية. ولم يكن خاله يشركه في أمور الحكم مثل ما كان يفعله والد وجد الملك حسين في الاْردن رحمهم الله .
كما ان هناك حقيقة ربما لا يعرفها الكثيرون رواها لي من عاصروها هي ان المرحوم الملك غازي والد فيصل لم يكن يتعامل مع عبد الاله باحترام او تقدير، ولم يوكل له اي منصب رسمي. وهذا ما ولد عنده حالة من الاستياء انعكست فيما بعض على تصرفاته. ومن هنا ايضا جاء اعتراض بعض الساسة المهمين في العراق على تعينه الوصي على الملك الطفل بعد وفاة والده. الا ان المرحومة الملكة عالية والدة فيصل وشقيقة عبد الاله اصرت ان يكون هو الوصي وادلت بشهادة قالت فيها ان الملك غازي طلب منها ذلك قبل وفاته، وهذه قصة معروفة.
بالنسبة لي وكل العاملين قي القصر الملكي والذين كنّا على تماس مباشر مع الوصي كان الرجل يتعامل معنا باحترام وادب ولياقة وببساطة واضحة، ونادرا ما كان يغضب علينا او يوجه لأحد منا كلاما قاسيا، وهذه الصفات كانت تختلف تماما عن ما كان خصومه يروجونه عنه وعن شخصه. وربما كان في تعامله السياسي يختلف عن الشخصي، او يمكن ان أقول ان للرجل شخصيتين متناقضتين. كما اني كونت فكرة بعد معايشتي العائلة المالكة وما سمعته عن المرحوم عبد الاله قبل ان أكون قريبا منه، ان شخصيته قبل عام 1941 كانت تختلف تماما عنها بعد عام 1941 بعد اضطر للهرب والعودة بعون بريطاني و برغبته في الانتقام من من تسبب له في هذا الموقف المهين.
التقارب والتنافر بين الوصي ونوري السعيد
بالتأكيد ان قابليات وامكانات ودهاء نوري السعيد كانت اكبر بكثير جدا من إمكانيات عبد الاله المحدودة جدا. الا ان الاول حاول بكل ما اوتي من قدرة اسناد عبد الاله كي ينجح في مهمته كوصي على العرش حبا منه ووفاءا للعائلة المالكة. (وربما لكي يبقى هو الشخص الاقوى وبدون منافس اعلى منه لمعرفته بقدرات عبد الاله المحدودة. سعد) . ولكن بعد فترة بدا عبد الاله يشعر بنفوذ وشخصية السعيد الطاغية ، وبدا يحاول ان ينافس او يتحدى ذلك. وعلى الرغم من ان نوري السعيد تمتع بصبر كبير في هذا المجال، الا ان بتقادم الزمن بدأت الخلافات تطفو على السطح. لا بل ان عبد الاله حاول ان يتعامل مع نوري السعيد بنوع من التعالي والتجاهل، وصلت الى حد انه في مرة من المرات حضر السعيد الى القصر الملكي للقاء عبد الاله الذي كان جالسا في شرفة مطلة على المدخل وشاهده السعيد، الا ان عبد الاله أرسل اليه احد جنود الحماية ليخبره ان الوصي غير موجود في القصر.
بعد ان تصاعدت الخلافات بين الرجلين واستمرار الوصي على السيطرة على الملك الشاب وقرارته اقترح نوري السعيد على عبد الاله ان يقبل وظيفة سفير فوق العادة للعراق في الدول الأوربية يكون فيها مشرفا على كل السفارات العراقية في أوربا والولايات المتحدة وان يكون مقره مدينة اسطنبول التي كان عبد الاله يعشقها، كي يفسح المجال للملك الصغير كي يتصرف بمفرده. ورفض عبد الاله. لا بل وصل الامر بنوري السعيد ان يثور في وجه عبد الاله في مرة من المرات ويقول له بالحرف الواحد، (العراقيون يكرهوك ويعتبروك رجل متعجرف ومتعالي ومغرور وحقود ، والافضل لك و للعرش ان تبتعد عنهم). طبعا قبل ذلك اضطر نوري السعيد رغم حكمته وبعد نظره الى ان يساير عبد الاله في محاولاته المتكررة كي يقلب نظام الحكم في سوريا وتحويلها آلى ملكية هاشمية و تنصيب عبد الاله ملكا على عرش سوريا. ورغم تحذيرات نوري السعيد الا ان عبد الاله ظل يدعي ان هذا حقه وحق العائلة الهاشمية التي انتُزِع منها العرش السوري بالقوة، وكان يردد عبارة (هذا حقي). وذهب السعيد الى حد قبول استضافة شخصيات سياسية سورية ، والتخطيط لقلب نظام الحكم بعمل عسكري. واذكر ان في بداية عام 1958 او نهاية 1957 طُلِبَ مني ان اذهب مع ضابط آخر من الحرس الملكي بملابس مدنية الى مطار بغداد بسيارتي اجرة اعتيادية كي نستقبل ثلاث شخصيات سورية أتت للاجتماع بالوصي ونوري السعيد للتفاهم حول التغيير في سوريا. وحضر اللقاء صبري العسلي والكزبري ووزير دفاع سوريا آنذاك. واجتمعوا مع نوري السعيد وَعَبَد الاله وخليل كنه ووزير الدفاع العراقي والسيد محمد الصدر . وفِي نهاية الاجتماع طلب الوفد السوري مبلغ مليون ونصف دينار عراقي تكاليف الإعداد والقيام بهذا التغيير، وكان هذا مبلغا كبيرا جدا بقياس تلك الأيام ، وكان تعليق نوري السعيد بعد هذا الاجتماع ان اعطوهم ما يريدون لان هؤلاء الساسة كبائعات الهوى يذهبون مع من يدفع لهم اكثر. وبالفعل ظهر بعد مدة وجيزة انهم كان من اقطاب دولة الوحدة. (بعد الوحدة قام رجل النظام القوي عبد الحميد السراج بفضح تلقي العسلي مبالغ من العراق مما أدى الى إنهاء دور العسلي السياسي بصورة كاملة . سعد)
الخطة الاخرى التي تماشى معها نوري السعيد هي تلك التي اودت بالنظام الملكي فيما بعد، وهي إرسال قوات الى لبنان لدعم حكومة كميل شمعون، والحقيقة ان هذه القوات كانت ذاهبة لتبقى في سوريا وتغير نظام الحكم فيها. ولكن القوة قلبت نظام الحكم في بغداد. (طبعا يجب ان يذكر هنا ان ما كان يقوم به نوري السعيد ليس فقط لإيجاد عرش لعبد الاله في سوريا لإبعاده ، وانما ايضا انسجاما مع تفكيره في احياء فكرة الهلال الخصيب وتعزيز دور العراق الإقليمي في مواجهة مصر آنذاك. سعد). كما يندرج في ذلك عمله على تأسيس حلف بغداد. ومن ثم إقامة الاتحاد العربي مع الاْردن ردا على الوحدة المصرية-السورية، ثم الاخطر من ذلك اصراره على ضم الكويت للعراق او للاتحاد العربي لتمكينه من القيام بمهامه المالية. هذا الامر الذي رفضته إنكلترا رفضا قاطعا وكان احد أسباب إنهاء الملكية في العراق من وجهة نظري.
كما اذكر جيدا وصول وفد من اعضاء مجلس قيادة الثورة المصري برئاسة الصاغ ( الرائد) صلاح سالم ويرافقه عبد اللطيف البغدادي، آلى منطقة سرسنك في كردستان العراق ، مصيف العائلة المالكة، لكي يثنوا نوري السعيد عن ذلك. وكنت و أفراد الحماية نجلس بعيدا ونراقب الحوار الذي في نهايته هيمن عليه نوري السعيد بدهائه وأسلوب إقناعه و نجح في كسب صلاح سالم الى جانب فكرة الحلف، ولكن سالم اشترط ان يكون مقره في القاهرة وان يسمى الحلف العربي. ومن شدة سعادة صلاح سالم بنتائج الزيارة فانه قام وشارك فرقة كانت تؤدي الدبكة الكردية رقصها التقليدي. (فيما بعد لام عبد الناصر صلاح سالم لانخداعه بأسلوب نوري السعيد وخرج على الملأ مهاجما فكرة حلف بغداد. سعد)
اخطاء المرحوم الامير عبد الاله
تبقى اول الأخطاء وأكثرها تأثيرا على مستقبل الملكية في العراق هو اصراره على الهيمنة على أمور الدولة مستغلا صغر سن الملك الطفل وعدم وجود أشخاص من العائلة المالكة في العراق ممن يستطيعون مواجهته. الشخص الوحيد الذي تنبه لهذه الحقيقة هو المرحوم الملك حسين، وخاصة بعد تسلمهما هو والمرحوم فيصل العرش في العراق والأردن. بدا الملك حسين يحث الملك فيصل على التخلص من تأثير خاله وان يأخذ زمام الأمور بيديه كلما التقاه. ولما وجد ان فيصل غير قادر على ذلك بدا هو بنفسه يتحدى عبد الاله امام فيصل ويظهر له عدم الاحترام او الهيبة التي يستحقها منصبه وسنه ومكانته في العائلة. فمثلا كان يتحدث معه ويجادله بصوت مرتفع ويدخن السيكارة أمامه ، وفِي مرة من المرات وفِي نقاش بينهما في حفل رسمي صرخ الملك حسين بصوته الجهوري بوجه عبد الاله: انت غلطان غلطان. وتركه ومشى. وفِي زيارة اخرى قام الملك حسين بتقليد عدد من الضباط العراقيين أوسمة أردنية، وكبرتكول متعارف عليه كان على ملك العراق ان يفعل نفس الشيء مع ضباط يقترحهم الجانب الأردني. وكان من بين الأسماء التي رشحها الاْردن الشريف ناصر خال الملك حسين، الا ان عبد الاله وبسبب موقف شخصي من الشريف ناصر قام بشطب اسمه، الامر الذي اغضب الملك حسين كثيرا الذي قال للملك فيصل انت الملك ولا بجب ان تسمح للآخرين بالتدخل في مهامك، وطبعا عبد الاله كان يسمع ذلك.
الخطأ الاخر الذي كان الكثير من الضباط الأقدم مني والعراقيون بصورة عامة يتحدثون عنه دائما هو اصراره على إعدام العقداء الاربعة الذين قادوا حركة مايس/مايو 1941، والتي كان من نتيجتها ان هرب عبد الاله من العراق. واصراره على تعليق جثثهم على بوابة وزارة الدفاع لايام. (وكذلك فعل مع جثة صلاح الدين الصّباغ الذي استطاع الهرب ثم سلمته تركيا للعراق بعد سنة من فشل الحركة ومع ذلك فانه اعدم و أبقيت جثته معلقة لمدة ثلاثة ايّام بأمر من عبد الاله. وقبل ذلك قام بالذهاب الى السجن الذي اعتقل فيه قادة حركة مايس وقام بشتمهم وإهانتهم الامر الذي اغضب نوري السعيد كثيرا الذي قال هذه ليست اخلاق الملوك. سعد). طبعا انا لم أكن قد عايشت تلك المرحلة لصغر سني آنذاك، الا اني وجدت تبعاتها وآثارها باقية ومستمرة عندما التحقت بالحرس.
الخطا الثالث تمثل في عدم اتخاذ الخطوات الاحترازية لمنع قيام الثورة على الرغم من التحذيرات الكثيرة وخاصة من الملك حسين ومن المرحوم بهجة العطية مدير الامن العام. وسمح لنفسه ان ينخدع بتطمينات رئيس أركان الجيش رفيق عارف، الذي أعتَقِدُ انه كان على علم بالانقلاب وكان يطمح او موعود بمنصب ارفع بعد التغيير. (وربما كان يعتقد ان دوره في التغيير سيكون مدور محمد نجيب في ثورة مصر . سعد). كما انه لم يأخذ زمام المبادرة في قيادة قوات الحرس الملكي التي كانت قادرة على سحق القوة المهاجمة، عندما وجد ان هناك تذبذب في تصرفات امر الحرس طه البامرني. وهذا ما كان يفعله المرحوم الملك حسين عندما يواجه اية مشكلة، لقد استسلم الامير الى الامر الواقع ، و رفض استعمال قوة الحرس التي كانت تفوق بكثير قوة المهاجمين، وكان يظن ان جل ما سيحصل هو تسفير العائلة المالكة خارج العراق كما حصل في مصر.
الثورة
قبل الثورة حصلت لي مشكلة مع المرحوم الوصي، حيث اني تحدثت بحسن نية عن علاقة عاطفية ربطته مع فتاة عراقية . ويبدو ان شقيقاته لم يوافقن على هذا الاختيار كونها غير عربية، واستدعتني شقيقته الكبرى لكي تسألني عني حقيقة الخبر ولتحذرني من لعب دور الوسيط. وعندما علم الامير بدلك استاء ولامني لأني تحدثت بالموضوع. وشعرت بعدها باني أصبحت بعيدا عنه. ثم أخذ الأبعاد شكلا اخر عن طريق ترشيحي الى دورات عسكرية خارج البلاد، كان اخرها دورة لثلاثة أشهر في إنكلترا بدأت في مايس/مايو 1958. اثناء انتظامي في الدورة حضر الامير عبد الاله الى لندن واستدعاني. ولما حضرت اخبرني ان الترتيبات الأولية لزواج الملك فيصل الثاني قد استكملت، وكلفني مع المسؤول المالي في السفارة العراقية ان نكمل الترتيبات لحضور العروسين الى إنكلترا يوم 16 تموز ، وتم نقلي مع المسؤول المالي الى قصر ملكي في اطراف لندن. وكانت السفارة على اتصال مستمر معي وتنفذ كل ما أقوله واطلبه بوقت قصير وقياسي.
ما ان حدثت الثورة حتى تغيرت الأمور بشكل جذري فالشخص المسؤول عن المجوهرات والحلي الذهبية العائدة للعائلة الملكية والموجود معنا في لندن، وهو عريف بالجيش العراقي، قام بسرقة كل المجوهرات والحلي واختفى، كي يظهر بعد مدة من اصحاب الاملاك المهمة في لندن. والوزير المفوض في السفارة العراقية طالب مسؤول الحسابات بتحويل الأموال العائدة للعراق والسفارة الى حساب خاص يديره هو، ولما رفض مسؤول الحسابات اعتدى عليه الوزير المفوض بالضرب. اما بالنسبة لي فعندما راجعت السفارة في اليوم التالي لأعلم ماهو مصيري كضابط في الجيش العراقي، قابلني معاون الملحق العسكري المقدم عبد القادر فائق بوجه متجهم، وأخبرني بانه مطالب بإعادتي مخفورا الى العراق بعد ان تمت أحالتي على التقاعد. في نفس الفترة تسلمت كتابا رسميا من السفارة الاردنية يعلمني باني أستطيع الالتحاق بالجيش العربي الأردني وبنفس رتبتي ، على أساس ان وزارة الدفاع الاردنية هي التي أصبحت مسؤولة عن الجيش العربي الهاشمي الذي يضم الجيشين العراقي والاردني بموجب الاتحاد العربي. وما كان مني الا ان ذهبت الى السفارة مرة ثانية ومن حسن حظي اني التقيت بالملحق العسكري نفسه المرحوم العقيد صادق علي، الذي رحب بي وأخبرني بكل أدب انه لا يستطيع ان يفعل لي اي شيء. فأخبرته بأني لا اريد منه سوى ان يتسلم مني كتاب السفارة الاردنية ويرسله الى الجهات المعنية في العراق ويبلغها برغبتي العودة كإنسان اعتيادي. ولم اسمع منه اي شيء بعدها. من كثرة خشيتي على عائلتي، ولصعوبة التواصل معها آنذاك ، عدت الى بغداد وبدات معاناتي في الحصول على راتبي التقاعدي. ونصحني البعض من زملائي الضباط ان اطلب مقابلة المرحوم العقيد عبد السلام عارف، خاصة وإني كنت صاحب فضل كبير على مرافقه الملازم الاول آنذاك عبد الله مجيد والذي كان من دورتي في الكلية العسكرية، وبعد التخرج ألقي القبض عليه متلبسا بتوزيع منشورات معادية للملكية، وتمكنت من تجنيبه أية عقوبة عسكرية، والتي كانت ستكون صارمة. وذهبت الى مكتب عبد السلام في الدفاع، الا انه تم ابقائي انتظر لمدة عشر ساعات حتى أدخل عليه. وما ان دخلت حتى نهض من وراء مكتبه وقال لي بسخرية ، (أهلاً فاروق، كنتوا فوق أصبحتوا الان تحت الاحذية، كنت تمر من امامي ولا تودي لي التحية.) فقلت له هذا لا يمكن ان يحصل سيدي فأنا عسكري واحترم الرتب ، هل يمكن ان تخبرني متى حصل ذلك؟ قال في سرسنك، تذكر لما كنت امر عليكم وانت تلعب التنس مع …..الصغير (ويعني المرحوم الملك) كنت لا تودي لي التحية. قلت له سيدي كيف يمكن ان أودي التحية وانا العب التنس؟ المهم لم ينتج اي شيء عن هذا اللقاء. ومن سخريات القدر ان احد زملائي الضباط الذين قصصت عليهم لقائي هذا، اتصل بي بعد شهرين من الحادثة وقال لي اذا ترغب ان تحضر وان تشتم عبد السلام او توجه له اية إهانة تريد ان توجهها تعال الى سجن رقم واحد العسكري فأنا المشرف عليه و عبد السلام (الخائن!!) مسجون عندي. فشكرته وقلت له هذا ليس خلقي.
ولَك ان تقارن هذا اللقاء بلقائي بالمرحوم عبد الكريم قاسم بعد اكثر من شهر تقريبا. فلقد عرض علي صديق وظيفة في شركة نفط العراق، كمشرف على فرق الاستكشاف في الصحاري العراقية، فقبلت، بل فرحت بها لانها تبعدني الشامتين. ولكن الامر كان يستوجب الحصول على موافقة وزارة الدفاع كوني عسكري سابق. فذهبت لمقابلة المرحوم اللواء احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، مع طلب للموافقة على التعيين. ولما دخلت عليه اخبرني باني اذا كنت ارغب في العودة للجيش فهذا امر شبه مستحيل. فأخبرته بسبب زيارتي. وبينما كنت اتحدث معه حدثت جلبة كبيرة و غير اعتيادية، ثم فتحت الباب ودخل عبد الكريم قاسم بنفسه وتوجه الى العبدي قائلا ابو سعد هذا الموضوع! ثم قبل ان ينهي جملته حانت منه التفاتة فرآني واقفا في جانب الغرفة، فتوجه إليّ قائلا الست الملازم اول فاروق من الحرس؟ قلت نعم سيدي، فقال انا اثمن موقفك الوطني و رفضك الالتحاق بالجيش الأردني، فشكرته، ثم قال ماهي حاجتك، فأخبرته وطلبي في يدي، فاخذ مني الطلب وكتب عليه (يعين) ، ووقع على الطلب. وهكذا بدأت حياتي في السلك المدني بعد ان طلقت الحياة العسكرية الى الأبد.
المصدر:رأي اليوم /حوار أجراه سعد ناجي جواد
609 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع