كوكب الشرق - أم كلثوم - زمان .. واليوم

      

                  ام كلثوم زمان..واليوم.!

      

المعلومات التي في هذا المقال تختلف قليلا عن المعلومات التي عندنا.. والكلمة الآن لأم كلثوم..

                 

منذ عدة سنوات.. ولا داعي لذكر عددها، فالمرأة تكره كل من يذكرها بأن لها شهادة ميلاد!
منذ عدة سنوات كنت في السنبلاوين، ورأيت في سرادق اقامة احد مشايخ البلد طفلة في ثوب احمر من الكاستور الرخيص، تنشد القصائد، وكان الجمهور لا ينصت الى صوتها، بل كان يقتل الوقت في تجاذب اطراف الحديث كما يحدث عادة في الحفلات!

                                    


لم تكن الطفلة جميلة، او لعل جمال طفولتها قد اختفى يومها وراء ذبول وجهها ومظاهر فقرها وفاقتها. ولكنها كانت تعتز بصوتها، فقد لاحظت يومها انها كانت تصر على اسنانها وتشد ثوبها بحركة عصبية، وتختلس النظر للجمهور المنصرف عنها، وكانت عيناها تقولان: "اسمعوني.. ان صوتي جميل!".
ولكن احداً لم يقرأ ما في عينيها، لأن الحاضرين يومها كانوا جميعا من الأميين!
ولا تنكر ام كلثوم حوادث فقرها، بل هي تفخر بها في كل مجلس من مجالسها، وتروي لصديقتها كيف حرمت من الذهاب الى كتاب القرية، لأنه لم يكن لدى اسرتها اكثر من خمسة قروش شهرية يدفعونها لمصاريف ذهاب شقيقها الى الكتاب!
وهي تروي كيف كانت تغني نظير نصف ريال وزجاجة (غازوزة)، وكيف انها كانت تصر على ذكر (الغازوزة) في عقودها مع اصحاب الافراح!
ومرت السنون، وانتشر اسمها في القرى المجاورة، وراحت تغني القصائد في الحفلات.
الى ان تزوج احد العمد من مصر، فاحضرها من بلدها لتحي حفلة الزواج بدار العروس في الشيخ سلامة وحضرت يومها الى القاهرة في الدرجة الثالثة، واكلت سميطة وجبنة رومي لأول مرة!
ويشاء حظ ام كلثوم ان يحضر الفرح بعض الفنانين فيعجبوا برخامة صوتها، ويقنعوا والدها بإقامة حفلة لها في القاهرة ورفض الأب ان تغني ابنته في حفلة عامة، ولكنه ما لبث ان اقتنع واحضرها للمرة الثانية الى مصر وفي الدرجة الثانية!
كانت الحفلة في نادي الالعاب بشارع خيرت يحيى في السيدة زينب.
وكان نجاحها عظيما، وخرج الجمهور يقول:
- إنها مدهشة.. بس اسم "ام كلثوم" دمه ثقيل!
واقترح احد متعهدي الحفلات على والد المطربة ان يغير اسم ابنته، ولكنه رفض!
كان ذلك في سنة 1921، واقامت ام كلثوم مع والدها في فندق جوردن هاوس بشارع عماد الدين حيث ينزل العمد واثرياء الريف!

        

كانت ام كلثوم في سعادة لاحد لها في نزولها بأعظم فنادق مصر، ولم  تكن تعرف ان في القاهرة فنادق اخرى كشبرد ومينا هاوس وسميراميس!

وسمعها في ذلك الوقت الشيخ ابو العلاء فأعجب بها وراح يشجعها ويدربها على غناء قصائده، وهي "افديه ان حفظ الهوى او ضيعا" و"اماناً ايها القمر" و"غيري على السلوان قادر".
وسمعها سيد درويش تغني على مسرح برنتانيا، فدهش لرخامة صوتها، وقوة حنجرتها، واقترح على والدها ان نشترك ابنته في التمثيل على المسرح.
ورفض الأب ان تصبح ابنته مشخصاتية!
وزاد الاقبال على ام كلثوم، فاستوطنت القاهرة، واقامت في شقة متواضعة بحي عابدين!
كانت ام كلثوم تشعر وهي في حجرتها انها ملكة!
أليس عندها سرير من النحاس؟ أليس عندها دولاب بمراية!!
كانت تطل من نافذة عرفتها كل ليلة لتدعو الله ان يدوم عليها تلك النعمة وهذا الرخاء!
***
لم يكن لأم كلثوم في ذلك الوقت تخت موسيقي، بل كان صوت والدها هو الكمان، وحنجرة شقيقها هي الرق!
الى ان اتفقت معها شركة اوديون على ان تملأ اسطوانة واحضرت لها القصابجي ليدق على القانون، وصبري ليعزف على العود.
ورجا الاثنان من الشركة الا تذيع خبر قبولهما العزف لأم كلثوم!

               

وقبضت يومها ام كلثوم 50 جنيها! وامسكت بالاوراق المالية تعدها مرة واثنتين وثلاثاً، فقد كانت المرة الأولى التي تلمس فيها باصابعها هذا المبلغ الضخم! وظلت بدون تخت الى سنة 1926، حين ظهرت على مسرح دار التمثيل العربي وحولها محمود العقاد وسامي الشواء والقصبجي!
وكانت ليلتها عيدا لأم كلثوم، ومأتما للفنانين الثلاثة، لانهم ظهروا جهارا مع ام كلثوم!
ولكن لم يدم المأتم طويلا، لأن اسم ام كلثوم اصبح يدوي كالطبل في المجالس والصالونات.
وسمعها الشاب احمد رامي، فراح يلاحقها بالقصائد وينثر عليها الطقاطيق! وتلقف القصابجي قلب الشاعر الولهان، وراح يلحن انينه واغاريده.
وسمعنا ام كلثوم تغني لرامي "إن حالي في هواها عجب" و"يا ريتني كنت النسيم"!
وتهافتت شركات الاسطوانات على ام كلثوم، وراحوا يضعونها في المزاد وارتفع سعر الاسطوانة في اقل من ثلاث سنوات من خمسين جنيها الى 300 جنيه.

                                      

وقبل ان يصبح لأم كلثوم تخت موسيقي، تعلمت العزف على العود، وحاولت ان تعزف لنفسها على المسرح، ولكنها فشلت، لأن ام كلثوم لا تستطيع الغناء إلا اذا وقفت على قدميها!

                   


وقد يتساءل بعض الناس عن سر ام كلثوم، وهل هو حنجرتها الهائلة! او شخصيتها الجذابة؟ ام خفة دمها؟
والواقع ان سر ام كلثوم هو انها ابرع تلميذة في مدرسة الحياة.
لا شك في أن الله قد حياها بحنجرة اجمل من حناجر جميع المطربين والمطربات، ولا شك في ان لحسن مخارج الفاظها فضلا كبيراً في نجاحها!
ولكنها قد تعذبت في تهذيب حنجرتها.
ولم تحسن مخارج الفاظها إلا بعد ان حفظت القرآن.. وبعد ان اطلعت على الكثير من كتب الادب القديم، وبعد ان اتصلت بأكبر الادباء.
وبإتصال ام كلثوم بالادباء ضربت عصفورين بحجر واحد، فقد زادت ثقافتها باختلاطها بهم، واستطاعت ان تحصل على كتبهم مجانا!
وام كلثوم تقرأ كل كتاب يُهدى لها، ولو كان عن زراعة الطماطم او عن تربية الخنازير!
وتعتبر ام كلثوم نفسها حتى الان تلميذة في مدرسة الحياة.  فقد تعلمت اللغة الفرنسية بعد سن الثلاثين، وتعلمت كيف تكون السيدة الاولى في مجلس يضم زوجات وزراء وبنات عظماء.

                               

وقد علمتها مدرسة الحياة ان صفة العرفان بالجميل هي الطريق الى السعادة والهناء، فلم تنس اقاربها الفقراء ولا بلدياتها الفلاحين.. فما من عيد يمر إلا وترسل لهم الهدايا، وما من مؤسسة خيرية تقام في بلدها إلا ولأم كلثوم حجر فيها..
وعلمتها مدرسة الحياة ان تفخر بفقرها وان تحتفظ بوقارها الريفي، ولذلك فقد رفضت ان يقبلها اي ممثل في رواياتها السينمائية.

وعلمتها مدرسة الحياة ان الجمال هو البساطة، فتبسطت في ازيائها وفي جواهرها وفي حديثها.
وهكذا كانت مواظبتها على دروس مدرسة الحياة وهي سرها العظيم.
الاثنين والدنيا/آذار- 1944
المصدر/ المدى

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع