بدري نوئيل يوسف
فلاسفة الواجهة... حينما تُداس الحقيقة بحذاء مُلمَّع
طبيعة البشر مليئة بالتناقضات الساحرة، نحن نبحث عن الحقيقة، لكن أحيانًا نخاف منها. نحب المعرفة، ولكن قد نرفض ما يتحدّى معتقداتنا. لدينا قدرة هائلة على الإبداع والتعاطف، ومع ذلك، نقع في فخ الغرور أو الإنكار.
من يتأمل في النفس البشرية يرى أننا مزيج من النور والظل، من السعي وراء المعنى والهرب منه في الوقت ذاته. وكأننا في رحلة دائمة بين الاكتشاف والإنكار، بين فهم الذات والاختباء منها.
في عالم مملوء بالتحليلات والتغريدات واللايفات والليكات، ظهر نوع بشري جديد، هو الخبير في كل شيء، العارف بلا معرفة، والمُنكر للحقيقة ، يدّعي أنه الخبير في كل شيء ، فهو بلا معرفة حقيقية وغالبًا ما يكون أسير الغرور، ومَن يُنكر الحقيقة قد يكون خائفًا منها أو غير مستعد لمواجهتها.
العارف بلا معرفة نقد واضح للتصنع والتظاهر بالعلم، وهو أمر قد يُضعف الحوار الحقيقي ويُضلّل من يبحث عن الفهم. في مثل هؤلاء، قيل قديمًا: "من جهل شيئًا عاداه."
هؤلاء لا يحتاجون إلى دليل، يكفيهم إحساس داخلي قوي وشاشة لامعة ليُقنعوك أن الأرض تدور عكس دورانها، والهواء صلب، وأنهم قرأوا أفلاطون في الميترو. فهم يقرؤون العناوين فقط، اي عنوان مقال ثم يصرّحون أمام الجميع وكأنهم شاركوا في تأليفه، وعندما يُسألون عن التفاصيل يردون بـ: الموضوع معقد جدًا عليكم، خلّوه عليّ.
يتحدثون بثقة تجعل البروفيسور يشك في شهادته، ويقتبسون من كاتب لا يعرفون إن كان حيًّا أم شخصية خيالية في رواية بوليسية.يدّعون أنهم خبيراء في الاقتصاد، الفلك، الطبخ، والطب النفسي... لكن إذا سألتهم ما الفرق بين البنك الدولي والبنك المركزي، يبدؤون الحديث عن وصفة الشاي الأخضر وتأثيره على الاقتصاد الشخصي!
يهاجمون الحقيقة لأنها ببساطة لا تتماشى مع شعورهم الشخصي وكأن المنطق صار خيارًا، كإضافة زيت الزيتون في البيتزا.كلما شاهدوا أي جهاز إلكتروني قالوا بثقة: آه نعم، هذا يعمل بالذكاء الاصطناعي الكوانتي الانعكاسي، وهم لا يعرفون كيف يطفئن تنبيه تحديث التطبيقات على هواتفهم!
يُحاورن وكأنهم في برنامج مناظرة عالمي، لكنهم لا يقبلون بأن تُصحح ما يقولون، لأنهم يعلمون ويكفيهم أنهم يعلمون. إذا خالفتهم، اتّهموك بأنك محدود التفكير وغير مطّلع على آخر الأبحاث، مع أنهم لا يستطيعون تحديد مصدر واحد من أي بحث يتحدثون عنه.
والحقيقة لديهم مثل إشعارات تحديث النظام، تظهر فجأة في وقت غير مناسب، فينقرون تجاهل وكأنها لم تكن. يُنكرون الأرقام، يتجاهلون البراهين، ثم يبتسمون ابتسامة المنتصر وكأنهم اكتشفوا سر الخلود في فنجان قهوة، الطرافة هنا ليست في السخرية من الناس، بل في تسليط الضوء على ظاهرة قديمة، ادّعاء الفهم أخطر من الجهل، لأنه يُضلّل لا يُنير.
هم لا يكرهون الحقيقة بحد ذاتها، بل يكرهون أنها لا تخدم روايتهم، فلو صادفوا أن الحقيقة وافقت رأيهم؟ فجأة تصبح مقدسة، يُقتبسون منها، وتُوضع كتعليق على صورة سيلفي عند الغروب.
هم عبدة الجهل المقدّس حين يدّعي العارف أنه أذكى من الحقيقة نفسها في زاوية ما من هذا العالم، حيث تدخن العقول بدل السجائر، يجلس أولئك الذين يعرفون الحقيقة جيدًا ثم ينكرونها بدمٍ بارد وبعينين نصف مغلقتين كأنهم يحدقون في الشمس بينما هم في قبو.
إنهم كائنات نادرة، يجيدون فن التمثيل المعرفي، يرتدون قناع الحكمة، ويتحدثون بنبرة من يعرف كل شيء، بينما الواقع يصفق من بعيد صارخًا لكنكم تعلمون أنكم تكذبون!
هم لا يناقشون، بل يلقون خطبًا. لا يبحثون، بل يُفتون. وإذا خالفتهم الرأي، اتُّهِمت بأنك لم ترتقِ بعد لفهم مستواهم الفكري. والحقيقة؟ ربما لم تنحدر لمستواهم المسرحي!
الحقيقة عندهم كالعفريت، يعرفونه جيدًا، لكنهم يحبون حبسه في المصباح. وإذا ناقشتهم بالبراهين، ردوا عليك بـ حدسك لم ينضج بعد. وإذا واجهتهم بالوقائع، قالوا من أين أتيت بهذه المصادر المشبوهة؟ غوغل؟ أضحوكة!
المنطق خصمهم الأكبر. يطاردونه بكلمات ضخمة، يعيدون ترتيب الجمل حتى تبدو كأنها اقتباسات من كتب فلسفية، بينما هي، في الواقع، أشبه بتغريدات ضائعة من حساب ساخر.
يدعون انهم نخبة المعرفة الوهمية حين تكون الحقيقة عورة يجب سترها!في عالمٍ مملوء بالألوان، ويصرّ بعضهم على ارتداء نظارات رمادية، ثم يُقسمون أن كل شيء باهت.
هم يعرفون الحقيقة تمامًا، كما يعرف اللص صوت جهاز الإنذار، ومع ذلك يواصلون الاقتحام وكأن الضوضاء مجرد موسيقى تصويرية لحياتهم العبقرية. يتحدثون بإسهاب عن الفلسفة والوجودية، لكنهم لم يُكملوا قراءة كتابًا في حياتهم، ويعتقدون أن سقراط هو نوع من الحلوى اليونانية.
الشهادات عندهم تصرف كجواز سفر للعصمة ، لا تسألهم: ما دليلكم؟ بل اسألهم: ما لون الختم على شهادتكم؟ فإن أجابوا بثقة، فاعلم أنهز يروؤن في شهادة الماجستير إذنًا إلهيًا للتعالي، وكأن المعرفة تُزرَع بالتكريم لا بالتفكير!
من يجرؤ على الشك إذا قلت لهم لكن الأدلة تقول كذا، يردون: عزيزي، أنا لا أقرأ، أنا أستنبط. وإذا سألت: لكن الحقيقة واضحة!، أجابوا: واضحة لمَن؟ للعوام؟ نحن فوق هذه السطحية! وإنك أمام كائن يظن أن الحقيقة تُبتلع مع القهوة الصباحية، ثم تُهضم مع اللايكات والمداخلات المنمّقة.
تخصصهم؟ إدارة الحقيقة! يقطّعون الحقيقة كأنها بيتزا: يأخذون منها ما يشتهون، ويرمون الباقي في سلة يشتكون دائما من مؤامرات غير موثوقة. ولديهم دائمًا نظرية، تبدأ بجملة: أنا لا أؤمن بنظريات المؤامرة، لكن ثم يخبرونك أن الكون مجرد وهم، وأن المنطق ليس أكثر من خدعة غربية.
فيا صديقي، إذا صادفت أحدهم فقط ابتسم، وربّت على كتفه، وقل له:أعلم أنك تعلم، وتعلم أني أعلم أنك تعلم، لكن دعنا نواصل لعبة التظاهر.
نصيحة: لا تُناقش من اختار الجهل بوعي، فأنت لا تُجادل إنسانًا، بل تواجه جدارًا مرصوصًا بالإيحاءات الزائفة والأنا المنتفخة. وإذا وصلت إلى الحائط المسدود، فقط ابتسم وقل: هنيئًا لك بمعرفتك ، أما نحن فسنواصل التفكير.
709 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع