اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات

د. سعد ناجي جواد*

اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات

منذ اسابيع غير قليلة بدأت تنتشر احاديث ومقولات مفادها ان الموقف الدولي، وبالذات الأوربي يشهد تغيرا في نظرته إلى حرب الابادة المستمرة في غزة، وبلغ التفاؤل عند عدد من المتابعين إلى حد انهم تصوروا ان هناك تغيرا جذريا في المواقف الاوربية وان مسالة حل الدولتين ستعود بقوة الى الساحة الدولية.
ربما اكون واحدا من اكثر المشككين بهذه الفكرة وارفض ان اصدق هذا الاستنتاج. ورفضي هذا لا ينبع من روح سوداوية او يأس قاتم، ولكنه تشائم ينبع من إيماني بان من أصر على زرع كيان غريب في قلب الامة العربية ولأسباب دينية وسياسية، بل واعتبر ذلك النصر النهائي في الحروب الصليبية (هذا ما اكدته أعمال وتصريحات ظهرت بعد احتلال سوريا وفلسطين والعراق بعد الحرب العالمية الثانية) كلها ادلة على ان هذه العقيدة والفكرة لم تتغير لحد الان، جولا يمكن ان تتغير بسهولة.
وقبل تحليل الأحاديث الرسمية التي تقال هذه الايام ومحاولة تحليلها، اسمح لنفسي ان أضرب مثلا اوليا. في مقارنة ما يجري في غزة منذ سبعة عشر شهرا من ابادة جماعية لا تستثني احد، وفي معدل قتل للفلسطينيين يصل إلى سبعين شهيدا يوميا، بل والتركيز على استهداف الأطفال، مع ما حدث ويحدث في أوكرانيا، هل هناك من يستطيع ان يساوي بين الحدثين في معدل الضحايا او حجم التدمير؟ ولكن لننظر كيف تعامل المجتمع الدولي مع ذلك الحدث، ليس فقط الولايات المتحدة، ولكن الدول الاوربية قاطبة. اولا وقبل كل شيء فانها جميعا قاطعت روسيا تماما وفرضت كل أنواع العقوبات الاقتصادية عليها، وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها، وحرمتها من التواجد في كل الساحات الدولية وفي كل المجالات وصولا إلى المشاركة في الفعاليات الفنية والرياضية، وجعلت من روسيا دولة منبوذة أوربيا ومن قبل كل حلفاء الولايات المتحدة، والاهم ايدت كل القرارات التي صدرت من المحاكم الدولي لملاحقة القيادات الروسية، بينما اسرائيل لا تزال قادرة على المشاركة في كل الفعاليات الدولية، بل وتشجيعها عندما تتواجد في هكذا فعاليات. (اخرها كان في مسابقة الأغنية الاوربية، حيث كادت الأغنية الاسرائيلية ان تحصد الجائزة الاولى بفضل تصويت مؤيدي الصهاينة لها، وفي الوقت الذي كان فيه هذا الاحتفال يمضي كان الاحتلال يقصف خيام النازحين والمدارس المتهالكة التي يأوون اليها). واذا ما عدنا إلى الوراء وقارنا عدد الشهداء الذي سقطوا من الأشقاء الكويتيين جراء الاجتياح العراقي غير المبرر سنجد انه يشكل اقل من نصف بالمائة مع ما سقط ويسقط من شهدا في غزة لوحدها، والكل يعرف ماذا كانت نتيجة الاجتياح العراقي ومقدار القرارات الدولية التي اتخذت ضد الشعب العراقي والحصار اللاإنساني الذي اُخضِعَ له، والملايين الذي راحوا ضحيته وضحية حربين شنت على العراق وتوجت باحتلاله، كل ذلك لان العراق (اعتدى على دولة مجاورة)، واليوم اسرائيل حولت منطقة يسكنها مليوني إنسان إلى ارض جرداء، وتصر على حرمان سكانها من ابسط متطلبات الحياة وقتلت اكثر من ثمانين الف فلسطيني، ومع ذلك لا يزال هناك في اوروبا صحف وسياسيين وإعلاميين ومحطات فضائية مهمة تتحدث عن (حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها وفي البقاء) وفي الاحتفاظ بالمستعمرات لحماية امنها القومي [كذا]. وغير ذلك من أمور التي لا يمكن تفسيرها إلا بكونها دعم لا متناهي للاحتلال وللقتل اليومي للفلسطينيين.
في العودة إلى التصريحات التي اعتُبِرَت (تغييرا جذريا في المواقف الاوربية) فان كل ما ترشح لحد الان هو أقوال فقط، مثل الرغبة في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ودعوة لقبول فلسطين دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة (للعلم فقط فانه في عام 2024 صوتت الجمعية العامة، وكذلك مجلس الامن، بأغلبية ساحقة على قبول فلسطين كعضو كامل، ولكن الولايات المتحدة افشلت هذا التوجه باستخدام حق الفيتو). علما بان الغالبية العظمى من الدول التي تحاول الان ان تقنعنا بانها قد غيرت موقفها، خاصة فرنسا وبريطانيا، ما تزال لحد اللحظة تزود دولة الاحتلال بأسلحة ودعم استخباراتي وغيره، وقبلها ساهمت مع الولايات المتحدة، وبدون تفويض دولي في الهجمات على اليمن التي وقفت وتقف إلى جانب غزة.
ثم ان بريطانيا الدولة المسؤولة الاولى عن ضياع فلسطين وتأسيس الكيان الغاصب على ارضها، ما تزال لحد الان لم تعترف بخطأها، (في عام 2017 اقامت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي احتفالا كبيرا في الذكرى المئوية لوعد بلفور المشئوم، وتفاخرت بان بلدها أصدر تلك الوثيقة)، وذهبت بريطانيا ابعد من ذلك بان شددت القوانين (التي تعرف بالعقوبات لمن يتهم بمعادة السامية) تصل إلى السجن والغرامة وحتى سحب الجنسية ورفع العلم الفلسطيني ولبس الكوفية اعتبر من ضمن الأفعال التي تستوجب العقاب (لانها تجرح مشاعر الصهاينة). والاهم انها وفرنسا، على سبيل المثال، لم يقدما على كسر الحصار المفروض على غزة وادخال مساعدات إنسانية اليها، وهم قادرون على ذلك. وآخر تطورات الموقف الأوربي (الإيجابية) هو نجاح اليمين المتطرف المؤيد لإسرائيل في الانتخابات الأخيرة في ألمانيا، واليوم مستشار المانيا الجديد ليس لديه اي هم سوى زيادة العقوبات على روسيا وإعلان دعمه لاسرائيل.
ان من يريد حقا ان يقف إلى جانب الحق الفلسطيني فعليه اولا وقبل كل شيء ان يقطع علاقاته الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، مع الكيان الذي توكّد كل المواثيق المواثيق والقرارات الدولية انه كيان محتل، وخاصة تلك الصادرة عن الامم المتحدة، والتي وضعت اغلبها من قبل الدول الاوربية نفسها، مثل القرار 242 و 338، والتي توكّد على ضرورة انسحاب اسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967. وآخر هذه القرارات هو ذلك الذي اصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الاول 2024، والذي دعا إلى اقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وتصدرت بريطانيا وألمانيا أبرز الدول التي امتنعت عن التصويت ومعهما كندا وأستراليا وإيطاليا وهولندا وبولندا والسويد والنمسا والدانمارك وسويسرا وأوكرانيا. ولعل هذا النموذج يوضح الموقف الحقيقي من مسالة تغير المواقف الاوربية.
حدثان أثارا التفاؤل الكبير، الاول جاء في بيان صادر عن أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا، دعا إلى منح فلسطين عضوية كاملة بالأمم المتحدة والاعتراف بدولتها على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية،
والثاني هو البيان الذي اصدره قادة فرنسا وبريطانيا وكندا، وجاء فيه: “سنتخذ إجراءات إذا لم توقف إسرائيل هجومها بغزة وترفع القيود عن المساعدات…. [و] نعارض بشدة توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.. وإن مستوى المعاناة الإنسانية في غزة لا يطاق”. كما نص البيان على أنه “إذا لم توقف إسرائيل هجومها العسكري الجديد وترفع القيود التي تفرضها على المساعدات الإنسانية، فإننا سوف نتخذ خطوات ملموسة أخرى ردا على ذلك….. [بالاضافة إلى] رفض توسيع المستوطنات في الضفة الغربية ( امس فقط أعلنت حكومة الاحتلال انها ستبني 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية وعلى الحدود مع الأردن)…. [ولوح البيان بان موقعيه قد يتخذون] اجراءات بينها العقوبات… لان رفض اسرائيل تقديم مساعدات أساسية للمدنيين في غزة غير مقبول” . اما وزير الخارجية الفرنسي جان نوبل بارو فلقد اكد في مقابلة مع اذاعة فرانس إنتر “إن الوضع لا يمكن احتماله؛ لأن العنف الأعمى من جانب الحكومة الإسرائيلية وحظر دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة قد حوّل القطاع إلى مكان للموت، ولن أقول إلى مقبرة” واخيراً وليس اخراً صرح الرئيس الفرنسي ماكرون أن “قيام دولة فلسطينية” بشروط ليس “مجرد واجب أخلاقي، بل مطلب سياسي”، من دون أن يوضح ما إذا كان سيعترف بدولة فلسطينية.
نعم من وجهة نظري المتواضعة تبقى كل هذه التطورات جيدة على المستوى الشفهيّ، ولكن اذا ما اردنا ان نحللها او نطبقها على ارض الواقع سنجد: اولا انها جاءت بعد اكثر من 17 شهرا من الابادة والتدمير المستمرين، ومن تجويع شعب غزة، (قارن مع المدة التي استغرقها الغرب في اتخاذ قراراته ضد روسيا). ثانيا، واذا ما افترضنا جدلا ان هناك حقيقة (صحوة ضمير) مفاجئة بعد كل هذه المدة، فان لغة البيان المذكور أعلاه توكد عدم جديته، فهو يقول (سنتخذ إجراء) إذا لم ترعو إسرائيل (ونعارض) ما يقوم به جيش الاحتلال، والأخيرة مستمرة في غيها. ثالثا ان هذه الدول لم تتخذ خطوة واحدة لتدلل على انها تعني ما تقول في هذا المجال، مثل سحب السفراء او تعليق التمثيل الدبلوماسي، او ايقاف المساعدات العسكرية او الطلب من السفراء الإسرائيليين مغادرة عواصمهم او رفض دخول وفود اسرائيلية إلى بلدانهم، وهي الاجراءت التي اتخذتها نفس الدول ضد روسيا مثلا وبلمح البصر.
ان من سيحقق قيام الدولة الفلسطينية وانهاء الاحتلال هو قدرات الامة العربية إذا استخدمت بصورة صحيحة وفعالة، وقبل ان يحدث ذلك، فان ما سيساعد على حدوثه مهما طال الزمن، هو المقاومة الفلسطينية التي استطاعت ان تلقن الاحتلال وقياداته دروسا لن ينساها. وفي نفس الوقت فان صمودها هو الذي اجبر ويجبر الاطراف المختلفة على طرح مشاريع او في الحقيقة افكار للتسوية، تبقى على الورق وليست للتطبيق.
*كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

582 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع