الحياة في حقول البترول / الحلقة العاشرة

                                             

                        بقلم احمد فخري

الحياة في حقول البترول الحلقة العاشر الحياة الاجتماعية بداخل البارجة الجزئ الثالث

    

دورات الكومبيوتر

        

اقترح علي احد الزملاء في حقل البترول ان أنَظّم دورات في مادة الكومبيوتر وقال بان هناك الكثير ممن يرغبون معرفة هذا العلم الجديد الذي اقتحم عقول وقلوب الناس وبما اني اكثر فرد بالبارجة ملم بذلك العلم وأتمكن من تدريس تلك المادة. بعد تردد كبير من طرفي وعدة محاولات للتملص من تلك المسؤولية، وافقت بالنهاية على مضض.
في اليوم التالي قمت بزيارة السيد محمود علام، مدير الموقع المصري وطرحت عليه الفكرة، فوجدته متحمساً بشكل ليس له مثيل وقال بانه سيذلل كل الصعاب في سبيل تحقيق ذلك المشروع، ثم قام بالأتصال فوراً بالمسؤوال الاداري للبارجة السيد محمد بلعيد وسأله إن كان هناك غرفة مناسبة بالامكان إقامة الدروس فيها، فرد عليه وقال بأن هناك غرفة الاجتماعات جاهزة لفعالية من هذا القبيل خاصة وانها مزودة بسبورة بيضاء تصلح لان تفي بالغرض. نظر الى الدكتور محمود علام وقال،
- ها يا باش مهندس متى تعتقد بانك ستبدأ الدورة؟
- على بركة الله، الخطوبة الخميس اللي گاي والفرح الخميس اللي بعدو.
قلتها بطريقة المزح. فضحك بصوت عالي وقال،
- بامكانك أن تحرر اعلاناً على لوحة الاعلانات، ومتنساش تحطني كاول طالب عندك.
- هذا شرف كبير لي سيدي.
خرجت منه وانا احمل مشاعر مختلطة. فمن ناحية كانت تغمرني السعادة لاني ساقوم بتقديم خدمة جليلة لزملائي، ومن ناحية اخرى كنت خائفاً من أن لا أكون بقدر المسؤولية لاني لم اجرب تدريس أحداً من قبل في حياتي. على كلٍ توجهت الى مكتبي وأنا احاول ترتيب نص الاعلان بذهني.
وبعد محاولات عدة واتلاف لعشرات الاوراق التي وجدت طريقها لصفيحة القمامة واكثر من 10 اقداح شاي وقهو خرجت بالاعلان التالي باللغة الانجليزية، وهذه ترجمته:

                اعلان الى جميع متساكني البارجة
ستنظم دورة كومبيوتر في قاعة الاجتماعات خلال اسبوع من تاريخ اليوم وسيقوم المهندس أحمد فخري بالاشراف والتدريس بهذه الدورة. المحاضرات ستبدأ في الساعة 8 مساء لذا فهي لن تتعارض مع اوقات العمل مع اغلبية العاملين، وستكون يومين بالاسبوع فقط. على الراغبين المساهمة بهذه الدورة تدوين اسمائهم ادناه على هذا الاعلان. علماً أن هذه الدورة للمبتدئين جداً وليس هناك أي اجور مطلوبة، فهي مجانية. وما على المتقدمين سوى احضار دفتر وقلم.
ملاحظة: ليس هناك مستوى علمي معين للمساهمين وأن الجميع مرحب به.

بصراحة، لم اكن اتوقع اسماء كثيرة تسجل بهذه الدورة لان الكثير من الرجال يعملون بشكل مضنن طوال اليوم ولم اكن اعتقد ان بامكانهم ان يتعلموا أي شيء في وقت فراغهم لانهم احوج للراحة والاسترخاء في تلك الفترة الثمينة.
لكني حالما علقت الاعلان على اللوحة وابتعدت عنه قليلاً لاحضت ان نفر منهم توجه نحو اللوحة وصار يقرأ ثم سارع للبحث عن قلم كي يسجل اسمه. بصراحة، شعرت بفخر كبير لان المشروع سيجد طريقه الى النجاح ولو بشخص واحد فقط. بآخر المساء تفقدت اللوحة ثانيةً فوجدت خمسة اسماء قد تم تسجيلها بالاضافة الى مدير الموقع الدكتور محمود علام. في اليوم التالي بعد أن تناولت وجبة الافطار توجهت الى لوحة الاعلانات فوجدت أن العدد قد وصل الى 10. وبآخر اليوم اصبح العدد 18.
وفي اليوم الموعود لابتداء الدورة وصل العدد الى 26 طالباً. ذهبت الى قاعة الاجتماعات (الصف) فوجدت جمعاً غفيراً يجلس في القاعة وقد شغلوا كل الكراسي الموجودة. البعض منهم من المنظفين والبعض الآخر من عمال الانتاج والبعض من المهندسين وكانوا خليطاً من كل الجنسيات فقد كان نصفهم من الهنود ونسبة كبيرة من البقية الباقية من العرب وكان هناك بريطاني واحد. حالما دخلت الصف رحب بي الجميع وامطروني بوابل من الاطراء والشكر العميق. وعندما دخل مدير الموقع الدكتور محمود علام بعدي، وقف الكثير منهم للتخلي عن كرسيه له، الا انه رفض رفضاً قاطعاً وخرج بنفسه الى خارج الصف واتى بكرسي اضافي ووضعه في مؤخرة الصف.
انتضرت قليلاً حتى ينتهي الجميع من الترحيب والمجاملات ثم بدأ الهدوء يدب بينهم وهم ينظرون الي، ينتظرون مني كي أبدأ. كانت تلك لحظة محرجة جداً لاني لم اتوقع ذلك الحشد الكبير وهو يرمقني بنظراته يتوقع مني الكلام. فترددت قليلاً ثم تذكرت اني قرأت شيء من هذا الخصوص في كتاب عن ضاهرة تسمى رهبة خشبة المسرح stage fright وقد نصح الكاتب ان يقوم المتحدث بايصال خمسة اصابع من اليد اليمنى بخمسة اصابع باليد اليسرى والنظر الى اصابعه الموصولة ثم التركيز على المادة وبدأ الكلام. فقمت بايصال اصابعي ببعضها ونظرت الى الاسفل وابتدأت الحديث.

   

كانت اللحظات التي تلت سهلة للغاية لاني صرت اتحدث عن مادة اعرفها جيداً واعشقها عشق كبيراً فصرت ارسم على السبورة واشرح اوليات الكومبيوتر وتاريخه منذ ان صُنع اول مرة قبل 2000 عام. كان الطلاب يستمعون اليَّ بشغف وهم لا يصدقون انهم سيستوعبون كل شيء لانهم اعتقدوا ان المادة ستكون صعبة وانهم سيجدون صعوبة في استيعابها.
بعد أن اتممت المحاضرة الاولى تلك شعرت أن الفرحة قد عمت بقلوب جميع الحاضرين وانهم عازمون على مواصلة الدروس بشكل جدي ومتواصل. ولكن كانت هناك مشكلة لم اكن احسب لها حساباً الا وهي ان جميع من كان في القاعة من طلابي هم بالواقع اصدقائ لي وزملائي، مما سمح لهم ان يستمروا بسؤالي عن ما حاضرت به بعد أن انتهت المحاضرة خارج القاعة. وهذا بقدر ما كان يسعدني الا انه كان يرهقني لاني بعد ان تحدثت لمدة ساعة كاملة بدون توقف كنت اريد أن اخلد لقليل من الاسترخاء والراحة. ومع ذلك لم اصد احد منهم لاني كنت ارى الحماس في صوتهم وهم يريدون التهام المادة كما لو كانت طعاماً دسماً. لذا كنت احمل نفسي العبئ الاكبر فاجيب على كل تسائلاتهم.
في المحاضرة الثانية اصبحت الامور افضل بكثير لاني فقدت رهبة خشبة المسرح وصرت اتحدث بكل انسيابية وكأنني اتحدث مع رفاقي باوقات الراحة. وقد لاحظت فيهم الشغف الكبير نحو التعلم فقمت ببذل مجهود اكبر كي اطور معلوماتهم بذلك المجال الحيوي. وصرت احاضرهم عن مبادئ الكومبيوتر الاولية وحساب الباينري والبت والبايت.

   

بعد فترة من الزمن وجدت اني صرت اتعلم من هذه الدروس بقدر ما كان طلابي يتعلم مني. فقد اتقنت وطورت اساليب تدريسية ومهارات جديدة لم اكن اعرفها وعلى سبيل المثال: لو اني لاحظت ان بعض الطلاب صار ذهنهم يشرد بعيداً عن الدرس، اقوم بالقاء نكتة قصيرة فيضحك الجميع ويستعيدوا تركيزهم فنعود الى الموضوع الذي كنا نتحدث به. وفي بعض الاحيان كنت انظر الى الطالب الشارد الذهن واستمر بالقاء المادة بينما انظر مباشرة بوجهه فيعتقد اني اتحدث معه شخصياً فيعود بذهنه ويعاود التركيز معنا. لاحظت كذلك أن الشرح الذي يسطحبه الرسم قابلاً للاستيعاب اكثر مما لو كان بدون رسوم. لذا كنت ارسم كثيراً على السبورة واوضح المثال اكثر بشكل غرافيكي.
خارج الدرس كان الكثير من الزملاء يأتون الي ويطلبون المشاركة بالدروس لكني اخبرهم أن الوقت قد فاتهم لكنهم يستطيعون التسجيل على الدورة القادمة. وهذا ما حصل فعلاً. فبعد أن اتممت الدورة الاولى بعد ثلاثة اشهر، صرت اعطي دورتان، الاولى للطلاب الجدد الذين سجلوا اسمائهم ودورة متقدمة للطلاب الذين شاركو بالدورة الاولى. وبذلك اصبحت لي شعبية جداً كبيرة بداخل البارجة فقد درست تقريباً جميع من في البارجة بعد مرورة فترة بضع سنين. وعندما ذاع سيطي بمكتب الشركة بابوظبي، قام احد صحفي مجلة الشركة (حجلة مرآة زادكو) بالاتصال بي هاتفياً واجرى معي مقابلة صوتية ثم نشر مقالة مطولة حول الدورة، فصار بذلك يعرفني بالاسم جميع موظفي شركة زادكو الذي يزيد عددهم عن 1200 موظف. وقد لقبوني وقتها بـ "احمد كومبيوتر".
...يتبع

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/maqalat/34370-2018-03-01-17-12-23.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1067 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع