ما بين سقوط دولة عيلام وبدايات سقوط دولة ساسان الفارسية

                                       

                          د . رعـد البيدر

قلَّبتُ أفكاري لكتابة عبارات السطور الأولى من الورقة الرابعة من سجل العلاقات العراقية – الإيرانية ، ووجدت نفسي مُتسائلاً – هل يتمكن الكاتب أن يبعث الحياة في فترة تاريخية مضَّت؛ فيُصور للقارئ أن ما يقرأه كأنه يشاهده اليوم ؟. 

ثم قلت لنفسي بافتراض وجود كاتب يستطيع الوصف والتحليل واستخلاص النتائج ؛ فالمشكلة لا تكمن في قدرة الكاتب لوحدها – حتى وإن أحسَنَ وأجاد بأسلوب منطقي وعلمي ومترابط ؛ لكن المشكلة تكمن باختلافات تَقَبُل القراء لفكرة المحتوى والمضمون بالعاطفة ، وبتجردٍ عن العقل؛ واختلاف كهذا سيجعل الصورة الذهنية صافية واضحة المعالم عند البعض، و معتمة بل معتمة جداً عند البعض الآخر- ممن ورثوا أفكاراً مسمومة تقبلتها عقولاً محدودة الإدراك، وأخرى مُدركة لكنها منحرفة عن الصواب قلباً وقالباً .
 في السطور التالية سنستعرض التطور التاريخي الذي شهدته هضبة إيران بعد سقوط دولة عيلام على يد الملك العراقي أشور بانيبال عام 640 ق . م - أن سقوط عيلام قد مهَّدَ للفرس فرصة أستلام حكم البلاد التي استوطنوها ، وأتضَّح أنهم ليسوا أقل طمعاً ولا أقل مُكراً من العيلاميين الذين سبقوهم ؛ فقد أحتل الملك الأخميني الفارسي " كورش " بابل عام 539  ق . م - بمساندة قدمها له اليهود الذين كانوا من أسرى السبي البابلي الثاني - المتواجدون على أرض بابل ؛ فدعموا الهجوم والاحتلال الفارسي لبابل . تُشير المصادر التاريخية إلى أن كورش قد كافئ أولئك اليهود ؛ فسمَّح لهم بالعودة إلى فلسطين ، ومنحهُم مساعدات سخية ، وأعاد لهم ما أخذه " نبو خذ نصر" منهم .
لا تُخفي المؤلفات اليهودية حقيقة اعتبار اليهود للملك الفارسي " كورَّش "  بأنه مُنقذ اليهودية في بابل، بينما تحفظت المؤلفات الفارسية عن نشر الحادث بنفس الكيفية التي أشارت لها المؤلفات اليهودية ؛ لأسباب تُخفي حقيقة الترابط والمصالح الفارسية – اليهودية قديماً وحديثاً ، وقد نال هذا السلوك الغامض بين الطرفين الكثير من التعتيم المقصود ، بنتائج واضحة التفسير وأخرى مُحَيّرة في علاقات العراق مع إيران ، ستكون ضمن محاور الأوراق القادمة حيثما تقتضي ضرورة التوضيح الإشارة إليها .
انتصر" الإسكندر المقدوني" على الملك الأخميني الفارسي " دارا الثالث " في معركة  أربيلو شرق مدينة الموصل بمسافة (35) كم في عام 321 ق . م ، ثم أتجه الإسكندر جنوباً فأحتل مدينة بابل؛ وبذلك خرجت بابل ومدن عراقية أُخرى من سيطرة أجنبية فارسية إلى سيطرة أجنبية مقدونية . ثم اتجه شرقاً فاحتل شوشة ( الشوش) عاصمة الأخمينين ؛ وبذلك أنهى الإسكندر عصر الامبراطورية الأخمينية في هضبة إيران .
توجد جدارية في موقع " تخت جمشيد" أي (عرش جمشيد) أو( پارسه) التي تعني " مدينة الفرس" وهي عاصمة الإمبراطورية الأخمينية . يبعد هذا الموقع مسافة ( 70 ) كم شمال شرق مدينة شيراز في محافظة فارس الإيرانية . تُظهِرُ تلك اللوحة رجالاً بالزي العربي يمتطونَ جمالهم - يقدمونَ هدايا إلى الإمبراطور الاخميني . أن العرب الذين تعنيهم الجدارية وفق التفسيرات الإيرانية هم من عرب العراق وشبه الجزيرة العربية . بناءً على هذا التصور الإيراني فأن أطماع إيران قديماً وحديثاً كانت وما زالت تضعُ أسبقية تمددها غرباً ؛ فتعتبر أجزاءً من العراق وشبه الجزيرة العربية ذات عائدية فارسية  – تحديداً دول الساحل المطلة على الجانب الغربي من الخليج العربي. وتمتعض إيران من أي مصدر لا يُجانب الحقيقة ويسمي الثوابت الجغرافية بمسمياتها؛ فيسمي الخليج العربي بتسميته الأصلية – عربياً ؛ ولا يسميه ( فارسياً) .
ولعل ما قاله " علي يونسي " مستشار الرئيس الإيراني " حسن روحاني" بأن ( إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي ) تلك إشارة  واضحة من مسؤول في النظام الإيراني الحاكم الحالي تعني السعي لتحقيق الحلم الفارسي بإعادة الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي حكمت هضبة إيران قبل الإسلام ، والتي احتلت العراق وجعلت من مدينة المدائن جنوب شرق بغداد عاصمة لها.
 بالعودة إلى فترة ما بعد الإمبراطورية الأخمينية ؛ فقد تحول معظم العراق تحت السيطرة السلوقية . وللتوضيح ؛ فأن تسمية السلوقيون هي نسبة إلى القائد المقدوني "سليوقس" الذي أصبحَ حاكماً لبابل بعد موت الإسكندر المقدوني . ليس من غاياتنا بعرض العلاقات العراقية – الإيرانية أن نتوسع في علاقات العراق مع غير إيران ؛ لكن الضرورة تقتضي التنويه بأن أجزاء من العراق خضعت لحكم " الفرثيون "  وهم سلالة فارسية حَكَمَّت بين 140 ق . م إلى 226 م ، ثم أسقطتهم سلالة فارسية أخرى شكلَّت الدولة الساسانية التي لم تكن أقل رغبة بالعدوانية والمطامع ؛ بل شبيهة بغيرها من الدول التي تشكلت واندثرت في هضبة إيران.   
وفي نهاية القرن الثاني الميلادي وضمن تطورات تاريخية - جغرافية ذات دلالة بالعلاقات العراقية - الفارسية في تلك الفترة  تشَّكلَّت مملكة " المناذرة " في مدينة " الحيرة " أحدى مدن منطقة الفرات الأوسط من العراق. وقد كان أغلب سكان " المناذرة " من  القبائل العربية القحطانية التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب ؛ وبذلك مثَّلوا امتداداً لعرب الجزيرة ، وفاصلاً جغرافياً وديموغرافياً بين العرب في شبه الجزيرة العربية وبين دولة فارس بقومياتها المتعددة.
 كانت القبائل العربية في العراق متفرقة الصفوف ، وولاء بعضها للفرس - الذين اجتهدوا ما بوسعهم لإضعاف تقارب قبائل العراق نحو بعضهم البعض ؛ خشية من فقدان السيطرة عليهم . تميَّزت علاقة ملك الحيرة " النعمان الأول " ومن بعده أبنه " المنذر" الذي امتدت فترة حكمه بين عامي (400 - 462) م بالوِّدِ والتعاون مع الفرس في فترة حكم " يزدجرد الأول" ومن بعده أبنه " بهرام " الذي تربى في الحيرة برعاية الملك " النعمان الأول ".
من خصائص الملك النعمان أنه كان ملكاً قوياً حارب الروم، وساند الملك الفارسي " بهرام " في تثبيت عرشه، إلا أنه على ما يبدو ، ووفقاً لما تضمنته بعض المؤلفات التاريخية – كانت شجاعة وصلابة أحفاد النعمان سبباً تحملوا من جراءه الكثير من المتاعب مع الفرس.
 من بين تلك التحديات العربية - عدم استجابة الملك " النعمان الثالث " لطلب كسرى أبرويز ( كسرى الثاني) عندما رفض النعمان تزويج أبنته إلى الملك الفارسي ؛ فما كان من كسرى إلا أن طلب استقدام النعمان إلى المدائن ، وأمر بحبسه ثم قتله في الفترة ما بين عامي 595 - 604 م ، وعلى أثرها فقدت الحيرة استقلالها الذاتي ووضِعَت تحت سيطرة مستشار فارسي، وعرش ضعيف أُسنِدَ إلى " إياس بن قبيصة الطائي".
 ثم طلب " كسرى" من " هاني بن مسعود الشيباني" تسليم ودائع ونساء النعمان التي أستودعها عنده قبل توجهه إلى المدائن ؛ فرفض الشيباني مطالب كسرى ؛ كونها ودائع لعربي عند عربي ، ومن قيم العروبة حفظ الأمانة وصيانتها والذود عنها – حتى إذا اقتضى الأمر القتال من أجلها؛ فكانت نتيجة الرفض سبباً لقيام معركة " ذي قار" عام 609 م .
  تنبَّهت قبائل العراق لوهنها وضعفها تجاه الفرس ؛ بسبب التشتت والتفرقة التي حاول الفرس تكريسها بين القبائل العربية ؛ فتوحدت " بكر بن وائل، وبني شيبان، وعجل، ويشكر، والنمر بن قاسط ، وبني ذهل " للقتال مع " هاني الشيباني" ، واصطحب الجيش الفارسي معه قبيلة أياد الموالية للفرس . وما أن وصلَّت طلائع جيش كسرى وحلفاؤهم من العرب بالقرب من موقع تلاقي الجيوش الفارسية والعربية ، حتى أرسلت قبيلة إياد ممثلين عنها إلى " هاني الشيباني" ليخبروه بأنهم قد استُقدموا إلى القتال مُكرَهين، وعرضوا عليه الرأي بالفرار من جيش كسرى والالتحاق بجيش القبائل العربية ؛ فاستثمر هاني ما عرضته قبيل أياد - ضمن مفهوم المخادعة عسكرياً، وطلب منهم البقاء في المرحلة الأولى مع الجيش الفارسي ، ثم المباشرة بتنفيذ دورهم في مرحلة لاحقة – أي أثناء فترة الاشتباك بالقتال مع جنود كسرى؛ فأبلغهم بأن يفروا من ميدان المعركة ، ويتفرقوا في الصحراء بغية أحداث تأثير معنوي سلبي على الجيش الفارسي، وذلك ما سيعزز صمود جيش القبائل العربية، وإذ ذاك ينقض الجيش العربي على جيش كسرى الفارسي الذي سيكون قد فقد جزء من قدرته القتالية . وبإتباع  " التعاون و المخادعة " كمبدئين من مبادئ الحرب - أنتصر العرب على الفرس فاعتُبِرَت تلك الواقعة " معركة ذي قار " نقطة تحول في مسار العلاقات العراقية - الفارسية لاحقاً.
نستنتج من تقييم فترة العلاقات العربية – الفارسية ممثلة بدولة المناذرة - أن كفة التفوق كانت تميل لصالح دولة الفرس ، وطبيعة التقييم قد رافق تفوقاً فارسياً لفترة ربما تجاوزت الأربعة قرون؛ لكون العلاقة التحالفية بين المناذرة والساسانيين لم تكن تخلو من سيطرة الساسانيين ، وهى الحالة التي تزعزعت أركان ثبوتها بهزيمة الفرس في معركة ذي قار ، ثم أعقبها تقويض أركان الدولة الساسانية في معركة القادسية ، التي ستكون نتيجتها عاملاً متحكماً جديداً غيَّر كل العلاقات التي سبقتها ... وسنخصص له ما يتطلب من التوضيح في الورقة القادمة.
ذكَّر أبو فرج الأصفهاني في الجزء (24) من كتابه الأغاني بأن معركة ذي قار حدثت في زمن النبي محمد  . القول صحيحاً بعموم النص ؛ ولكن لتجنب التفسير الخاطئ الذي اعتبره البعض ضمن فترة بدايات الإسلام قبل انتشاره خارج شبه الجزيرة العربية . فالصواب يُستنتج من حقائق الأرقام وليس من لغة الحروف؛ إذ تشير معظم المصادر إلى أن مولد النبي  كان في عام الفيل، ولم تختلف مع هذا التحديد الدراسات الحديثة - التي قام بها باحثون مسلمون ومستشرقون - اعتبروا عام الفيل موافقاً لأحد الاحتمالين : أما لعام 570 م ، أو 571 م . والمعروف أن النبي  قد بُلِّغَ ببداية الرسالة السماوية وله من العمر (40) سنة ؛ فبافتراض أضافه الاحتمال الأقرب لعام الفيل في عام 571 + 40= 611 ؛ بهذا فالنص صحيح في زمن النبي  ، وليس صحيحاً مثلما اعتبرته بعض النصوص المنشورة ورقياً أو الكترونياً  - في فترة الإسلام ؛ لأن بداية الدعوة الإسلامية جاءت بعد حسم معركة ذي قار بسنتين ، ثم جاء إخضاع دولة الفرس للدين الإسلامي بحد السيف أكثر من كونه بالهداية والقناعة ؛ فأنهى احد عوامل بناء الهوية القومية الفارسية ألا وهو " الزرادشتية والمجوسية ".
ولتوضيح ما أشرنا له في نهاية الفقرة السابقة ؛ فالزرادشتية : هي من أقدم الديانات التي ما تزال موجودة في إيران ، أسسها زرادشت الذي بَشَّرَ بالقوة الشافية للعمل الصالح والقوة الخيرة . أن معتنقو هذه الديانة يقدسون النار والشمس ويعتبرونهما رمزاً لديانتهم ؛ ولذلك فإن النار لا تنطفئ في معابدهم على الدوام ، وهو ما فسره أصحاب الكثير من الديانات الأخرى على أن الزرادشتيين يعبدون النار . أما المجوسية : فهي كلمة فارسية تُنطَقُ بـ (جيم مصرية - مگوس) تعني " مفسر الرؤى " ، أي الشخص الذي يفسر الرؤيا و النوم و يخبر بأخبار الغيب کالمُنَّجِم من مصدر التنجيم . ومجوس أيضا هو اسم الرب عند الفرس القدامى وهو رب القدرة. ويشير البعض إلى أن المجوسية قد تأثرت ببعض الديانات الهندية، وكان لمعتنقيها الأثر في ظهور الحركات الباطنية فيما بعد ، تلك الحركات التي تسَّترت بحب آل البيت  ؛ لكن نواياها الحقيقية كانت لهدم الإسلام من الداخل.
أن وصول الإسلام نحو بلاد فارس قد مر من خلال أرض العراق ، ثم انتقل إلى الهضبة الإيرانية واستغرق وقتاً ليس بالقصير بسبب تمسك الفرس بعباداتهم القديمة .. تلك الفترة وما أعقبها ستكون محور عرضنا اللاحق ... بمشيئة الله.


  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع