فهلوة خلط الأوراق

                                      

                        د. علي محمد فخرو

تتميز مجتمعاتنا العربية بقدرة لافتة على تقبل لعبة خلط الأوراق عند التعامل مع ايديولوجياتها وقضاياها الكبرى. وهي لعبة استعملها بحذق ممارسو الفهلوة الفكرية والسياسية، عبر تاريخنا وحاضرنا، لادخال الشعوب العربية في دهاليز فرعية أو هامشية من أجل تمييع أو نسيان أو تشويه الموضوع الأصلي. لنأخذ الأمثلة التالية لتوضيح خطورة هذه الظاهرة:

أولأ، بعد الاطاحة. بمؤسستي الحكم الاستبدادي في تونس ومصر قادت انتخابات حرة ونزيهة الى صعود الاخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس الى سدة سلطة التشريع والحكم. ماحدث كان شيئا طبيعيا ومتوقعا في مجتمعات متعلقة غالبيتها بالثقافة الاسلامية عبر القرون.
لكن الحركتين ارتكبتا أخطاء سياسية عديدة عندما لم تدركا أن الفترات الانتقالية، بعد الحراكات الثورية الكبيرة، تحتاج أن تدار وتحكم من خلال التعاون والتوافق مع الآخرين، وذلك الى حين الوصول الى أهداف تلك الحراكات واستقرار أحوال المجتمعات. عند ذاك يمكن الدخول في لعبة التنافس والخلافات.
لكن ما ان حدثت تلك الأخطاء وتذمرت الشعوب حتى أطلت الفهلوة الفكرية والسياسية برأسها لتضيع الموضوع الأصلي، وهو الديموقراطية، ولتخلط الأوراق. لقد تم نبش كل أخطاء الاسلام السياسي في الماضي، واستشهد بأقوال عفا عليها الزمن لبعض قادته الذين أصبحوا من الأموات، وابتسرت اجتهادات فقهية طرحت منذ قرون، وأقحمت نفسها جهات لها معاركها وثاراتها الخاصة مع هذه الحركة الاسلامية أوتلك فاختلط الحابل بالنابل، وأدخلت الاستخبارات الأجنبية عملاءها التكفيريين المجرمين في الساحة فتشابك الخارج مع الداخل.
لقد أصبحنا اليوم أمام حملة تضليلية شرسة لاقناع المواطن العربي بأنه أمام خيارين لاثالث لهما : اذا اختار الديموقراطية فانه لن يرى أمامه سوى الاسلام السياسي، واذا كان لايريد الاسلام السياسي فعليه أن يقبل بحكم اليد الأمنية الباطشة.
أما الحقيقة البديهية الأصلية، والتي خبرتها مجتمعات أخرى كثيرة، والمؤكدة بأنه مثلما جاءت الانتخابات الديموقراطية النزيهة العادلة بقوى الاسلام السياسي فانها ستكون قادرة في المستقبل على استبدالهم بآخرين يحملون أفكارا ومنهجية سياسية مختلفة... أما هذه البديهية فقد ضاعت ونسيت ومعها نسي الناس هدف ثورات وحراكات الربيع العربي : الانتقال الى الديموقراطية الشاملة العادلة.
ثانيا، في بداية الخمسينيات من القرن الماضي طرح الزعيم الراحل جمال عبدالناصر المشروع القومي العربي الناصري لنقل الوطن العربي من التجزئة الى الوحدة، من الاستعمار والتبعية الى الاستقلال الوطني والقومي، من التخلف الاقتصادي الى التنمية، ومن استغلال وفقر الملايين من الشعوب العربية الى عدالة اجتماعية شاملة.
وراء المشروع وقفت امكانيات دولة القطر المصري الهائلة وأحزاب وحركات قومية في طول الوطن العربي وعرضه والملايين من جماهير الشعب العربي. آنذاك تحقق الكثير وكان المستقبل يعد بالكثير.
لكن مؤامرات الخارج وقوى الداخل الرجعية الفاسدة وتعدد الأخطاء في الممارسات وموت بطل المشروع أدت الى تراجع، ثم توقف، تلك الموجة التاريخية القومية الواعدة.
مرة أخرى أطلت الفهلوة الفكرية والسياسية برأسها لتخلط الأوراق من خلال التركيز المتعمد على الأخطاء في الممارسات ونقاط الضعف وتفريغ الذاكرة الجمعية العربية من الانجازات الباهرة حتى ينسى الناس الموضوع الأصلي التاريخي: طريق نهوض الأمة العربية من خلال وحدتها وتحررها وتنميتها الذاتية واعتماد العدالة الاجتماعية نهجا في حياتها.
هذا الاصرار العجيب عند البعض لاستعمال أية أخطاء أو نقاط ضعف في المشاريع والحراكات العربية الكبرى، وذلك من أجل تدميرها أو ايقاف مسيرتها واخراجها من الذاكرة الجمعية للشعوب، بدلا من تحليل أخطائها بموضوعية وتقديم الحلول المساعدة لمسيرتها، هذا الاصرار الانتهازي عند بعض المفكرين والكتاب والاعلاميين العرب ينذر باقترابهم من ممارسة رذيلة وعار الخيانة لأحلام وتطلعات أمتهم ويضعهم في خندق القوى الامبريالية والصهيونية التي لا تريد لهذه الأمة أن تتوحد وتتحرر وتتقدم.
ثالثا، نفس الممارسة طبقت على حدث تاريخي كبير حدث فوق أرض كربلاء. فالشهيد الامام الحسين بن علي، رضي الله عنه، لم يمت كضحية مكسورة تستجدي قليلا من الماء لأهلها وتبكي دمعا على ماحل بهم. لقد مات واقفا كبطل تاريخي محارب من أجل مشروع اصلاحي لأمة الاسلام جميعها وفضل موت العزة والكرامة على ذل الحياة المنكسرة.
لكن بدلا من أن تصبح ذكرى موته السنوية تمجيدا للبطولة الثورية وتجييشا لها في نفوس وعقول كل المسلمين والعرب، واصرارا على نهج الاصلاحات الجذرية في وجه الاستبداد والفساد، بدلا من أن تكون الذكرى ألقا ايمانيا وسياسيا بامتياز قلبه البعض الى قصص جانبية وأحيانا متخيلة وبكائيات، ووجهوا مشاعر الغضب والاستياء نحو مماحكات السياسة الحقيرة التاريخية التي رافقت ذلك الحدث التمردي العظيم.
هذا الخلط للأوراق إبان تلك المناسبة الرامزة لعبق البطولة والتضحيات المرفوعة الرأس السامية بالنفس البشرية نحو الأعلى والأفضل والأنقى يضيع الموضوع الأصلي ويشوهه في دهاليز فرعية تنتقص من قيمته.
الأمل في شباب ثورات وحراكات الربيع العربي، قادة المستقبل، أن لا يدخلوا قط دهاليز الضياع ويركزوا مشاعرهم وعقولهم ليل نهار على أصل المواضيع الكبرى في حياة أمتهم.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

943 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع