الكولونيل لجمن في الموصل حاكما وصحفيا

 

 نزلت القوات البريطانية م دينة البصرة - ثغر العراق - يوم ٢١ تشرين الثـاني ١٩١٤ ضمن المجهود الحربي لقوات الحلفاء اثناء الحرب العالميـة الاولـى ١٩١٤- ١٩١٨ ظاهراً، ولكن الحقيقة انها جاءت العراق كقوات غازية محتلة، على وفق اطماع الامبراطورية البريطانية في توسيع مستعمراتها وضمان سلامة طريق الهند، يوم كانـت الهند (جوهرة التاج البريطاني) .

دارت معارك طاحنة بين القوات البريطانية الزاحفة شمالاً وبين الجيش التركي مـن بقايا القوات العثمانية في العـراق، والتـي انتهت بـاحتلال بغـداد، ودخـول الجنـرال (ستانلي مود ) يـوم ١١ اذار ١٩١٧ حيـث نشر بياناً مخادعاً قال فيه (جئناكم محـررين لا فاتحين)!، ووصلت القوات البريطانية الى مشارف ناحية حمام العليل مطلع شهر تشرين الثاني من عـام ١٩١٨وواصـلت زحفهـا نحـو الموصـل عبـر الطريـق القـديم، طريـق الموصل- بغداد، وانحدرت مـن مرتفعـات (البوسيف) و (الصيرمون) نزولاً نحو مدينة الموصل ودخلتها يـوم ٧ تـشرين الثـاني ،واكملت احتلالها في اليوم ١٠ منه، وفي يوم ١٣ تشرين الثاني ١٩١٨ غادر الموصـل وكيل الوالي العثماني (نوري بك ) ووقعت الموصل آنذاك في قبضة القـوات البريطانيـة كاملة،

وراح الجنرال (وليم مارشال) القائد العام البريطاني يدير شؤون المدينة، بل كـل ولاية الموصل، فأصدر قراراً بتعيين العقيد (الكولونيل لجمن ) حاكماً عسكرياً وسياسـياً للموصل، وقد بقي في هذا المنصب حتى شهر تشرين الاول من عام ١٩١٩ .

ولم يكـن اختيار (لجمن) حاكماً للموصل امراً روتينياً، بل كان اجراءاً استعمارياً مقـصوداً ... لأن اللفتننت كولونيل لجمن١٨٨٠-١٩٢٠ كان ضابطاً مميزاً فـي الاسـتخبارات البريطانيـة، وقائداً ميدانياً في مختلف العمليات العسكرية، وشخصية غريبة متعددة المواهب، ويمكن القول ان (لجمن) كان مغامراً - شأن لورنس العرب - ومستعرباً ورحالة لا يكل ولا يمـل من التنقل والاستطلاع والتجسس ! ودأب على ذلك حتى يوم مقتله يـوم ١٢ آب ١٩٢٠ على يد الشيخ ضاري المحمود شيخ عشائر زوبع (هز لندن ضاري وبجاها ) وذلك في (خان النقطة ) كما يسميه الانكليز، او (خان ضاري ) كما يسميه اهـل المنطقـة، ويقـع الخان وسط الطريق بين بغداد والفلوجة، وقد احدث مقتل (لجمـن ) دويـاً هـائلاً فـي الاوساط البريطانية واوساط ثورة العـشرين المجيـدة، وشـكّل صـدمة للاسـتخبارات البريطانية التي طالما وصفت (لجمن) بأنه (رجلٌ اقوى من الصعاب).

تجول (لجمن) بعناد غريب في أنحاء العـالم ليخـدم سياسـات الامبراطوريـة البريطانية فقد عمل في جنوب افريقيا والهند والصين (التبت) وكشمير والخليج العربـي والعراق وسورية واسطنبول ولبنان واوربا، وفي العراق كان يتجسس في بغداد وكربلاء والكاظمية والرمادي وهيت والفلوجة والنجف والكوفة والحلة .. كل ذلك فعله قبل احتلال العراق إبان ايام الحكم العثماني بين عامي ١٩٠٧ و ١٩١٠ وقد زار كركـوك والتـون كوبري واربيل وراوندوز وديار بكر ثم قصد ايران ومنها الى الهند مرة اخرى ثم الـى فلسطين وسورية والجزيرة العربية وكان طوال هذه الرحلات يكتـب التقـارير ويرسـم الخرائط ويحرر المقالات التي نشرها في الصحف البريطانية .. اذن لم يكن (لجمن) مجرد ضابط مسلكي بريطاني، لقد كان شعلة من النشاط المحموم في خدمة التاج البريطـاني ..

ومن هنا جاء اختياره حاكماً عسكرياً وسياسياً على الموصل ! وكان قد زار الموصـل متخفياً يوم ١٠ مايس -ايار ١٩١٠ بعد ان تخلص من مراقبة الجندرمة العثمانية !! ايام القائد التركي علي احسان باشا، ومن المفارقات العجيبة أن (لجمن) ألقي القبض علـى هذا القائد بعد دخول الانكليز إلى الموصل وبعد أن تم الاتفاق علـى انـسحاب الجـيش العثماني وقائده إلى مدينة نصيبين في تركيا يوم ٥ تشرين الثاني ١٩١٨ .وأثناء تولي (لجمن) مسؤولية الإدارة في الموصل كـان يقـوم بـبعض التـصرفات الاستعراضـية للتباهي! ومنها مثلاً انه كان يشاهد في شوارع الموصل متجـولاً بـسيارته (الـدودج ) الفارهة لإثارة إعجاب الناس ، كما كان يتعمد إنزال العلم التركي المرفوع فـي دوائـر الولاية ويرفع مكانه العلم البريطاني ويقوم بعزل الموظفين الاتراك والعـراقيين ويعـين الانكليز مكانهم ، فعل ذلك اثناء جولاته في اقضية الموصل في تلعفر وزاخو والعمادية ودهوك وعقرة ثم امر باستعمال التاريخ الميلادي بدلاً من الهجري، وكاد ان يقتل علـى يد المسلحين الأكراد في احد ايام شهر حزيـران ١٩١٩ فـي مدينـة زاخـو، الا انـه استرضاهم بكمية كبيرة من النقود الذهبية والفضية وبعض الدواب ومسدسه الخـاص .

وقد عانى (لجمن) من نشاط الجمعيات الموصلية الوطنية مثل (جمعية العلم ) و (جمعيـة العهد) تلك التي اثارت الرأي العام على سياسة الاستعمار البريطاني في العـراق عامـة والموصل بخاصة، وكانت الحركات الكردية المسلحة تزعج (لجمن) وتثير قلقه مثل ثورة عشيرة (الكويان) في زاخو بقيادة (حسام آغا ) عقب مصرع (الكابتن بيرسـن ) فـي ٤ نيسان ١٩١٩ وثورة العمادية التي بدأت بمقتل الحاكم البريطاني (الكابتن ويلي ) وضابط الشرطة مكدونالد والعريف تروب، وكذلك اسقاط طائرة بريطانية في زاخو، فضلاً عـن ثورة (بامرني) التي زارها (لجمن) وكاد يقتل فيها ..

هذه الاحـداث ونـشاط الـوطنيين الموصليين اقضت مضجع (لجمن) وعجلت بمغادرته المدينة. اما (مربط الفرس ) كما يقال، والهدف الاهم من هذه المقالة فيتمثـل بالنـشاط الثقافي الذي اظهره (لجمن) في الموصل، ذلك النشاط الذي كان فـي جـوهره نـشاطاً استعمارياً محموماً مغلفاً بطابع ثقافي وصحفي ! نعم لقد عمل هذا الجاسوس البريطاني على تخريب نسيج المجتمع العراقي من خلال الصحف التي اصدرها الاحـتلال .. مـن المعلوم ان الاحتلال البريطاني ومن خلال سياسة الإمبراطورية العجوز، كان يتبع مبـدأ (فرق تسد ) لذلك عمل على خلق قوة شبه عسكرية تسمى (الليفـي ) او (اللـوي ) عبـر تجنيد مجاميع من (التيارية) او ما يعرفهم الناس بــ (الآثـوريين ) لحمايـة المـصالح الاستعمارية البريطانية في العراق، وكان (لجمن) بمشاعره الاستعمارية المقيتة قد مهـد لذلك ببعض الدعايات والاراجيف والخرافات السياسية التي أوعز بها الى المحررين في جريدة (الموصل) التي أصدرها الاحتلال البريطاني في الموصل يوم ١٥ تشرين الثـاني ١٩١٨ ،والى رئيس تحريرها القس سليمان الصائغ بنشرها، و (ان يعنى عناية خاصة بنشر أخبار الاثوريين، وان يطلق على الآنسة سـورما، عمـة المارشـمعون بطريـق النساطرة لقب صاحبة السمو الأميرة الاثورية سورما، وطلب اليه ان يضيف ان صاحبة السمو موجودة الان في لندن وقد زارت المراجع الحكومية العليا .. طالبة منهم تحقيـق الوعود التي قطعها الانكليز لمواطنيها .. فاسـتغرب رئـيس التحريـر - وهـو كلـداني المذهب- قول (لجمن) ونفى وجود قوم باسم الاثوريين ووجود اميرة عليهم ..) وقـد تطرق إلى هذه القضية العديد من الباحثين منهم المرحوم صديق الدملوجي والمرحـوم محمود الدرة والعديد من الباحثين والمفكرين والسياسيين والعسكريين ).

ومن المعـروف ان جريدة (الموصل) التي اصدرها الاحتلال البريطاني كانت تبشر بالسياسة البريطانيـة وتمدح الانكليز الذين حرروا العراق (!) وتلزم الاتراك والسياسة العثمانية، وقـد تـولى رئاسة تحريرها اول الامر (انيس صيداوي ) اللبناني الذي خدم في الحملـة البريطانيـة على العراق، ثم تولاها القس سليمان الصائغ وعمل فيها كل من سليم حـسون وعلـي الجميل وبإشراف الكولونيل (لجمن) خلال وجوده في الموصل.

م . موصليات ، حزيران 2013

سعد الدين خضر

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

641 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع