في الذكـرى الثالثة لرحيل الأديب والدبلوماسـي نجــدة فتحي صفوة

                   

في الذكـرى الثالثة لرحيل الأديب والدبلوماسي نجـدة فتحي صفوة

         

                                       

                   بقلم/ نجيد فتحي صفوة

بكل خشـوع وألم نسـتقبل ذكـرى رحيل كبير العائلة نجـدة فتحي صفوة، الذي أنتقل إلى رحمة الله في مثل هذه الأيام  قبل ثلاث سنوات في العاصمة الأردنية عمان.    
ففي الثامن عشـر من كانون الأول / ديسمبر عام 2013 توقف قلب كان يُعـرف بالعمل المخلص والجهـد المثمر والتأليف الغزير الذي دام تسـعين عاماً بنبضات بدأت يوم ولادته في الخامس والعشرين من شـهر نيسـان/ أبريل سـنة 1923.
نشـأ في بغـداد، واتسمت أيام صباه وشـبابه بمواهب متعددة كانت بتوجيه من والده الذي كان من رجال التعليم (بدار المعلمين آنذاك)، وفي مرحلة الدراسـة المتوسـط سـنة 1934 أفاد كثيرا من دروس الشيخ على الطنطاوي والشاعر القدير صادق الملائكة، ومال منذ ذلك إلى الأدب وكتب أولى مقالاته في مجلة (الفتوة) بين سـنتي 1934 -1935 وهي المجلة التي كان يشترك في تحريرها أسـاتذة معروفين ...  وفي مرحلة الدراسـة الثانوية أشـتهر أسـمه بين الطلاب والمدرسين كخطيب مفـوّه عندما مُنـح الجائزة الأولى في المباراة الخطابية بين المدارس الثانوية عام 1941 ... وعنـد اندلاع الثورة ضـد النفوذ البريطاني في نفس السـنة (حركة رشيد عالي الكيلاني) التحق بمحطة الإذاعة العراقية لقراءة الأخبار والبيانات الحربية وهو في الثامنة عشـر من العمر.  
وخلال دراسته في كلية الحقوق ببغـداد كان غزيراً بنشـاطه الأدبي، فأتصل بالأديب رفائيل بطي ولازم مجلس الأب أنستاس ماري الكرملي، وفي تلك الفترة ألّف كتابه (مذاهب الأدب الغـربي) وبذلك كان أول من بحث عن تلك المذاهب التي سـادت في الغـرب، ثم أردفه بكتاب عن حياة الشـاعر إيليا أبو ماضي والحركة الأدبية في المهجر ... وصاحب تلك الفترة، تدريسـه قواعـد اللغة العربية لطلاب السـنة الأخيرة في (كلية بغـداد الأمريكية)، وكان مَنْ يدرّسـهم بعمره تقريباً أو يزيدون بقليل!  وعنـد تخرجه في كلية الحقوق سـنة 1945 خاض امتحان القبول في السـلك الدبلوماسي لوزارة الخارجية ونجح في منافسـة غيره من خريجي الدول الأوربية والأمريكية.  بعـد ذلك نُسـب للعمل في سـفارات مهمة في لنـدن وواشـنطن وموسـكو وباريس وأنقـرة ودول عربية مثل القاهرة وعمـان وجـدّة، وعُهـدت اليـه فيما بعـد مناصب رفيعـة كان منها رئيساً الدائرة السياسـية ثم وكيلاً مساعداً لوزارة الخارجية، إلا إن ذلك لم يثنيـه عن الاستقالة عام 1967 عندما أختلف مع وزيرها آنذاك، وتفرغ للبحث والتأليف وأنصرف إلى استخراج الوثائق البريطانية المتعلقة بالعراق والشـرق العربي، فهيأ بذلك للمؤرخين مصادر بحث تكشف عن الأسـرار السياسـية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.  
من مؤلفاته (العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب) و(اليهود والصهيونية في علاقات الدول الكبرى) و (من نافذة السـفارة) و (خواطر وأحاديث في التاريخ) و(العراق في الوثائق البريطانية) و(حكايات دبلوماسـية) و(الماسونية في الوطن العربي) و(العرب في الاتحاد السوفيتي) و(الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، وتقع في 12 جزءاً، صدر منها سبعة أجزاء)، وبعـد رحيلـه إلى رحمة الله، صدر كتاب كان قـد أنجز تأليفه ولم يُطبع، وفيه يبحث عن رئيس الوزراء الأسـبق بعنوان (صالح جبـر / سـيرة سـياسـية).
وإذا كانت مؤلفاته ذات قيمـة مهمّـة فإن أهمّها كتابين صدرا ســنة 1973 عن مركز الدراسـات الفلسـطينية بجامعة بغـداد، وهما (بيروبيجان ـ التجربة السـوفيتية لأنشاء وطن قومي لليهود) وهي مقاطعة تقع في شـمال شـرق روسـيا، أما الكتاب الآخـر فكان (جهاز الدبلوماسـية الإسرائيلية وكيف يعمل) ويتناول طبيعة جهاز الدبلوماسية الإسرائيلية، وتكوينها، وأجهزتها، وكيفية عملها ونقاط الضعف والقوة فيها.    
ومن بحثه الدؤوب في التوثيق هو عموده اليومي في جريدة الشـرق الأوسط اللندنية بعنوان (هـذا اليوم في التاريخ) الذي بلغ 2520 حلقـة كانت تُنشـر لمـدة سـبع سـنوات متتالية، تناولت وقائع وأحداث مختلفة، وفيها عرض لحياة أهم الشخصيات التي لعبت أدواراً في التاريخ المعاصر للعراق والبلاد العربية، وبذلك تبين مـدى تفانيه في خـدمة القارئ العربي والبحث الأكاديمي ومحبي المعلومات العامة.
كما حقق مذكرات لشخصيات لعبت أدواراً مهمة في التاريخ المعاصر، ومهـد لها بمقدمات مستفيضة، كانت أهمها: وجوه عراقية لتوفيق السـويدي، ومرآة الشـام لعبد العزيز العظمة، ومذكرات جعفر العسكري، وخواطر وأحاديث للشاعر معروف الرصافي، ومذكرات رسـتم حيـدر، ومذكرات سـليمان فيضي، ومذكرات محمـد حديـد ... أما المقالات التي كتبها في مختلف المجلات والجرائد العراقية والعربية فتزيـد عن 500 ومنها ما كتب باللغة الإنكليزية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فأن ما أفاد بـه الأسـتاذ عثمان العمير رئيس تحرير جريدة الشـرق الأوسـط سـابقاً، في مقدمته للمحاضرة التي ألقاها نجــدة بقاعة الكوفة في لنـدن بتاريخ 20/3/ 1996، وكانت عن الشـاعر جميل صدقي الزهاوي، إذ قال:” لا نريد لـ (نجـدة) كما حدث للآخرين، أن نتذكـره عندما يغيـب عن دنيانا بعـد عمـر طويل، إن شـاء الله “، وها هي ذكراه تعود بعـد عشـرين عاماً بالتمام!     
أما الإعلامي والباحث الأسـتاذ عبد الرحمن الشـبيل، فقـد كتب بعـد رحيله بأيام مقالة في جريدة الشـرق الأوسط، أسـتعرض فيها منجزات الفقيد الراحل في أدب التوثيق والثقافة العربية الحديثة، وأنهى مقالـه بالقول:” وما كان يجـدر ببوابات الصحافة أن تمـر وفاة هـذا الباحث العربي القدير عليها دون ذكـر واستحضار لما كان يصرفه من جهـد فكـري، أثرى بـه ثقافة التوثيق في العقود الماضية، وترك نهجاً فريـداً بأسـاليب البحث واستقصاء المعلومات التاريخية من مظانها الأولية".  
هكـذا كانت حياة نجــدة رحمه الله، أشـبه بسـحابة روت الأرض بأمطارها الغزيرة، ثم رحلت تاركـة محاصيل نافعة، ألا وهي اهتماماته في الأدب والبحث التاريخي والتأليف، وهنا نذكر وصف الكاتب الأستاذ جليل العطية حين لقبه بـ (أديب المؤرخين).  وكذلك تقدير أتحاد المؤرخين العرب بمنحه وسـام المؤرخ العربي الذهبي من الدرجة الأولى، حيث جاء في حيثيات القرار أن منح الوسـام للأستاذ نجـدة فتحي صفوة يأتي نظراً للإبداعات الفكرية والتاريخية والثقافية التي حققها في الحقول العلمية والثقافية والتراثية.              
وهناك أيضاً وسـام الاستقلال الأردني الذي قلده لنجـدة، العاهل الأردني الملك عبد الله الأول عام 1950 تقديراً لخدماته الجليلة، عندما كان قائماً بأعمال السـفارة العراقية في عمان، وهو في السـابعة والعشـرين من العمر.
ختاما لمدونتي هذه، التي حاولت من خلالها ذكـر سـيرة الفقيد الحافلة بالعطاء، ومن طرف آخـر لما أشـعر به من حزن على فقدانه، الذي هو خسـارة كبيرة للعائلة ولكل محبيه والمستفيدين من علمـه وما تركه من تراث، وكشـف معلومات وثائقية كانت بين طيات التاريخ.

رحمـه الله وأسـكنه فسـيح جنّاتـه، وعطّـر بالطيب ثراه.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع