
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
شحرورة العراق عفيفة إسكندر - الجز الأول
عفيفة إسكندر فنانة عراقية لُقبت (فاتنة بغداد) و (شحرورة العراق)، وتميزت بثقافتها العالية وتعلقها الكبير بالعراق والتصاقها بترابه. وهي فنانة مثقفة طارت شهرتها في القرن العشرين، كما كانت أديبة لها مجلسها الثقافي الذي كان من رواده كبار الشخصيات الأدبية والسياسية.
ولادتها ونشأتها:
ولدت عفيفة إسكندر سنة 1921 في الموصل لعائلة مثقفة فنيا، والدها مسيحي أرمني وأمها فنانة يونانية اسمها "ماريكا دمتري" كانت تغني بالفرنسية والفارسية والتركية واليونانية والإنكليزية فضلا عن العربية؛ كما كانت تعزف على أربع آلات موسيقية.
ترّبت عفيفة في طفولتها في الموصل، وكان بيتهم في محلة السوق الصغير قرب جامع (خنجر خشب) بجوار شارع النجفي، ودرست في (خضر إلياس) القرآن الكريم القريب من بيت الصابونجي. كما درست في مدرسة الطاهرة، وهي مدرسة تابعة للكنيسة السريانية الكاثوليكية، ثم توقفت عن الدراسة وهي في الصف الرابع الابتدائي، لكن الرغبة في التعلم لم تفارقها.
اشتغلت عفيفة إسكندر عند الخيّاطة (مريم خاتون) التي كانت تخيّط لكبار رجال الدولة في الموصل، كما كانت عفيفة تذهب للأعيان لكي توصل الملابس المُخاطة من قبل مريم خاتون.
تزوجت عفيفة إسكندر في سن مبكر من رجل كبير في السن عمره 50 سنة واسمه (إسكندر استفيان)، قدِم من الشام إلى العراق وبصحبته ابنة زوجته (أنطوانيت إسكندر)، وأنطوانيت إسكندر من الفنانات المشهورات في وقتها ولها العديد من الأغاني المشهورة مثل: خدري الشاي وللناصرية وعمي يا بيــّاع الـورد.
بداية المشوار الفني:
غنت عفيفة إسكندر بطفولتها، وانتقلت أسرتها إلى تكريت ثم أربيل وبنجوين، ولها ذكرياتها الخاصة هناك. وقد غنّت للمرة الاولى على خشبة المسرح عندما حلّت محل مُغنية غابت عن الحفل وأدت أغنية "زنوبة" بمهارة وحظيت بإعجاب الجمهور، وقد سموها "كجك جابي" أي "المسدس سريع الطلقات" لأنها كانت تُغني بسرعة بحكم صغر سنها وقلة خبرتها.
انتقلت عفيفة مع عائلتها إلى بغداد لتقطن فيها عندما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها. وحينما تأسست الإذاعة في بغداد، قدمت طلبا للعمل فيها، لكن الإدارة رفضت ذلك لأنها لا تُشغّل الأطفال.
ثم بدأت عفيفة إسكندر تغني في ملهى ليلي في بغداد يديره زوجها إسكندر. وكانت رعاية إسكندر الفنية لعفيفة لا تختلف عن حمايته ورعايته لأنطوانيت، والاثنتان عفيفة وانطوانيت كان إسكندر المسؤول عن رعايتهما فنيا لذلك حملن اسمه، وكانت عفيفة هي الزوجة وانطوانيت هي ابنة الزوجة السابقة لإسكندر. ثم أخذت عفيفة تغني في النوادي والمسارح الراقية، وكانت أول حفلة أحيتها في سنة 1935، ولُقبت (المنلوجست) كونها تجيد ألوان الغناء والمقامات العراقية.
عملت عفيفة اسكندر مع فنانات عصرها الشهيرات مثل منيرة الهوزوز وفخرية مشتت وصدّيقة الملّاية وسليمة مراد. وقد غنّت المونولوج، ولحّن لها عدد من أبرز الملحنين العراقيين أمثال أحمد الخليل وخزعل مهدي وياسين الشيخلي.
أغاني عفيفة إسكندر:
تتميز أغاني عفيفة إسكندر بنكهة خاصة، وكانت تصدر من واقع بيئة بغداد الحضرية، وهي تمتاز بروحها العراقية المستمدة من طفولتها الموصلية. وكانت عفيفة تراعي في اختياراتها من الكلمات والقصائد والموشّحات التي كانت تعشقها عشقا خاصا. كما كانت تُدرك عناصر الجذب من قبل الفنان للآخرين وكيف ترسم الابتسامة على الوجه وكيف تحّرك ملامحها من اتجاه لآخر.
لقد كانت أول اغنية لعفيفة إسكندر سجلتها للإذاعة العام 1937 هي (برهم يا برهوم يا بو الجديلة ... عذبت حالي وايدك طويلة) ثم اعقبتها بأغنيتها الثانية (زنوبة). بعدها اتجهت في الغناء إلى قطبي التلحين العراقي (صالح الكويتي وداود الكويتي) واشتهرت بسرعة بسبب رصانة صوتها وعذوبته ووقفت بسرعة بمصاف أشهر مغنيات ذلك العصر كزكية جورج وسليمة مراد وسلطانة يوسف وصدّيقة الملاية وزهور حسين.
لقد تركت عفيفة إسكندر إرث فني ضخم بلغ 1500 أغنية، وهو إرث لم يصله أي فنان عراقي. وقد تعاملت مع ملحنين عراقيين كانوا يحترمونها ويأخذون برأيها وكانت تحترم عملها وتحب جمهورها وتنعش حفلاتها.
من أشهر أغاني عفيفة إسكندر "يا عاقد الحاجبين"، "يا سكري يا عسلي"، "غبتَ عني فما الخبر"، "جاني الحلو لابس حلو صبيحة العيد"، و"نم وسادك صدري"، و"مسافرين"، و"قسماً"، و"حركت الروح"، و "يا سكري يا عسلي"، و"هلك منعوك"، وغيرها من الأغاني الكثيرة.
كما غنت عفيفة إسكندر بالبغدادية الدارجة اغنية "اريد الله يبين حوبتي بيهم"، و"قلب.. قلب"، و " يا يمه انطيني الدربين انظر حبي واشوفه "، و"هلك منعوك".
سفرها إلى مصر:
سافرت عفيفة إسكندر إلى القاهرة سنة 1938 وغنت هناك وعملت مع فرقة (بديعة مصابنى) في مصر والتي كانت أشهر فنانة مصرية في الأربعينيات، كما اشتغلت مع فرقة تحية كاريوكا. وشاركت في التمثيل في فيلم (يوم سعيد) مع محمد عبد الوهاب وفاتن حمامه وغنت فيه، لكن لسوء الحظ لم تظهر الأغنية عند عرض الفيلم بسبب المخرج الذي حذفها لطول مدة عرض الفيلم.
ومثلت عفيفة في أفلام أخرى في لبنان وسوريا ومصر منها (القاهرة ـ بغداد) إخراج أحمد بدرخان وفيلم (ليلى في العراق) انتاج ستوديو بغداد وإخراج أحمد كامل مرسي ومثّل فيه الفنانون جعفر السعدي ومحمد سلمان والفنانة نورهان وعبد الله العزاوي، وقد عُرض الفيلم في سينما روكسى سنة 1949.
ثم تعرفتْ عفيفة إسكندر إلى الأديب إبراهيم عبد القادر المازني والشاعر إبراهيم ناجى وعندها ابتدأت مشوارها الأدبي.
كما سافرت عفيفة بعد ذلك إلى خارج العراق كثيرا واحيت العشرات من الحفلات الغنائية في أميركا وأوروبا ومصر ولبنان وسورية والأردن، ولكثرة حفلاتها وحلاوة صوتها وعذوبته فقد لقبتها الصحافة العربية بألقاب عدة وقالت المجلات اللبنانية عنها أنها (مطربة العراق الاولى).
نالت عفيفة اسكندر شهرة واسعة في العراق بعد عودتها إليه من مصر، وقد اُعتبرت المغنية الأولى في البلاد.
وفي واحد من آخر مشاويرها الفنية، شاركت عفيفة اسكندر في مسلسل "فاتنة بغداد" في عام 2011، وكانت في ذلك الحين تبلغ التسعين من عمرها.
أول مغنية عراقية تغني القصيدة:
كانت عفيفة إسكندر أول مغنية عراقية تغني القصيدة، وهذه نتيجة طبيعية لكثرة مطالعاتها للشِّعر والتقائها المتواصل مع كبار الشخصيات الأدبية والثقافية في بغداد ومصادقة المثقفين واقامة صالونا في منزلها يحضره مشاهير الفن والأدب والسياسة، منهم نوري السعيد والدكتور علي الوردي والدكتور مصطفى جواد الذي كان مستشارها اللغوي.
لقد غنت عفيفة إسكندر القصيدة وأبدعت بها، وقدمت ما يقارب 60 قصيدة ولم يُعرف عن مطربة عراقية أخرى غنت هذا العدد الكبير من القصائد، لا سيما وأن غناء القصيدة في الغناء العراقي يكاد يكون محدودا جدا. وقد غنت لأساطين الشعراء مثل سناء الملك والبهاء زهير والشيخ علي الشرقي وطبقة الشعراء المحدثين.
ان علاقة عفيفة إسكندر المتميزة مع أهل الأدب ليست سوى انعكاس طبيعي لعلاقتها بالأدب نفسه، فهي مغنية تكاد تنتمي لمغنيات العصر العباسي، فيما يتعلق بالثقافة الأدبية، رغم السمة العصرية التي طبعت تجربتها وسلوكها بطابع خاص، والبيئة التي حققت صلة نموذجية معها؛ فغنت قصائد رقيقة بدت متناسبة مع تجربتها ودللت على عمق اختياراتها من حيث اهتمامها بالجملة والمفردة، فغنت لظرفاء بغداد كالعباس بن الأحنف في "أيا من وجهه قمر" وللعشاق الأندلسيين، كالخطيب الأندلسي الأعمى في "قيل لي قد تبدلا". ولربما لم يسمع كثير من العراقيين قصيدة "يا عاقد الحاجبين" لبشارة الخوري من فيروز كما سمعوها من عفيفة إسكندر، وربما بعدها، الأولية هنا غير ذات أهمية، صحيح أن تلك القصيدة لدى المغنية البغدادية تحولت إلى ما يشبه الطقطوقة، لكن الصحيح أيضاً أن البغادله عندما يسمعون جملة "قتلتني مرتين" في الأغنية بلحن مختلف عن لحن الرحابنة الذائع عربياً، فهم يسمعونها بصرخة وانتفاضة من عفيفة لا بهمس ونبرة انسيابية وشفيفة في صوت السيدة فيروز اللبنانية الشهيرة.
https://www.youtube.com/watch?v=HacHuOLgSpI&t=13s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع