‏نقد فرويد ليس نقداً للتحليل النفسي

عبدالعزيز الشريف

‏نقد فرويد ليس نقداً للتحليل النفسي

صحيح أن سيغموند فرويد هو من طور مجال التحليل النفسي بعد جوزيف بروير، وأن إسهاماته التأسيسية لا يمكن إنكارها… غير أن اختزال التحليل النفسي في فرويد وحده يكشف عن محدودية في الاطلاع، ويتجاهل قرناً كاملاً من التطور النظري والممارسة السريرية… التحليل النفسي تطور بشكل جذري مع ميلاني كلاين وعلاقات الموضوع، جاك لاكان والتحليل البنيوي، دونالد وينيكوت وويلفريد بيون وغيرهم الذين اختلفوا مع فرويد وطوروا المنهجية بشكل كامل، وأعادوا التفكير في أسسها الابستمولوجية نفسها.

‏إن إدراك هذا التطور الواسع يكشف حجم الاختزال الذي يمارسه النقد الفرويدي المعمم. لمواجهة هذا الاختزال لا بد من فحص بنيته المنطقية. إذا كان فرويد هو التحليل النفسي (وهو ليس كذلك)، وإذا كان فرويد مليئاً بالإشكاليات المنهجية والنظرية (وهو كذلك بالفعل)، فإن التحليل النفسي كله باطل. المشكلة في المقدمة الأولى لا في الاستنتاج، للتوضيح: هذا يماثل نقد الفيزياء من خلال نيوتن فقط مع تجاهل آينشتاين والميكانيكا الكمومية ونظرية الأوتار. إنه اختزال يفقد النقد أي قيمة معرفية حقيقية.

‏بالطبع هذا لا يعني أن التحليل النفسي بلا إشكاليات منهجية، فكل حقل معرفي يحمل توتراته الداخلية وإشكالياته المفتوحة… لكن الإنصاف الفكري يقتضي نقد ما هو قائم فعلاً في الممارسة والنظرية المعاصرة، لا نقد صورة متحجرة من الماضي واتخاذها ممثلاً للحاضر.

‏لننظر إلى أمثلة محددة على هذا التطور الجذري:

‏أعادت ميلاني كلاين صياغة فهم السنوات الأولى من الحياة النفسية عبر نظرية علاقات الموضوع والمواقف المبكرة، متجاوزة التركيز الفرويدي على المراحل الليبيدية إلى فهم أعمق للعلاقات الداخلية والموقفين الاكتئابي والبارانويدي-الفصامي… كذلك مفهوم السانتوم (Sinthome) الذي قدمه جاك لاكان في سيمناره الثالث والعشرين (1975-1976) مثّل قطيعة ابستمولوجية مع التصور الفرويدي الكلاسيكي… لم يعد التحليل النفسي يتعلق بتجاوز نموذج الشفاء الطبي إلى نموذج البناء الذاتي فحسب، إذ أعاد التفكير في طبيعة العَرَض نفسه… حيث صار العَرَض طريقة فريدة للذات في التعامل مع استحالة الانسجام الرمزي، وليس رسالة مشفرة تنتظر التأويل. مما سبب بتحويل الهدف من إزالة الأعراض أو اكتشاف معانٍ مخفية ثابتة إلى بناء حل فريد لكل ذات يسمح لها بالاستمرار رغم غياب الانسجام البنيوي المفترض.

‏اليس هذا تحول من البحث عن الحقيقة الموضوعية المطلقة إلى الاعتراف بالممارسة التحليلية كفن لبناء الحلول الذاتية مما يضع التحليل في إطار مختلف تماماً عن العلوم الطبيعية ليس كقصور في المنهج لكن كاختلاف في طبيعة الموضوع نفسه؟

‏هذا يقودنا إلى سؤال حول طبيعة العلم نفسه: هل كل علم يجب أن يكون إمبريقياً؟

‏تاريخ المعرفة الإنسانية والنقاشات الابستمولوجية المعاصرة تجيب بالنفي… الرياضيات والمنطق علوم وليست إمبريقية، والعلوم الإنسانية لها مناهجها الخاصة التي تختلف جذرياً عن مناهج العلوم الطبيعية. التحليل النفسي يمكن فهمه كعلم للذاتية وللخبرة الواعية واللاواعية، منهج معترف به تاريخياً في حقل العلوم الإنسانية… إذن، نقد التحليل النفسي لأنه ليس إمبريقياً يفترض مسبقاً أن الإمبريقية هي المعيار الوحيد للعلمية، وهذا افتراض مغلوط ابستمولوجياً يتجاهل تعددية المناهج العلمية وتنوع موضوعات المعرفة"

‏كما يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك في التساؤل حول هذه الموضوعية المزعومة للعلوم الإمبريقية نفسها؟

‏في الواقع، القول بأن العلم الإمبريقي نفسه يحركه اللاوعي ويتشكل عبر رغبات ذواتية لا يعني نسبوية معرفية تامة تلغي إمكانية المعرفة… المقصود أن كل معرفة، بما فيها المعرفة العلمية الإمبريقية، تنتج عن ذوات لها دوافعها واختياراتها وأيديولوجياتها اللاواعية التي تشكل أفق الأسئلة وطرائق البحث… الفرق أن معظم العلوم تنكر هذا البُعد أو تتجاهله مدعية حيادية مطلقة، بينما التحليل النفسي يجعل هذا البُعد اللاواعي موضع دراسته المركزي ويتخذ موقفاً نقدياً من وهم الموضوعية المطلقة… المسألة ليست في أن كل شيء نسبي، المسألة في أن الذات العارفة جزء لا يتجزأ من عملية المعرفة، وإنكار ذلك وهم ابستمولوجي يسميه التحليل اللاكاني الوهم الوضعاني.

‏إن النقاش حول التحليل النفسي يجب أن يتجاوز المعارك القديمة حول فرويد ليصبح نقاشاً معاصراً يأخذ في الاعتبار التطورات النظرية والممارسات السريرية المتنوعة التي شكّلت هذا الحقل على مدار قرن كامل. إذا كان النقد جاداً فليشمل التطورات الحقيقية للتحليل النفسي لا مجرد الوقوف عند فرويد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع