قلم باندان
الإقلمة في العراق: ضرورة تاريخية حتمية لترسيخ الاستقرار وبناء دولة المواطنة
في عالم تتصارع فيه الهويات، وتتصادم فيه المفاهيم حول الدولة والمواطنة والسلطة، يبقى السؤال الجوهري ماثلًا أمام كل أمة: كيف تُبنى الدولة؟ وعلى أي أساس تُصاغ هويتها؟
هل تُبنى الدولة بالقوة المادية وحدها، أم تُبنى بالتوافق، والتعدد، والاعتراف بالآخر؟
إن الدولة الحديثة، في جوهرها، ليست كيانًا جامدًا يحتكر القرار، بل هي كيان أخلاقي ـ سياسي، ينشأ من إرادة العيش المشترك، ويتغذى على التعدد، ويتقوى حين يحسن إدارة التنوع لا قمعه.
والعراق، الذي شهد مهد الحضارات، لا يمكن له أن يتجاوز أزماته ببنية فوقية مركزية تجاوزها العصر، بل بحاجة إلى أن يعيد تأسيس نفسه كدولة تحتضن تعدديته لا أن تخشاها، وتستثمر تنوعه لا أن تقاومه.
ومن هنا، فإن الإقليمية ليست مجرد حل إداري، بل هي فلسفة حكم، ورؤية للدولة، وأخلاق في إدارة الشأن العام.
ولعلي لا أكون مخطئًا أو متوهمًا عندما أقول إن الحل الأمثل للمكون السني، وللمدن التي تشكل المنطقة الساخنة في أعالي بلاد الرافدين، يكمن في الإقليمية. نعم، إن إقامة إقليم خاص بهذه المدن ذات الغالبية السنية ليس مجرد خيار سياسي أو مطلبًا عابرًا، بل هو ضرورة وطنية جذرية تستند إلى حقائق تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وتستجيب بواقعية لمعضلات العراق الراهنة، بعيدًا عن المثالية التي لا تقيم وزناً للواقع أو عن الأحلام الوردية التي تغفل تعقيدات المشهد العراقي.
الإقليم ليس سبّة ولا جريمة، ولا من الكبائر التي يستنكرها الشرع أو المنطق. بل هو إطار إداري وسياسي راسخ، وحل أثبت جدارته عبر قرون من تاريخ العراق العريق.
فلو عدنا إلى سجلات التاريخ منذ عصر فجر السلالات وحتى عهد الملكية الحديثة، سنجد أن أرض العراق لم تكن يومًا دولة موحدة مركزية كما نتصورها اليوم، بل كانت بلادًا متعددة، كما يشير التراث والتسمية التي لا تعرف “بلد الرافدين” أو “بلد النهرين”، بل تعرف “بلاد الرافدين” أو “بلاد ما بين النهرين”، وهي صيغة تدل على تعدد الأقاليم والأراضي التي شكلت هذه البلاد العظيمة.
في العصور القديمة، كان العراق يتكون من دولتين رئيسيتين متجاورتين، جنوبية وشمالية: البابليون في الجنوب، والأشوريون في الشمال، ما يؤكد أن تقسيم العراق إلى أقاليم لم يكن أمرًا غريبًا على تاريخ العراق أو موروثه السياسي.
وفي العصور التي سبقت الإسلام، كانت هناك مناطق نفوذ مختلفة مثل مناذرة وغساسنة، كما كانت العراق تضم ولايات متعددة في العهد الإسلامي، كالكوفة والبصرة، والتي كانت بمثابة أقاليم تتمتع بدرجة من الحكم الذاتي المحدود، فكانت بمثابة أقاليم داخل إطار أكبر.
هذه التجربة التاريخية المتكررة توضح أن العراق هو أرض تعددية، وتعددية الحكم فيها ليست غريبة أو مستحدثة، بل هي جوهر تاريخي عميق. ومن هذا المنطلق، فإن النظام المركزي المفرط في التركيز الذي تتبناه السلطة في العراق اليوم، ويميل إلى إقصاء وتهميش بعض المكونات، هو نظام غير قادر على الاستجابة لتحديات التنوع الاجتماعي والعرقي والديني، ولا يحمي البلاد من الانقسامات التي تقودها السياسات المركزية الجامدة.
من الناحية السياسية، إن النظام المركزي الذي يهيمن على السلطة والموارد بشكل غير متوازن لا يعكس الواقع العراقي المتعدد، بل يزيد من حالة الاحتقان والصراعات التي تهدد وحدة البلاد. في المقابل، يُمكن لنظام الأقاليم الفيدرالية أن يتيح لكل مكون سياسي وإداري إدارة شؤونه بحرية ومسؤولية، مع ضمان التمثيل العادل في السلطة الاتحادية، مما يعزز الاستقرار السياسي ويحد من مظاهر التوتر والانقسام.
على الصعيد الاجتماعي والثقافي، إن الإقليمية توفر للمكونات المختلفة مناخًا ملائمًا للحفاظ على هوياتها الثقافية والدينية والاجتماعية، وتعمل على تعزيز التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين المكونات، بدلًا من سياسة الإلغاء أو التهميش التي تؤدي إلى تفاقم الصراعات.
فتكريس حق الأقاليم في التعبير عن خصوصياتها يعزز الانتماء للوطن ويجعل الوحدة الوطنية تقوم على قاعدة حقيقية من التنوع والاعتراف المتبادل.
من الجانب الاقتصادي، تمنح الإقليمية كل منطقة فرصة استثمار مواردها الطبيعية والبشرية بشكل مباشر وفعال، مما يؤدي إلى تنمية محلية مستدامة ومتوازنة، ويحد من التفاوت الاقتصادي بين الأقاليم المختلفة.
توزيع السلطات الاقتصادية والإدارية بين المركز والأقاليم يسهم في تحسين جودة الخدمات، ويخفض معدلات الفقر والبطالة والهجرة الداخلية، ويعزز التنمية الشاملة، وهو ركن أساسي لاستقرار البلاد.
لا يمكن اختزال الإقليمية في كونها مطلبًا أو خيارًا سياسيًا فحسب، بل هي استجابة تاريخية وواقعية لأزمات العراق المزمنة، وهي الطريق الأنجع لإعادة بناء دولة العراق الحديثة، على أسس العدالة والمساواة، واحترام التنوع، وصون وحدة البلاد وتراثها العريق.
إن الدعوة إلى الإقليمية ليست نزعة انفصالية أو محاولة لتقسيم العراق، بل هي تجديد لتجربة تاريخية عريقة أثبتت نجاحها، وهي منطلق لبناء دولة اتحادية قادرة على احتواء التنوع، وتوفير الحكم الرشيد، وتحقيق التنمية المتوازنة.
هذا النموذج هو السبيل الوحيد لإنقاذ العراق من دائرة الصراعات الدموية، وبناء مستقبل مزدهر ومستقر يضمن حقوق الجميع، ويجعل من العراق دولة المواطنة التي ينشدها كل مواطن عراقي.
"العراق لم يكن يومًا جغرافيا واحدة، بل حضارات متعددة تعايشت فوق أرض واحدة... فليكن نظامنا السياسي امتدادًا لحقيقتنا التاريخية، لا قيدًا مفروضًا من خارج الزمان والمكان." –
إنه مقتبس من روح المقولة المنسوبة للمؤرخ الإغريقي "هيرودوت"، الذي أشار إلى أن "بلاد ما بين النهرين هي فسيفساء من الشعوب والملوك"، في إشارة مبكرة إلى أن العراق لا يُدار بوحدة قسرية، بل بتوازن وتنوع.
670 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع