الطريق لا يتسع لرايتين: راية الوطن أولًا والرمزية العراقية هي فوق الولاءات

ذو النورين ناصري زاده

الطريق لا يتسع لرايتين:راية الوطن أولًا والرمزية العراقية هي فوق الولاءات

يقينا انه ليس العَلَمُ زخرفًا يلوح في الريح، ولا قطعة قماشٍ تُزيَّن بها الساحات أو تُرفع في المواسم كزينةٍ عابرة. العَلَمُ هو مرآةُ السيادة، وخلاصةُ الكرامة، ورمزُ البيت الكبير الذي يجمعنا. هو الأمانة التي حملها الشهداء بدمائهم، وحرسها الأبطال بعرقهم، وصاغتها الأمهات بدموعهن. كلُّ خيطٍ فيه يروي قصة صمود، وكلُّ لونٍ يشعّ من وجدان وطنٍ لا يقبل المساومة.
لقد ظلّ العلم العراقي حاضرًا في الوجدان في أشدّ لحظات التاريخ قسوةً ونورًا. ارتفع يوم ثار العراقيون في ثورة العشرين وهم يهتفون بالحرية، وارتفع فوق أسوار بغداد حين اجتازتْها العواصف فبقي رمزًا حيًا في القلوب. ارتفع ثانية في معارك التحرير ضدّ الإرهاب، حين انكسرت رايات السواد أمام راية العراق، ورفرفت في ميادين الرياضة والفن والثقافة فأضحى رمزًا للانتصار والهوية. إنّ هذا العلم ليس مجرد شعار رسمي، بل سجلّ حيّ لذاكرة العراق في القرن العشرين والحادي والعشرين، ولذا لا يُزاحم ولا يُمتهن.
من هنا كان المشهد الذي رأيناه في الزيارة الشعبانية مؤلمًا وموجعًا، حين تجرّأ البعض على مزاحمة العلم العراقي برفع أعلامٍ أجنبية في ساحاته. وكأنهم يقولون جهارًا: إن ولاءهم لغير هذه الأرض، وإن انتماءهم معلّقٌ براياتٍ لا تظلّلهم عند الشدائد. ذلك ليس تضامنًا ولا محبة، بل جهرٌ بالتبعية، وجرحٌ متعمّد في كرامة البيت الذي يظلّلهم.
الوطنية لا تُقاس بالشعارات الرنّانة ولا بالهتافات المكرورة، بل بصدق الانتماء وحفظ الرمز الجامع. ومن يرفع علمًا آخر في حضرة علم الوطن إنما ينقص من قدر نفسه قبل أن ينال من هيبة العراق. كيف يرضى ابنُ الدار أن يقدم راية الغريب على راية البيت؟ وكيف يتجرأ على جرح مشاعر مواطنٍ لا يرى في ذلك سوى إعلانٍ سافرٍ للولاء لغير وطنه؟
لسنا ضدّ المحبة بين الشعوب، ولسنا ضدّ الاحترام المتبادل، ولكن السيادة خطّ أحمر. والعلم العراقي ليس شعارًا عابرًا، بل هو الهوية التي توحّدنا مهما اختلفنا. هو سقفٌ واحد يحمي الجميع، ومن يزاحمه برايةٍ أخرى كمن يثقب السقف فوق رؤوس أهله.
قد يظنّ بعضهم أنّ رفع أي رايةٍ في أي ساحةٍ هو «حريةُ تعبير». هذا خلطٌ بين مفهومين:
• الحرية الفردية التي نحميها في الفضاء الخاص أو في سياقات لا تمسّ الرموز الجامعة.
• والرمز السيادي الذي يُعرّفنا أمام أنفسنا والعالم، ويختزن معنى الدولة وحقّها في احتكار الإكراه المشروع والولاء السياسي.
العلم ليس «رأيًا شخصيًا» يجوز تقديم بدائله عند أوّل نوبة حماسة؛ العلم قرارٌ جمعيٌّ متوافق عليه، يعلو فوق الأذواق والانتماءات الثانوية. وحين يُزاحَم برايةٍ أخرى في ساحته، ينكسر ميزان الولاء، ويتحوّل الفضاء الوطني إلى لوحةٍ مشوشة لا تُرى فيها البلاد إلا كخلفيةٍ باهتة لرموز الآخرين.
يجوز للإنسان أن يحبّ ويُقدّر أممًا وشعوبًا وتجارب، وأن يتواصل دينيًا وثقافيًا مع من يشاء؛ هذا بابُ تواصلٍ إنسانيٍّ لا يُغلق. لكنّ تراتبية الولاءات واضحة:
1. العقد الوطني أولًا؛
2. المشترك الإنساني ثانيًا؛
3. التعاطفات الخاصة ثالثًا.
من يرفع راية الغير في موكبٍ وطنيٍّ إنما يقلب هذه التراتبية رأسًا على عقب: يقدّم العاطفة الخاصة على العقد العام، ويضع رموز الخارج في صدر بيت الداخل. ذلك ليس «تسامحًا» ولا «انفتاحًا»، بل اختلالُ بوصلة يؤدي، مع الوقت، إلى تفكيك وحدة الرمز وإضعاف ولاء الأجيال القادمة.
نعم، الزيارة الشعبانية مناسبةٌ جليلة، لكنّ قداسة الشعيرة لا تجيز انتهاك قداسة السيادة. لا تُقام الطاعة بطاعةٍ أعظم منها شأنًا: حماية البيت أولى من تزيينه، وصون السقف مقدَّمٌ على زخرفة الجدران. من أراد أن يعبّر عن محبته للآخر فليفعل في نطاقه الخاص، أو في فعالياتٍ مخصّصة تحمل طابعه، لا في ساحات العراق التي تكتسب معناها من علم العراق أولًا وأخيرًا.
قد يقول قائل: إنّ رفع رايات الآخرين تضامنٌ وردٌّ لجميلٍ ما. نقول: التضامن الحقيقي يُترجم في المستشفيات والمدارس، في الإغاثة والتنمية، في الكلمة الطيبة والعمل المشترك. أمّا التضامن بالشعارات الذي ينتهي عند تلوين الساحات بغير ألوانها، فذلك أقرب إلى الاستعراض منه إلى الوفاء. ثم إنّ ردّ الجميل لا يكون بالمساس بهيبة علم العراق ولا بتحويل ساحاته إلى منصات سياسية تعكّر صفو الوحدة الوطنية.
ليس المطلوب انفعالًا عاطفيًا ولا حنقًا غوغائيًا، بل قانونٌ رصين يحدّد ضبط الفضاء العام:
• يمنع مزاحمة العلم العراقي في المناسبات الوطنية والدينية التي تُقام في الساحات العامة.
• يتيح مساحاتٍ خاصة لمن شاء حمل رمزه في فعاليةٍ مُعلَنةٍ الطابع لا تختلط بالمشترك الوطني.
• يفرض غراماتٍ واضحة وإجراءاتٍ تنظيمية بحقّ من يتعمّد تحويل الفعاليات الجامعة إلى استعراض ولاءات خارجية.
لقد أثبتت تجارب الدول أنّ وضوح القاعدة يطفئ الجدل العبثي: حين يعرف الجميع أنّ الشارع الوطني للرمز الوطني، تتراجع مزايدات «الحرية» المغلوطة وتستقيم الممارسة على مقتضى العقد.
لسنا ضدّ النقد الصريح ولا ضدّ خطاب الحقوق، بل نحن أشدّ حاجةً إليه ليرتفع منسوب العدالة والكرامة. لكننا في الوقت نفسه نُصرّ على أخلاق الاختلاف: تعارض وتنتقد وتختلف، ولكن تحت سقفٍ واحد. سقف العلم العراقي الذي منه تُستمدّ شرعية النقد وفضائه. من يثقب السقف برايةٍ غريبة ليمطرنا بشعاره، فهو لا يوسّع مساحة الحرية؛ إنّما يفتح ثغرةً للبرد يدخل منها على الجميع.
علم العراق ليس مستطيلًا بألوانٍ مرسومة؛ إنّه سيرةُ أمة:
• نُسج من أسماء المدن التي اتّسعت للجميع بلا تمييز.
• حُمِّلَ صبرَ الأمهات على انتظار الغائبين.
• تشبّع بأحلام الطلبة الباحثين عن مستقبلٍ لائق في جامعاتٍ تحمل اسم العراق قبل أي اسم.
• خفِق فوق ساحات ثورةٍ وغضبٍ واحتجاجٍ أراد إصلاح البيت لا هدمه.
هذه السيرة لا تُزاحَم بسيرةٍ أخرى في دارها، مهما كانت تلك السيرة عظيمةً في عين محبّيها. لكل بيتٍ رايته، والضيافة لا تبيح للضيف أن يعلّق صورته فوق صدر المضيف.
أيها المزايدون بالرايات الغريبة:
• إنّكم أحرارٌ في حبّ من تحبّون، لكنّكم لستم أحرارًا في العبث بهيبة علم العراق.
• من أراد أن يعلن ولاءه لغير هذه الأرض فليفعل بعيدًا عن ساحاتنا الجامعة؛ أمّا أن يطلب من العراقيين التصفيق لرايةٍ تنازع رايتهم في دارهم، فذلك تعدٍّ فاضح على شعور المواطنة.
• لا تجعلوا من مرابعنا الدينية منصّاتٍ للصراع الرمزي. العراق ليس صفحةً بيضاء تُكتب عليها نزوات السياسة العابرة، بل تاريخٌ مُثقَلٌ بالألم ومرصّعٌ بالأمل، لا يُختصر في لحظة تبعية.
لا يُحارب سحر الرايات البعيدة بالصخب وحده، بل بـالعدل. عندما تعمّ العدالة، ويتكافأ الناس في الفرص والحقوق، ويتراجع الفساد، تُصبح الراية الوطنية مرآةً صافيةً يرى فيها الجميع وجوههم.
• المدرسة العادلة: تعلّم الطفل أنّ العلم يحرسه بالمعرفة والكرامة.
• المؤسسة النزيهة: تُشعر الموظف أنّ قيمته في مواطنيته لا في وساطته.
• القضاء المستقل: يثبت أنّ المظلة واحدة، وأنّ العلم ليس زينةً للمباني بل تعهّدٌ بالحماية.
حين يذوق الناس طعم العدالة، يبهت بريق البدائل الواهية، وتغدو الرايات الأخرى احترامًا متبادلًا لا بديلَ ولاء.
حتى لا يبقى الكلام إنشائيًا، نقترح «ميثاق الساحات» بوصفه عرفًا وطنيًا يسير معه تنظيمٌ قانونيّ واضح:
1. الساحات الوطنية لعلم العراق: في كل مناسبة جامعة (دينية أو وطنية) تُقام في ساحات المدن، يكون العلم العراقي هو الوحيد المرفوع في الصدارة.
2. منع المزاحمة الرمزية: تُحظر الرايات الأجنبية في صدر المواكب والفعاليات العامة، ويُترك مجالٌ يليق بها في فعالياتٍ مخصّصة لا تختلط بالمشترك الجامع.
3. لغة اللافتات: تُقدَّم اللغة العربية ولهجات العراق على غيرها في الشعارات العامة، ويُحظر أي خطابٍ يروّج لهيمنة خارجية أو ازدراء لرمز الدولة.
4. التربية الرمزية: برامج مدرسية وإعلامية تُعرّف بتاريخ العلم ومعانيه، لتصبح حمايته ثقافةً لا ردّ فعل.
5. إدارة الخلاف: تُنشأ منصّات حوار أهلي لتصريف الاعتراضات دون المساس بالرمز، حتى لا يُوظَّف الغضب الشعبي في إهانة العلم.
من يرفع علم الغير عاليًا لا يصبح «أشجع» من سواه؛ الشجاعة أن تُعلن نقدك داخل البيت لا من خارجه، وأن تُصلح العطب بدل أن تنزع سقف الدار في المطر. الوطنية ليست نشيدًا صاخبًا، بل وفاءٌ صامت يتحوّل عند الحاجة إلى فعلٍ يحمي الرمز. إنّنا نختلف، نعم، لكنّ اختلافنا تحت علم واحد؛ ومن يصرّ على اللغو فوق السارية فليتذكّر أنّ العَلَم ليس منبره الشخصي، بل منبر الدولة التي تحمي حتى خصومها من أجل سلام البيت.
خاتمة وعهد
في الختام، نؤكّد أن العلم ليس مجرد رمز يرفرف على سارية، بل عهدٌ نحمله في الصدر ونرعاه بالأفعال قبل الأقوال. من يظنّ أنّ رفع رايةٍ غريبة في دارنا يعبر عن تضامنٍ أبلغ أو انفتاحٍ أوسع، فقد أخطأ الحساب: الحرية تبدأ حيث تنتهي حرمة البيت، والوطنية تظهر حين تُقدَّم مصلحة الوطن وكرامته على كل نزوةٍ آنية. لذا نناشد كل صاحب مسؤولية، ومؤسسة مدنية، ومواطنًا غيورًا، أن يحولوا احتفالاتنا ومناسباتنا إلى مساحاتٍ تحمي العلم وتكرّم معناه، لا إلى ساحاتٍ تُوظَّف فيها الولاءات العابرة.
ولتكن خطواتنا عملية: قانونٌ يرسم ضوابط الفضاء العام، وتربيةٌ تُعلّم الاحترام الرمزي، وإدارةٌ حكيمة تحافظ على هيبة المناسبات—هذه تهيئ المناخ الذي يُضعف بريق البدائل الواهية ويقوّي سويداء القلب الوطنية. فلتبقَ راية العراق فوق الساريات، ولتستقرّ في القلوب، لأنّه لا معنى لرفعةٍ على الأعمدة تُفقد سموها إذا صدأ الوفاء في الصدور.
هذا عهدنا: أن نضع الوطن أولًا، والعلم فوق الجميع، وأن نردّ بالموقف قبل النداء، وبالعمل قبل الشعار، حتى تظلّ ساحتنا بيتًا واحدًا لا يتسع لرايةٍ تُزايد على ولائنا. سيبقى علم العراق عاليًا لأنّ القلوب التي تحملُه أهمّ من الساريات التي ترفعه. فإذا خانته سواعدُ البعض يومًا، رفعتْه قلوبُ الأكثرين. وإذا غابت الحكمة لحظةً في إدارة الساحات، أيقظتْها روحُ الشعب الذي خبرَ معنى الدولة وتعلّم، بأقسى الدروس، أن الرمز إذا انكسر تكاثرت فوقه الرايات حتى يضيع البيت.
نحن أبناء هذه الأرض، لا نستعير لها رايةً ولا نكفل لها بديلًا. نُصلّي تحت سمائها ونحلم في ليلها ونكبر بأعيادها، وعلمها شاهدٌ علينا أنّنا عاهدنا الله والناس أن يكون مكانُه في سويداء القلب قبل رؤوس السواري—قَسَمًا لا شعارًا، وعملًا لا هتافًا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

885 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع