أصل الأعياد زراعية في بلاد ما بين النهرين

الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2025

أصل الأعياد زراعية في بلاد ما بين النهرين

أقدم تصوير للمصارعين أو الملاكمين، ويظهر رجل يعزف على طبل كبير، وأمامه سيدة بيدها صنوج ، من موقع بدرة (Badra) في شرق العراق، يؤرخ اللوح الطيني حوالي (2900) ق.م (من مقتنيات المتحف العراقي ، بغداد)
تقع بلاد ما بين النهرين القديمة في جنوب غرب آسيا، وتُعرف أيضا بالشرق الأوسط، وتمتد بين نهري دجلة والفرات، وتُعد من أقدم الحضارات المستقرة، وأنتج سكان المنطقة العديد من الاختراعات والابتكارات الاجتماعية التي أثرت بشكل عميق على التاريخ والتطور البشري، ويُشتق اسم (بلاد ما بين النهرين) (Mesopotamia) من كلمتين تعنيان (بين) و (نهر)، فعلى مدى آلاف السنين ظهرت شعوب متعددة سيطرت على المنطقة، بما في ذلك السومريون، والأكديين، والبابليون، والآشوريين، وخضعت البلاد للاحتلال من قبل أقوام اجنبية مثل: الحكم الأخميني الفارسي (539-331) ق.م، ثم حكم الدولة السلوقية (اليونانيين) (331-126) ق.م، وبعدها حكم الدولة الفرثية الفارسية (126ق.م -227 ميلادي)، وتلاها حكم الدولة الساسانية الفارسية (226-651) م، ثم دخل الاسلام الحنيف في بلاد ما بين النهرين عام (636) م بعد (معركة القادسية)، ولم يتوقف الغزو والاستيطان الأجنبي في المنطقة، فقد شهدت بلاد ما بين النهرين: حكم البويهيين الفرس (945-1055) م، ومن ثم حكم السلاجقة الأتراك (1055-1153) م، وحل غزو وحكم التاتار (المغول) لبغداد (1258) م أو ما يعرف بـ(الحكم الاليخاني ومن ثم الحكم الجلائري)، والنتيجة نهاية الخلافة العباسية، ثم حكم التركمان الآذاريين العراق والمتمثل بدولة الخروف الأسود (قَرَه قوينلو) (1374-1469) م، واعقبها حكم دولة الخروف الأبيض (آق قوینلو) (1467-1501) م، ثم خضع لحكم الدولة الصفوية الفارسية (1501-1534) م، وبعدها حكم الأتراك العثمانيين (1534-1917) م، وجاء الاحتلال البريطاني عام (1917) م وقيام النظام الملكي، واخيرا حل الاحتلال الامريكي على العراق (2003) م (فضاع الجمل بما حمل)، هذا الخليط من القوميات انعكس على حضارة بلاد ما بين النهرين ليس فقط على جغرافيتها، بل امتدت إلى تقاليدها ولغتها وثقافتها وأيضا إلى ديانتها.
بالعودة لتاريخ المنطقة نجد تقاليد بلاد ما بين النهرين في الغالب ذات طابع ديني، فقد ذكر الاثاري الفرنسي اندريه بارو André Parrot الذي نقب في موقع لارسا (Larsa) (تل السنكرة في جنوب العراق)، وفي موقع ماري (Mari) في (سورية حاليا) بان: (كل الاثار المكتشفة في بلاد ما بين النهرين ذات طابع ديني، وأن للدين تاثير كبير على المجتمع الرافديني)، ولحد الآن التاثير الديني عميق في تفكير الفرد العراقي يصل إلى حد التطرف والمبالفة مثل اجدادهم القدماء، فكثيرا ما نشبت الحروب بينهم للدفاع عن آلهتهم، مثل بابل (عبادة مردوخ) و (نينوى عبادة اشور).
على العموم تناولت الأعياد الزراعة والخصوبة وتبجيل الآلهة، والمعروف أن ديانة بلاد ما بين النهرين ضمت العديد من الآلهة، فهناك الآلهة الرئيسية، مثل الإله (إيا) (Ea)، إله الحكمة والسحر، والإله مردوخ أو (مردوك) حامي مدينة بابل، والإله اشور حامي الدولة الاشورية، والإله انليل (Enlil) المبجل عند السومريين ويعتبر الإله الراعي لمدينة نيبور(Nippur)...الخ، إضافة إلى آلاف الآلهة الفرعية، ولذا أُدمج القدماء معتقداتهم الدينية في أعيادهم لأعطائها صفة مقدسة، بما في ذلك احتفال رأس السنة المعروف باسم عيد (أكيتو) (Akitu) المصادف من (1) نيسان وحتى (12) نيسان.
عند دراسة الاحتفالات في بلاد ما بين النهرين نجدها في الحقيقة مهرجانات زراعية، فعلى سبيل المثال، كان لديهم (مهرجان الحصاد) أو حصاد الشعير اكيتي-شكينكو (akiti-šekinku) كما ذكر بالنصوص السومرية، وايضا ذكر باسم عيد (سنبلة الشعير) اكيتي-شونوم (akiti-šununum) (حاليا يطلق عليه عيد نوروز الذي يصادف (21) آذار وهو يقابل (1) نيسان (الانقلاب الربيعي)، فالشهر عند العراقيين القدماء يأخذ عشرة ايام من الشهر الذي يليه ويسمى حاليا خطا بالشهر العربي)، وكذلك عيد (المهرجان) الذي يصادف (23) ايلول (الانقلاب الخريفي) وهو عيد (بذر الحبوب) وكان الملك الساساني يستقبل الناس في عاصمته طيسفون (المدائن) أو (سلمان باك) ويستلم الهدايا بمناسبة هذا العيد، وقد حرم النبي محمد (ص) من الاحتفال بعيد نوروز وعيد المهرجان والاكتفاء بعيد الفطر وعيد الأضحى، ويشبه عيد (بذر الحبوب) إلى حد ما (عيد الشكر) الحديث (Thanksgiving) (الذي يقام في رابع خميس من شهر تشرين الثاني من كل عام، حيث يحتفل الأمريكيون باسم (عيد الشكر)، ويتمتع الناس بإجازة لمدة (4) أيام، تجتمع فيها العائلات والأصدقاء حول مائدة، عمادها الديك الرومي المشوي (بالعراقي فسيفس)، ويلي هذه الوليمة في اليوم التالي عادة التسوق بمناسبة الجمعة السوداء Black Friday).
لم يقتصر عيد الحصاد وعيد المهرجان على إقامة الولائم فحسب، بل أتاح أيضا للمزارعين فرصة للتجارة وبيع السلع، وبالتالي، كان له دور تجاري واقتصادي مهم، (لا زال المجتمع العراقي في تفكيره مجتمع زراعي بدوي فاغلب تقاليده واغانية من التراث الريفي المرغوب)، ودائما تقام الولائم المجانية في الاحتفالات على شرف الآلهة (في التقاليد بلاد ما بين النهرين لابد من اقامة الولائم في كل مناسبة مثل الزواج، والوفاة، والولادة، والاحتفالات الدينية وما اكثرها، والفصل بين العشائر، والبناء، أو انجاز مشاريع اروائية...الخ)، كما يرافق الاحتفالات قديما إيقاد النار التي ارتبطت بالإله (كيرا) (Girra) أو جيبيل (Gibil) أو بالأكدية (كيرو girru) ويعتبر نار مُؤلَهة، وكان يُعتقد أن الإله كيرا هو ابن آنو (Anu) إله السماء والإلهة سالا(Sala)، وكان كيرو يُمثل النار بجميع جوانبها: كقوة مُلهمة مثل حرارة الصيف الحارقة في بلاد ما بين النهرين، وكصانع تماثيل في فرن الحداد، والنار في فرن الخبز الحجري، وكمؤسس للمدن، ويُرجح أن النار كانت تُستخدم للتطهير(كما ورد في الأساطير اليونانية محاولة حورية البحر ثيتس (Thetis) ان تجعل ولدها اخيل أو اخيلوس (Achilles) ان يكون خالدا بتطهيره في النار، وسبق وان احترق اخوين له، وكاد هو الاخر ان يحترق لولا انقذه ابيه بيليوس (Peleus) ملك فثيا (Phthia) فأصبح اخيلوس جسده خالد لكن ساقاه فانيتان، ولهذا قتل في معركة طروادة (Troy) بسهم في ساقه)، ومن المحتمل أن القيمة الرمزية للنار قد انبثقت من ارتباطها بحرق النباتات أو المحاصيل القديمة لإفساح المجال لزراعة موسم جديد، ومن الممكن إقامة طقوس النار سرا، أو تقام في العلن وذلك بحضور كاهن يردد ترنيمة أو إقامة صلاة تجمع عامة الناس (لا زالت الاحتفالات في عيد نوروز(21) اذار يتم خلالها إيقاد نار كبيرة من قبل المحتفلين مع تناول الطعام، والرقص والغناء، كما كان يجري في العصور السومرية).
كما ركزت المهرجانات المتعلقة بدورات القمر والكسوف على مواضيع الموت والنمو والبعث، (التقويم القمري كان سائدا في حضارة بلاد الرافدين في كافة عصوره، وحتى الاسلام تبنى الأشهر القمرية)، ويعتقد سكان بلاد الرافدين أن القمر يموت كل شهر، لكنه قادر على العودة من العالم السفلي، وربما اعتقدو أن القرابين والطقوس التي تمارس في المعابد تُساعد على تطهير العالم وتُساعد القمر في رحلته، حيث تقدم القرابين مع اقامة الطقوس الدينية، ويمكن إجراء فعاليات اثناء الاحتفالات مثل المسابقات كسباق الخيول، والمصارعة، والملاكمة، ورمي السهام، والموسيقى والغناء لغرض الترفيه مع إقامة الولائم المجانية من قبل الطبقة الحاكمة والاغنياء، ويرافق تناول الطعام عزف الموسيقى والرقصات، واحيانا البكاء والندب على الآلهة العظام، وكلها تهدف إلى إرضاء الآلهة وإبعاد شرها من أجل ديمومة الحياة .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1150 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع