الحشد الشعبي... المشروع الطائفي بثوب الوطنية

قلم باندان

الحشد الشعبي... المشروع الطائفي بثوب الوطنية

في زمن مدلهم وفي خضم حقبة ليست كالحقب، تداخلت فيها الجبهات، وتقاطعت فيها الولاءات، وترنحت فيها الملل والطوائف والاقوام بين منطق السلاح ومنطق الدولة،
وُلد الحشد الشعبي في العراق، وجاءت ولادته وسط زحامٍ من الشعارات والرايات، ووسط فراغ أمني صنعه تنظيم "داعش"، وفراغ سياسي صنعه الفشل المستمر لبناء الدولة.
لكن ما بدأ كاستجابةٍ طارئةٍ لنداء الجهاد والدفاع، تحوّل تدريجيًا إلى كيانٍ عقائديٍّ، يُدير مشروعًا غير-وطني، ويُعيد تعريف القوة والسلطة والانتماء في الجغرافيا.
تشكّل الحشد الشعبي رسميًا في حزيران 2014، بعد صدور فتوى "الجهاد الكفائي" من المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، في لحظة حرجة تهاوت فيها المؤسسة العسكرية أمام اجتياح تنظيم داعش.
غير أن ما جرى لاحقًا تجاوز مضمون الفتوى وروحها، إذ سرعان ما تحوّل الحشد إلى مظلةٍ لفصائل مسلحة كانت قائمةً أصلًا، بعضها ينتمي لعقيدة "ولاية الفقيه"، ويرتبط تنظيميًا وتمويليًا بالحرس الثوري الإيراني.
في غضون أشهر، لم يعد الحشد مجرد قوة رديفة للجيش، بل أصبح هيكلًا موازنًا له، بميزانية مستقلة، وقيادة غير خاضعة للتراتبية العسكرية العراقية، وتمثيل سياسي في البرلمان، وإعلام، ومؤسسات اقتصادية، وتعليمية، ودينية.
على المستوى الخطابي، قُدّم الحشد الشعبي كـ"درع العراق" و"صوت المكونات" و"رمز الوحدة"، ودرة الخلاص لكن الواقع التنظيمي والفعلي يُظهر تركيبةً طائفية واضحة.
فالغالبية العظمى من قادة الحشد وفصائله تنتمي إلى الطيف الشيعي، ويحمل كثير منهم شعارات عقائدية ذات بعد مذهبي صريح، ويُظهر بعضهم ولاءً علنيًا لمرجعيات سياسية وعسكرية خارجية، وعلى رأسها طهران.
رغم مشاركة بعض المقاتلين السنة والمسيحيين والتركمان ضمن صفوف الحشد، فإن هذه المشاركات غالبًا ما كانت رمزية، تُستخدم للتسويق الإعلامي أكثر منها لتغيير البنية أو القرار أو التمثيل الحقيقي داخل المؤسسة.
بعد استعادة المدن السنية من تنظيم داعش، بدأ الوجه الآخر للحشد في الظهور.
في مدن مثل الفلوجة، تكريت، الموصل، وجرف الصخر، تواترت التقارير الحقوقية عن انتهاكات واسعة: تهجير قسري، اعتقالات دون أوامر قضائية، إخفاء قسري، وسجون سرية يُديرها مقاتلو فصائل شيعية بعينها.
منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وبعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) وثّقت هذه الانتهاكات، فيما أطلق بعض قادة الحشد تصريحات صادمة من قبيل "حررنا الأرض من أهلها"، في تعبير يشي بعقلية الثأر لا بعقيدة التحرير.
بمرور الوقت، تحوّل الحشد إلى ما يشبه الدولة الموازية داخل العراق.
يمتلك الحشد اليوم ميزانية سنوية من خزينة الدولة، ومنافذ اقتصادية من خلال السيطرة على بعض المعابر الحدودية، وتجارة النفط، والمقاولات، وحتى التعليم الديني.
بل إن بعض الفصائل أسست أحزابًا سياسية وشاركت في الانتخابات، وأخرى امتلكت شبكات إعلامية ضخمة.
هذا التمدد جعل من الحشد ليس مجرد فاعل أمني، بل لاعبًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، يتصرّف في كثير من الأحيان دون رقابة حقيقية من البرلمان أو من الحكومة، وهو ما يُثير سؤالًا عميقًا حول حدود الدولة وحدود القوة.
إن إشكالية الحشد الشعبي لا يمكن عزلها عن الإشكالية البنيوية الأوسع التي يعاني منها العراق منذ 2003، والمتمثلة في غياب مشروع الدولة المدنية الجامعة، واستبدالها بمنطق "التوازن الطائفي"، وتقاسم المغانم، وتعدد مراكز القوة.
لقد نشأت الدولة العراقية الجديدة على قاعدة "التوزيع الطائفي للسلطة"، لا على أساس المواطنة، فتحولت الهوية الدينية إلى أساس للتمثيل السياسي، وصارت القوة تُوزَّع وفق الانتماء لا وفق الضرورة، وصار السلاح علامة وجود لا وسيلة دفاع.
لقد آن الأوان للعراقيين أن يخرجوا من وهم "التوازن الطائفي" إلى حقيقة المواطنة المدنية، ومن خطاب "الهوية الدامية" إلى مشروع الدولة الجامعة.
فالدولة لا تُبنى على معادلات الدم، ولا تُدار بمنطق الغنيمة، ولا تستقر في ظل سلاحٍ لا يخضع للقانون. لقد آن الأوان لأن يُدرِك العراقي، مواطنًا كان أو صانع قرار، أن استمرار التعايش مع الميليشيات هو تعايش مع الموت المؤجل للدولة، وأن التنازل المستمر أمام منطق "السلاح العقائدي" ليس إلا هدمًا مؤسسيًا بطيئًا لمفهوم الوطن.
لقد آن الأوان لطرح السؤال المؤجل منذ 2003:
هل نريد دولة مواطنين أم دولة مكونات؟ دولة قانون أم دولة ولاءات؟
فلا نهوض للعراق دون كسر الحلقة الجهنمية التي جعلت من الطائفة بديلاً عن الهوية، ومن العنف لغة للحكم، ومن "التحرير" مناسبة للثأر.
آن الأوان لأن يُفهم أن الدم لا يُطفئ الدم، وأن الخوف لا يصنع سلاماً، وأن الدولة التي تخشى ميليشياتها لن تكون بيتًا لأحد.
إذا كان العراق يريد مستقبلًا مختلفًا، فعليه أن يعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة الشرعية، ويضع حدًا لتعدد الجيوش وتصدر الفئات، ويؤسس لثقافة مدنية وطنية لا تميّز بين المواطنين على أساس الطائفة أو الولاء.
او الانتماء فالمستقبل لا يُصنع بالخنادق، بل بالمؤسسات. ولا يُكتب بالسلاح، بل بالقانون.
وما لم تُحسم العلاقة بين السلاح والدولة، فإن العراق سيبقى حبيس دورات لا تنتهي من العنف، يتبدّل فيها المقاتلون، لكن لا يتبدّل القاتل الحقيقي: غياب الدولة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

639 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع