بقلم: معاذ محمد رمضان "باحث تأريخي"
قراءة في كتاب "عبد الناصر وجيله"
الحديث عن الزعيم المصري جمال عبد الناصر فيه ثراء تأريخي كبير ، هذا الرجل الذي ترك بصمة وإرثاً ثقيلاً ، سواء أكان ايجابياً أم سلبياً ، مع ان الشائع هو الأخير ، فصورة عبد الناصر الموجودة في الساحة العربية ، هي صورة الرجل الذي قام بانقلاب عسكري أطاح فيه بالنظام الملكي المصري "الدستوري البرلماني" ، وأحل مكانه نظاماً سلطوياً خانقاً كان انموذجاً لأنظمة أخرى في المنطقة. وكما ذكرنا مراراً في كتاباتنا السابقة عن تاريخ العراق ، فإدانة الأنظمة التي جاء بها العسكر ، والبكاء على الأنظمة التي سبقتها ، هو خلل منهجي كبير ، وما علينا إلا أن نبحث عن الأسباب التي أدت الى سقوط تلك الأنظمة بهذا الشكل ، فتهاوت كبيت من ورق بلا ناصر أم مُعين (1).
سنقف اليوم مع كتاب كبير بحجمه "500 صفحة" ، كبير بمادته التاريخية ، وهو كتاب الدكتور بانايوتس جيراسيموف فاتيكيوتس (2) ، والباحث أمريكي يوناني الأصل ، وقد صدرت طبعة الكتاب الإنكليزية الأولى في عام 1978.
تكوّن الكتاب من:
مقدمة ، خمس أقسام بعشرين فصلاً ، تضمن القسم الأول "التكوين السياسي" أربع فصول: عبد الناصر قبل الثورة ـ التكوين السياسي لعبد الناصر ـ جمعية مصر الفتاة ـ جماعة الاخوان المسلمين. وتضمن القسم الثاني "الوصول الى السلطة" أربع فصول أيضاً: جذور جركة الضباط الأحرار ـ عبد الناصر وثورة الجيش ـ توطيد أركان السلطة وإزاحة الخصوم ـ انتصار عبد الناصر. وتضمن القسم الثالث " حاكم مصر" خمس فصول: الأدوات السياسية والأمنية ـ عبد الناصر والدولة ـ سياسة عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية ـ بريق القومية العربية ـ مواجهة إسرائيل. وتضمن القسم الرابع "الريّس" ثلاث فصول: جمال عبد الناصر زعيم المصريين ـ بلاغة خطابات الثورة ـ عهد الحكم المطلق. أما القسم الخامس والأخير "شخصية عبد الناصر وآثاره في مصر" فتضمن أربع فصول: عبد الناصر في المرآة ـ تركة عبد الناصر وآثاره ـ عبد الناصر ألكيبيادس العصر الحديث ـ الخاتمة. وعن مصادره فقد احتلت الصحف والمجلات حيزاً كبيراً من كتابه ، إضافة للأبحاث الأجنبية والكتب العربية.
صَدّرَ فاتيكيوتس كتابه بإشارة دقيقة لكل من يريد أن يتعرّض لتاريخ عبد الناصر ، فبرأيه أن أي محاولة لرسم صورة للراحل جمال عبد الناصر ، لن تمرّ دون نزاع وجدال ، فالمهمة عسيرة جداً لمن يريد أن يلتزم درباً وسطاً بين من يُبَجّل عبد الناصر ، وبين من يبحث عن مثالبه وعيوبه (3).
يرغب فاتيكيوتس في تبيان الأثر الذي خلّفه عبد الناصر على مجريات الأمور ومسار الأحداث التي تخوضها دولته في خضم شتى العوامل الاقتصادية والاجتماعية ومحركات التاريخ ، ووجّه اهتمامه لدراسة عبد الناصر بوصفه ظاهرة مصرية (4).
يشير فاتيكيوتس الى أن علاقة جمال بأبيه وإخوته كانت واهية الأواصر ، والسبب هو وفاة أمه وزواج والده قبل أن ينقضي عام على ذلك ، ليستعرض صورة من بحث فيكتور فولفنشتاين الباحث الأمريكي المتخصص في التحليل النفسي والعلوم السياسية ، اذ قام فولفنشتاين بتطبيق نظريات فرويد على غاندي ولينين وعبد الناصر (5). ويشير فاتيكيوتس الى حرص عبد الناصر على القراءة في مرحلة مبكرة من حياته ، وقد أثرت كتابات عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم فيه ، ليُهدي بعد ذلك كتابه "فلسفة الثورة" الى هذين الكبيرين ، وقد بقي منكباً على قراءة الصحف والمجلات الى آخر يوم في حياته (6).
يذهب فاتيكيوتس في إشارة ذكية ودقيقة الى ضرورة دراسة مرحلة "أحمد حسين" والغوص في ظاهرة الراديكالية الجديدة أو الرومانتيكية الراديكالية في التاريخ المصري الحديث على نحو ما تجسدت في "مصر الفتاة" و "الاخوان المسلمين" من أجل الوقوف على مصادر أفكار عبد الناصر وأفكار جيله وعلى منابع أحلامهم وطموحاتهم (7). فكان كتاب "إيماني" المنشور في عام 1936 لأحمد حسين "وثيقة بالغة الأهمية في الكشف عن الصعوبات التي عايشها جيل عبد الناصر" (8). وقد عَبّدَ الاخوان المسلمون طريق العمل السياسي أمام كثير من ضباط الجيش ، وتعلم عبد الناصر حُسن تنظيمهم وتماسكه دروساً عديدة (9).
كانت مصر بلداً يعاني من تعاسة بالغة في نهاية عام 1951 ، وقد بلغ عدد الأجانب الذين يتمتعون بمزايا في المؤسسات التجارية والمالية نحو مائتي ألف (10) ، وقد أظهر عبد الناصر حنكته السياسية في المحافظة على وشائج الصلة مع مختلف الجماعات والأطراف من أجل تحقيق الهدف المنشود (11) ، ويندهش فاتيكيوتس من سرعة استيلاء الضباط على الحكم بعد ثلاث سنوات فقط من تشكيل تنظيمهم ، ومن عدم وجود رابط أيديولوجي بينهم (12).
رجحت كفة عبد الناصر داخلياً في صراعه مع محمد نجيب (13) ، اذ يشير فاتيكيوتس الى ان كفة عبد الناصر في هذا الصراع كانت راجحة بكل المقاييس (14) ، ليقف عبد الناصر على رأس النظام من غير منازع.
يكتفي السطحيون بالمرور السريع على الأحداث المفصلية ، إما ادانة عبد الناصر على انفراده بالحكم ، أو تأييده ، هكذا بعيداً عن الحفر والتنقيب ، فلا يسأل "السطحي" نفسه: لماذا انفرد عبد الناصر بالحكم؟ هل توجد أسباب خفية مكّنته من ذلك؟ يرى فاتيكيوتس بأن الظروف كانت متوافرة في مصر لتسمح بصعود حاكم على شاكلة عبد الناصر ، وينقل نصاً في غاية الأهمية عن أحمد حسين ، ذهب فيه الى ان الشعب المصري من أسلس الشعوب انقياداً للحاكم ، اذ يُغري حكامه دائماً الى الانفراد بالحكم (15).
أسهب فاتيكيوتس في الحديث عن "مصر عبد الناصر" ، وقد حفل كتابه بتكرار مُمل أحياناً ، ونجد في فصل "تركة عبد الناصر وآثاره" ، وتحديداً في "تقييمات المفكرين المصريين لعبد الناصر" اسهاباً من فاتيكيوتس في طرح أفكاره غير مفصولة عن أفكار المفكرين المصريين ومدمجة معها (16). ولا أعرف ، هل يعود ذلك الى فاتيكيوتس أم الى الترجمة؟
يُوحي تقييم فاتيكيوتس لعبد الناصر ـ في النظرة الأولى ـ والمبثوث في مواضع متفرقة من كتابه بشيء من التناقض والاضطراب:
جمعت شخصية عبد الناصر بين صفات روبن هود وخصال السندباد وطباع صلاح الدين وسمات الفتوات وشمائل الفراعنة (17).
تهالك عبد الناصر على امتلاك مقاليد السلطة هو السبب الرئيس في انزلاق البلاد الى الفوضى (18).
كانت آراؤه حول السلطة والقوة بسيطة وضحلة ، وكان بعيداً كل البعد عن ترف الحياة ، وهو مناور بارع ومفاوض واقعي (19).
كان مصرياً أصيلاً فاق غيره وتجاوزه ، وذكياً جداً وداهية بارعاً لكنه ضحل الفكر ، وأمهر خطيب وقف يتحدث للجماهير العربية في العصر الحديث وأحذق من وظّف الكلام الملفوظ للوصول الى مراميه (20).
بسط على مصر أكبر بساط من الغل ، لكنه بقي مورداً يروي غليل المصريين (21) ، وكان لطغيانه أسبابه المنطقية ودوافعه المعقولة (22).
هذه نماذج من أحكام فاتيكيوتس عن عبد الناصر ، وهي كما أسلفنا توحي بشيء من التناقض والاضطراب ، ويناقش فاتيكيوتس محمد حسنين هيكل وانكاره "ديكتاتورية عبد الناصر" (23) ، ولا بُد لنا ونحن في هذا السياق الاستشهاد برأي مهم في هذا المقام:
نعتقد أن المقياس الموضوعي الوحيد للترجيح في شأن الديموقراطية هو الوقوف مع الشعب "أغلبية الشعب" والنظر الى المشكلة على ضوء معاناته ، وهذا هو المقياس الموضوعي للترجيح في شأن الديموقراطية (24).
ويعترف فايتيكيوتس بأن قانون الإصلاح الزراعي هو الإنجاز الأوحد للضباط ، لكنه يُشكّك في رغبتهم بتخفيف وطأة المشكلات الزراعية؟! ليجزم بأن أصل القانون سياسي (25). ونحن بدورنا نقول: لماذا لا نجمع بين الأصل السياسي للقانون والرغبة في تخفيف وطأة المشكلات الزراعية؟ خصوصاً وأن عبد الناصر قد اتصف بصفات الرجل البلدي؟ (26). والشيء نفسه سيُقال عن جزم فاتيكيوتس بأن غاية سياسة عبد الناصر الاقتصادية كانت سياسية ، ولم يكن همّه امتلاك الثروة وإعادة توزيعها (27).
ويسَلّط فاتيكيوتس الضوء على مسألة في غاية الأهمية ، ففكرة بناء "اشتراكية بلا اشتراكيين" فكرة ساذجة مثل بناء "ديموقراطية بلا ديموقراطيين" (28) ، وفعلاً هي فكرة ساذجة.
ويشير فاتيكيوتس لفكرة القومية العربية ، فهي عند عبد الناصر امتداد لسياسة محمد علي باشا وابنه إبراهيم في القرن التاسع عشر ، والملك فؤاد وابنه فاروق في القرن العشرين ، وأن خيار القومية العربية طريق كل قائد لمصر (29) ، وعليه فعبد الناصر لم يكن بدعاً في هذا المجال.
وبشأن القضية الفلسطينية ، فقد بقيت حتى أيلول 1954 لا تشغل بال عبد الناصر ، وقد رفض الاعتراف بإسرائيل حتى بعد موافقته على خطة روجرز ، وبقي الى آخر نفس في حياته يُناصبها العداء (30).
رغم انتقاده لسياسات عبد الناصر ، يذهب فاتيكيوتس الى:
ينبغي أن لا يقودنا استنكار سلوك عبد الناصر في السلطة وانتقاد سياساته بعد وفاته الى الانكار التام لما خلّفه من أثر في المجتمع ، فمن يملك أن ينكر السد العالي في أسوان ، هذا الإنجاز الهائل ، وها هو الاقتصاد المرتكز على القطاع العام بصرف النظر عما يعتريه من أخطاء ، يقف أثراً شاهقاً من آثار السياسة القومية ، ونجد علامات أوضح في الجانب السياسي ، فالفئات التي كانت محرومة قبل 1952 ، لا تزال تشق طريقها الى الآن نحو طبقة السياسيين الحاكمة من صفوة المجتمع (31).
النتيجة التي نخلص اليها ، أن كتاب فاتيكيوتس غني فعلاً وثري بالمعلومات ، وقد حاول مؤلفه أن يكون متوازناً مع عبد الناصر.
الهوامش:
1ـ عن سقوط النظام الملكي المصري يُنظر:
محمد حسنين هيكل: سقوط نظام! لماذا كانت ثورة يوليو 1952 لازمة؟ دار الشروق مصر ط3 2008 ، وعن الملك فاروق يُنظر:
لطفية محمد سالم: فاروق الأول وعرش مصر / بزوغ واعد وأفول حزين 1920 ـ 1965 ، سلسلة التاريخ الآخر ، إعادة قراءة للتاريخ المصري ، دار الشروق مصر ط2 2007 ، وعن تصرفاته الشخصية يُنظر:
سمير فراج: الملكة فريدة ثائرة على عرش فاروق ـ صفحات من تاريخ الملكية المصرية بالوثائق والصور النادرة ، الزهراء للاعلام العربي
2ـ ب . ج . فاتيكيوتس: جمال عبد الناصر وجيله ، ترجمة: أحمد نبيل اللهيب ، مدارات للأبحاث والنشر مصر ط1 2025
3ـ فاتيكيوتس ص21 وقد عانينا من هذه المسألة شخصياً في وسائل التواصل الاجتماعي ، خصوصاً من الذين يبحثون عن مثالبه وعيوبه
4ـ فاتيكيوتس ص23
5ـ فاتيكيوتس ص30 و 436
6ـ فاتيكيوتس ص37 و 38 ويشير الأستاذ عزيز السيد جاسم الى أن عبد الناصر قد كان عسكرياً مثقفاً ، يُنظر:
عزيز السيد جاسم: مقتل جمال عبد الناصر ، دار آفاق عربية بغداد ط1 1985 ص25 ، وتذكر الدكتورة مارلين نصر بأن عبد الناصر قد كوّن لنفسه من خلال قراءاته ركيزة ثقافية وعلمية متينة ، ينظر:
مارلين نصر: التصور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر 1952 ـ 1970 دراسة في علم المفردات والدلالة ، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 1981 ، دار المستقبل العربي القاهرة ط2 1983 ص96 ، ويذكر عبد الحميد السراج حادثة متأخرة تشير لولع عبد الناصر الثقافي ، فقد كان يُعلم رجاله ـ والسراج منهم ـ ويفرض عليهم قراءة ملخصات كتب وأحياناً الكتب نفسها ، يُنظر:
كمال خلف الطويل: عبد الناصر كما حكم 2 ـ زيارة جديدة لتاريخ عربي ، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 2024 ص765
7ـ فاتيكيوتس ص87
8ـ فاتيكيوتس ص89 و 90
9ـ فاتيكيوتس ص113 و 116
10ـ فاتيكيوتس ص151 و 161
11ـ فاتيكيوتس ص141 وعليه فعبد الناصر هو الرأس المدبر للثورة ، ينظر:
عبد الرحمن الرافعي: ثورة 23 يوليو سنة 1952 / تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952 ـ 1959 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة ، مكتبة الأسرة 2017 ص39
12ـ فاتيكيوتس ص146 وهذا لدليل على حجم التفسخ الذي أصاب نظام فاروق
13ـ عن محمد نجيب ينظر:
وفاء خالد خلف: محمد نجيب ودوره السياسي والعسكري في مصر حتى عام 1954 ، دار ضفاف للطباعة والنشر بغداد ط1 2013
14ـ فاتيكيوتس ص197
15ـ فاتيكيوتس ص204 و 497
16ـ فاتيكيوتس ص446 الى 474
17ـ فاتيكيوتس ص359
18ـ فاتيكيوتس ص246
19ـ فاتيكيوتس ص360 و 361 و 362
20ـ فاتيكيوتس ص366 و 372
21ـ فاتيكيوتس ص364
22ـ فاتيكيوتس ص434
23ـ فاتيكيوتس ص260
24ـ عصمت سيف الدولة: هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟ دار المسيرة بيروت ط1 1977 ص29
25ـ فاتيكيوتس ص276
26ـ فاتيكيوتس ص363
27ـ فاتيكيوتس ص290 و 291
28ـ فاتيكيوتس ص246 يقول حمروش: وُضعت الحواجز أمام الاشتراكيين الحقيقيين في مرحلة التحول نحو الاشتراكية ، ينظر:
أحمد حمروش: خريف عبد الناصر 5 ـ قصة ثورة 23 يوليو ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 1978 ص73
29ـ فاتيكيوتس ص306 و 331
30ـ فاتيكيوتس ص339 و 353 وبشأن التسجيل الصوتي الذي ظهر مؤخراً لعبد الناصر واستخدامه في مهاجمة هيكل ، وكأن عبد الناصر أراد ان ينهج سياسة "معتدلة" كالتي انتهجها السادات ، فنرى ان الموضوع قد حُمّل الكثير ، فسياسة الأمر الواقع لا تعني ما ذهب اليه البعض الآن ، خصوصاً وأن التسجيل لم يأتِ بشيء جديد على العارف المدقق ، يذكر حمروش بأن عبد الناصر قد تحدى ان يجدوا كلمة واحدة في خطبه وتصريحاته الى انه ينوي تدمير إسرائيل ، وأكد على قناعته التامة في الاعتراف بها كدولة فرضتها الظروف ، يُنظر:
حمروش: خريف عبد الناصر ص49 و 51
31ـ فاتيكيوتس ص445
840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع