البحر لم يعد صامتاً

                                           

                            د. ضرغام الدباغ 

       


Ivan Aiwosowiski: 1817- 1900 The Tenth Wave

إيفان آيفوزوفسكي : "الموجة العاشرة"
فيركور وإيليا أهرنبرغ وإيفان آيفوزوفسكي والأنتفاضة العراقية : الصمت لم يعد ممكناً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتب لي صديق يسألني عن محرك الجماهير في انتفاضة شعبنا العراقي، يتساءل من حرك هذا البحر، وهو يعتقد أن للقوى السوداء نفسها يد فيها، فأجبته أن البحر لم يكن راكد يوماً، وهذه الظاهرة الجديدة هي انتفاضة الأغلبية الصامتة التي تعلن بصوت مدو : الصمت لم يعد ممكناً ... الجماهير عندما تنتفض وتنقض على الساحل بكل ما في البحر من كنوز وغذاء، ولكن أيضاً طحالب ومن قناني بلاستك فارغة ومخلفات غوارق ومهملات جاء بها وقذفها إلى بحرنا الجميل من لا يتصف بالنظافة، فلا عجب فالبحر يحتوي على كل شيئ،  والانتفاضة ليست أنقلاباً عسكرياً يبدأ وينتهي ببيان رقم واحد، الانتفاضة تحدث تراكماً بطيئاً، تجذب الناس إلى غمارها، تطرد من بين صفوفها المندسين والعملاء، والاحتياطي الطابور الخامس من الخونة والمخبرين، وتفرز قادة لم نكن نعرفهم، يطور شعاراته، ويقبل بكرم من يلتحق به، أفراداً وحركات، الانتفاضة هي كالبحر في أول زمجرته، قد يراها البعض مبكراً ممن يتمتع بقوة البصر والبصيرة، ويراها البعض وقد أقتربت من الساحل وأصبح انقضاضه وشيكاً، وقد تحولت العاصفة إلى إعصار، وهناك من يعاند عقله ورؤياه، فيصم أذنه عن الهدير سادراً في غيه، يعتقد أن من جاء به سينقذه في لحظة ما ... وهذا سيكون جزاؤه كجزاء أبن نوح إذ لفته العاصفة، فهو لم يحترم البحر ولا العاصفة ولم يدرك هولها إذا تحولت إلى إعصار يقتلع النفايات ويقذف بها إلى حيث تستحق مستقراً.

إلا أن البحر في النهاية يهضم الجميع ليبقى البحر جميلاً صافياً نقياً .... كريم في عطاؤه ..

تذكرت رواية الفرنسي فيركور(جان مارسيل برولر) صمت البحر، فالبحر عند فيركور(أسمه الحركي ككاتب في المقاومة ضد الاحتلال النازي) صمت احتجاج، صمت غدا مشهوراً، بل صاخباً بشهرته، عندما كتب رائعته الغير قابلة للنسيان " صمت البحر " والتي يعتبرها معظم النقاد من أجمل نتاجات أدب المقاومة العالمي، بل ونالت حقاً جائزة أفضل عمل أدبي أشهره كسيف ماض، قلم كاتب حر مقاوم بوجه الأحتلال النازي لبلاده فرنسا في الحرب العالمية الثانية. إذ تقرر فتاة عزلاء بمفردها مقاومة جبروت النازي المحتل لبلادها (فرنسا) مقاومة الغستابو والآلة الوحشية للأجهزة السرية، والإعدامات الجماعية، عندما تقرر مقاطعة تبادل الحديث مع ضابط نازي، فرضته إدارة الاحتلال للبلدة كضيف إجباري في بيتهم هي ووالدتها العجوز، في صمت بليغ .. فيه إهانة للمحتل المغتصب .. هو أضعف الأيمان ..!

راح الضابط الألماني، وكان وسيماً ومثقفاً، في محاولة يائسة لكسب ود الفتاة، يعزف بمهارة على البيانو الموجود في بيتها، يعزف روائع الكلاسيك العالمي، يحدثها عن الأدب العالمي، يخبرها بكلمات لزجة، يحاول بذكاء أن يكسب ودها، أن هناك سياسة دولية لها أبعادها، وأنه ليس مسؤولاً عن وجود النازي في بلادها، وهو الذي لم يكن ضابطاً مقاتلاً، بل ضابط أحتياط ملحق بالجيش كإداري، فهو لم يكن اليد التي تضرب، أو القدم التي ترفس ..... ولكنه كان الشريان الذي يمد الجيش بالمؤونة، فهو واجب أمضى من القتل .. بالسلاح، كان مهذباً وراقياً، وذلك تحريف ذكي للمحتل المكروه ... سيان أي رداء أرتدى ..

الفتاة أحبته بقلبها، وتلك عواطف إنسانية، ولكنها في عقلها كانت تدرك أن حبها الأول هو لبلادها وللراية الوطنية المثلثة الألوان، ولنشيد المارسلييز .. وليس موسيقى الكلاسيك الجميلة التي يجيد المحتل الوسيم المظهر والقبيح الجوهر عزفها .. قاطعته، لم تكن ترد حتى على تحية الصباح أو المساء التي يلقيها .. كانت تقمع قلبها .. فداء لوطنها ..

الضابط أدرك .. أنه تمكن من احتلال بلادها، ولكنه عاجز عن أحتلال قلبها .. تقول له بلغة العيون .. أنت قد تفلح بأحتلال الأرض بالدبابات والطائرات، بل ربما بوسعك أن تغتصب .. نعم هكذا يطلق عليها في قواميس ولغات العالم، هي بالألمانية Vergewaltigungأغتصاب، وبالفرنسية Violation وفي الإنكليزية Assault ، ولكن بمدلول واحد، أن تنال شيئ عنوة، ما ليس هو حقك .. أمر لا يمتع إلا المرضى العصابيون، لكنك هيهات أن تتمكن من قلبي، هيهات أن تنال أحترامي، هيهات أن تنال بوحشيتك إعجاب أحد سوى الذئاب والكلاب المتوحشة ... كان صمتها كصمت البحر ... صمتاً بليغاً ..  ولكن صمت البحر سرعان ما جاء صاخباً، يرد على لعلعة الرصاص بصمت الكبرياء ... وتحررت فرنسا ...

 الأحتلال وعار التعاون مع المحتل لن تمحوه خزعبلات العلاقات العامة ومحترفوها من الكتاب المرتزقة .. الذين يؤجرون أقلامهم ورؤوسهم أيضاً بتراب الفلوس .. ففي فرنسا المحتلة من النازي، وكان هناك أيضاً ممن أمتهنوا بيع الضمير وأشتغلوا بالدعارة القلمية، فبرز كالعادة خونة ومتعاونون، ومنهارون، وزاحفون، بعضهم حاول أن يفلسف هذا الانهيار والانبطاح، فقالوا أن الأمة الألمانية والفرنسية كانت متحدة حتى عام 1200 ميلادية، ولديهم فصول تاريخ مشتركة، وبعضهم زعم أنها سيف الحضارة المسيحية الأمضى، ولكن الحقيقة الناصعة أنهم كانوا راكعون، ربما يشكون من فراغ البطون كذريعة، ولكنهم كانوا أصلاً يعانون من خواء العقل والقلب والضمير ... خواء داخلي وهزيمة لعينة تعشش في رؤوسهم الفارغة.

أيها العراقيون .. أيها العرب .. لا تبتأسوا ... لكل أمة مكب نفاياتها، كتب أحد هؤلاء، الكاتب الفرنسي الخائن المتعاون مع العدو ديشانبرمان: " أنه أعمي من لا يعرف الدور الذي أوكله القدر إلى ألمانيا، بل منحطة وملعونة أي أمة أوربية لا تحي هذا السيف المرفوع ". ولكن الشاعر الحر بول فاليري كتب يرد : أواه كم رأيت وجوهاً فر الشرف من جباهها ..

والمحتلون الألمان كانوا يعدمون رهائن فرنسيين 50 فرنسي مقابل ألماني واحد ... وكان الخونة الفرنسيون يرددون متعقلين: هل ستخرج هذه العمليات وهذا العنف الألمان من فرنسا ؟

فرنسا تحررت .. والعار كان نصيب للخونة والمتعاونيين يوم فرحة الشعب بالتحرير.. . وكتب بول فاليري يوم التحرير: ليس هناك نهار أكثر ألقاً، من اليوم الذي يقتل فيه الخونة ..

هكذا هو ديدن المحتل ..  يخلق جواسيس ومتعاونون ... ولكنه يفرز أبطاًل وقادة للشعب، وهكذا يفعل أصحاب الأقلام الشريفة الذين يكتبون بدمائهم، والذين يمتلكون أفئدة حرة لا تجزع، وإلى الأفق بلا خوف لا وجل .. يرددون وطن علمني القراءة والكتابة ... وله فقط أكتب .. الشرفاء يقسمون لك أيها الوطن أن لا يخونوا الكلمة ..

البحر سيثور يوماً، والتداعيات الفنية تأخذنا إلى لوحة الرسام الروسي إيفان آيفوزوفسكي الرائعة التي أطلق عليها (الموجة العاشرة) تلك اللوحة الرائعة، التي لا يمكنك مغادرتها بسهولة، وهي تنتمي إلى الفن الكلاسيكي، فئة رسوم البحر ولكن بأمتياز خاص، هي لوحته المذهلة الجمال والقوة والإبداع " الموجة العاشرة "The Tenth Wave " وهذه اللوحة اليوم أحدى الموجودات الثمينة للمتحف الروسي في المدينة التي درس فيها آيفوزوفسكي مدينة لينينغراد "سانت بطرسبرغ" وهي بحجم 221X332 Cm .

ولوحة الموجة العاشرة، أثارت إلهام العديد من الكتاب والأدباء والفنانين، فقد أعتبرها آيفوزوفسكي الخبير بعواصف البحار، تسع موجات ضربت السفينة وأحالتها إلى كيان متهالك، والموجة العاشرة تلك الموجة التي أغرقت السفينة التي أتعبها النوء، طغت عليها وأرسلتها إلى قاع البحر العاصف الغاضب، والبحارة يتعلقون يائسين بآخر قلوع السفينة على سطح البحر المدلهم في ظلام الليل، ولا فنار يلوح في الأفق ولا مرساة سوى ضوء القمر الذي شاء آيفوزوفسكي أن يجعله فنار البحارة في مأساتهم هذه  والساحل بعيد .... ألهمت هذه القراءة الفنية الكاتب المبدع .. العملاق إيليا أهرنبرغ في روايته الكبيرة: " الموجة التاسعة " فقد أعتبرها الموجة التاسعة قبل غرق السفينة ..

الموجة التاسعة هي الموجة ما قبل الأخيرة ... الموجة التاسعة هي إنذار، وهو إنذار يطلقه سياسي، رسام، كاتب أديب. الكاتب يطلق إنذاراً لمن ...؟ للبشرية والإنسانية التي شهدت الفاشية تذبح الجمهورية الأسبانية.... أوربا تتفرج مكتوفة الأيادي للنازية والفاشية تغرق أسبانيا بحمام دم وتنحر الديمقراطية ..! أين كانوا حماة الديمقراطية ومتشدقيها ..؟ كانوا يزودون فرانكو الفاشي بالسلاح سراً وجهاراً .. ويقولون لك .. لسنا نحن، بل أنها الشركات الهادفة للأرباح..! لم يقف سوى الأتحاد السوفيتي، الذي أرسل السلاح والمتطوعين لأسبانيا الجمهورية، وعشرات الألوف من الكادحين من كافة أقطار العالم أستادانوا ثمن تذكرة السفر وشخصوا إلى أسبانيا .. وقفوا إلى جانب الجمهورية وقاتلوا إلى جانبها، والألوف منهم قضوا وراحوا في عناق مع الثرى الأسباني إلى الأبد ..!

الكاتب السوفيتي الكبير إيليا أهرنبرغ كان من بين من تطوع ليقاتل بالسلاح .. وعندما عاد كتب رائعته : " الموجة التاسعة " ليحذر البشرية من الصمت .. هاتفاً ... الموجة العاشرة قادمة ... أنتبهوا ... الصمت هو موقف ...لا تشاركوا في مؤامرة الصمت ... لا تقفوا مكتوفي الأيدي أمام الجريمة .. فالشيطان لا يريد سوى سكوت الأخيار .....

الصمت عار ... البحر يصمت غاضباً، ويثور عاصفاً ... وما أجمل غضب البحر
هذا هو صمتنا ... هذا هو صخبنا ...
سلاماً لبحرنا الصاخب العاصف ...
سلاماً لمن وقف قلمه للشعب .. للغد .. للحرية...
سلاماً لمن أصطف مع شعبه وليس مع جلاديه...

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

563 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع