المشهد الأخير
سرحَ في تفكيره بعيداً والسيارة تقترب من مدينة المنصور، تذكر بدايات اتهامه بالاشتراك في مؤامرة لا يعرف عنها شيئا، شريط مليء بالصور المتحركة، ظهر في مقدمته مشهد الصديق صالح الساعدي، السجين في الزنزانة الرقم (7) جسدٌ جفَ من نقص الماء، فذوى قريباً من الموت، مثل زهيرات عطشى تحت جحيم الشمس بحرارتها العالية في صحراء العراق، تعطل تماماً الا من التفكير، يحمله رفاقه المسجونين، يقذفونه أعلى بإيعاز من السجان جمال، أبو حديدة، الذي لُقب هكذا من كثر استخدامه قضيب الحديد في التعذيب، يتركونه يهوى على الأرض الصلبة، فتتهشم الفقرات واحدة تلو الأخرى.
ظهرت صورة سرمد في الشريط، يحاول إبقاء يده ماسكةً طرف الثوب "الدشداشة" المتهرئ أو بقاياه، لتخفيف أثر السقطة على الجسد العاطل، فيكشف جمال تمزقها بسبب تلك المحاولة، التي أراد تقديمها وفاءً لأعز صديق، فيناديه طالباً الحضور أمامه على الفور.
سأله عن أسباب مسكه طرف الثوب، لهذا المخلوق المطلوب تهشيم ظهره في الحال، وعندما أجاب بعدم مسكه طرف الثوب، وإن الثوب هو الذي علق باصابعه فتمزق لأنه عتيق. قطب جمال جبينه، أخذ جرعة ماء من قدح كان على طاولة قريبة، وأعاد مسك قضيب الحديد بيد قادرة على التحكم، هجم به على بدن سرمد الضعيف، مثل وحش خرج عن طوع بنانه، واستمر بتوالي الضرب، لم يتوقف عن مواصلته حتى شاهد اليد اليمنى لضحيته، قد تدلت من كسر في عظام الرسغ.
نظر طارق الى سرمد الذي يجلس الى جانبه في هذه السيارة، والى يده التي تحمل آثار الكسر، لا تفارقه صورة صالح بفقرات عموده الفقري المهشمة، وطريقة زحفه الى حمامات الصباح للقاطع الخاص، على ظهر مكسور، والعودة منها ممرغاً ببقايا غائط، يطوف على مياه غطت أرضيتها القذرة، واستجدائه الموت علناً من جاسب الذي يغرس العصا بفمه المفتوح وجعاً، أثناء العودة زحفاً بعد غمسها في القاذورات، وردهِ على الاستجداء بسيل من السباب، واشارة موت لم يحن بعد.
لقد أمتنع صالح عن الأكل وشرب الماء لثلاثة أيام، بقصد التخفيف من ألم قاسٍ، يسببه انتفاخ المعدة والأمعاء وعذاب الزحف، الى الحمامات خوضاُ في برك القاذورات، تذكر آخر حوار حول حالته عن طريق الاشارة، مع سرمد الذي خبره بأنه قد جازف من أجله، وسرق تفاحة من أرزاق الحراس، رجاه تناولها، ألح على تناولها لأنها مفيدة، لتنشيط المعدة والأمعاء. أقترح تقسيمها قطعاً صغيرة، ليسهل عليه مضغها، لكنه رفض باشارة من يده، وعندما أعاد المحاولة، شارحاً خطورة البقاء دون طعام وشراب لثلاثة أيام، واحتمالات الموت، وهم جميعاً لا يريدونه ميتاً بهذه الطريقة، التي تستهوي الرئيس وشقيقه رئيس المخابرات، أملّهُ بالخروج حتماً في يوم من الأيام، والعودة الى العائلة والأولاد، ذكرَ له حلمٌ حلمه ليلة أمس، تبين فيه أنه جالس في بيته الذي تركه في منطقة الزيونة، قال عن حلمٍ مثل هذا أنه لا يخيب، وإنه فأل حسن أراد، اقناعه بتناول قطعة صغيرة من التفاحة المسروقة، وجرعة ماء، وعدَ بحمله على الظهر الى المرحاض، وأن لا يقلق من الذهاب اليها، وانه سيتوسل الحراس، ليسمحوا له بحمله والبقاء معه حتى قضاء الحاجة، سُيقبّلُ أقدامهم النجسة حتى يقتنعوا. لكنه لم يلين، وبعد أن شعر أنه لم ولن يلين، أقترح عليه التغوط في الزنزانة، سينظفها بنفسه، سوف لن ينزعج. كيف ينزعج وقد وضعوه طباخاً لهم، يهيء طعامهم وينظف مهاجعهم وهم يجلدونه يومياً؟.
رجاه للمرة الثالثة والرابعة أن يتناول ولو القليل من التفاحة، لكنه لم يلين، يبدو أنه قد أخذ قراراً باستقبال الموت وسيلة وحيدة للخلاص، آخر اشارة رفض له كانت هذه المرة عن طريق العين، بعد أن وجد صعوبة في استخدام اليد من شدة الوهن. وأخيراً أستجمع قواه في صحوة موت قبل فقدان الوعي، وتسليم الروح الى خالقها فقال مخاطباً سرمد، أنا أعرف أنك تريد بمحاولتك هذه إطالة أمدي في البقاء، طارق أحق مني بها، وجسمه أحوج من جسمي.
أنا ثمرة نضجت وحان أوان سقوطها.
أدعوا الله كل الوقت من أجل التعجيل في سقوطها، لم أعد أرغب في البقاء.
لقد نجحوا في إماتتنا أحياء.
أبقونا أجساد تشم الهواء.
لا أريد هذا الهواء المشبع بالأحقاد، لم أعد أريده، وسوف لن اشرب الماء.
كان سرمد لحظة تأكده من عدم الفائدة، قد تحول باتجاه آخر، بدأ قراءة سورة "يس" اعتقاداً منه بتسهيل خروج الروح.
كم كان صوته حزيناً وهو يتلو " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية....".
لقد جازف في القراءة بصوت مسموع، متكئا على وجود كريم في الخفارة، ذلك اليوم.... كانت خفارة كريم هذا اليوم هي الأخيرة له في سجل الخفارات، إذ غاب بعدها مباشرة، وتبين من التحقيق مع حسن الفلسطيني، واماتته بالضرب في عمود الحديد منتصف آب 1982، أن كريم قد نقل منه رسالة الى شقيقه مرافق ميشيل عفلق طالباً تدخله لدى الرئيس، من أجل العفو عنه، وعند التكلم مع الرئيس، رد متأسفا لتأخر الوقت، فحسن قد مات بالأمس.
لقد مات حسن، وفي نفس اليوم أعدم كريم.
.......................................
إنهم كانوا أنذالاً، رفضوا السماح بتغسيل جثمان صالح، وتكفينه مثلما تم فعله مع مرتضى، ورفضوا كذلك مع الباقين الذين ماتوا من قبله. كان صالح الرقم عشرة من بين الضحايا، مات معه بنفس اليوم فاضل العبيدي، ومن بعده مات أحمد ابراهيم ومحسن الذهب، وكان آخر من مات ضحيةً، هو كردي الحديثي، شقيق مرتضى في هذه السلسلة المبرمجة للاماتة القسرية، كان لو تأخر في موته ساعات أخرى لما مات، إذ أن أمراً جاء الى السجن بعد موته مباشرة، بإيقاف الإماتة العمدية حسب توجيه من الرئيس.
من يدري ربما بموته، أكتفى الرئيس بتقديم الاضاحي، لاستمراره سيداً أبدياً لهذه البلاد.
يا لها من مصادفة، تسجل في سجلات قدرها البائس، أن أول الميتين مرتضى، وآخرهم شقيقه كردي، الذي اكتمل بموته العدد، أربعة عشرة ضحية سلبت أرواحهم بطرق مختلفة، لكل واحد طريقة وقصة موت، كأنها قد خُطت من جهة عليا، والحراس مع الخفراء ينفذونها خططاً محكمة بشكل دقيق، هم فيها ضحايا تلفيق... استنتاج أيده عزام في حوار جرى سريعاً قرب الحمامات أول الشهر، عندما قال، أن جاسب قبل شهرين، كان يقصده بحفلة تعذيب يومي قبل النوم، وفي آخر حفلة، أشتد في ضربه على الرأس، والقول أثناءه، يجب أن تموت، وقبل إنهاء الحفل جاءه جمال، كلمه على انفراد، وعاد بعدها قائلاً، كم أنت محظوظ، لقد نجوتَ من الموت، كان يجب أن تموت اليوم، لتكمل العدد المطلوب، يعتقد هو أن تدخل من صديقه العزاوي، الذي هو صديق الرئيس، حصل بالصدفة، حال دون اماتته، لأن الاماتة من عدمها مرهون بأوامر الرئيس، إنه أستنتاج قال في وقته، أنه سيبقيه مفتوحاً حتى يتأكد من صحته ما دام حياً.
أدار وجهه صوب الشوارع الذي تلفه كآبة الحرب، وما زالت صورة صالح بانتفاخ بطنه، وعجزه لليوم الثالث عن الذهاب الى الحمام، وعذاب الاحتفاظ بالفضلات داخل أمعائه، التي تمزقت في اليوم الرابع، وقتلته افرازاتها السامة، قبل أنتصاف ليلة التاسع عشر من آب عام 1982.
................................
حليم، إنها المنصور، نتجه الآن الى علاوي الحلة، يبدو أن الفرج حقيقي، وليس وهم، أراه قريب جداً، قال سرمد، وسأل، هل حقاً يمكن أن يتحقق هذا اليوم؟. وهل سنعود الى حضيرة البشر؟. لقد أشتقت الى زوجتي وأولادي، أشتقت الى بيتي، كم أتمنى النوم هذه الليلة على سرير، ولو من السعف مثل أهل الريف، لقد آلمني النوم على الأرض، مثل حيوان في زريبة فلاح فقير.
أريد أن أفطر في بيتي فطوراً تعده زوجتي، أريد أن أعود اليها صائماً، لأفي بوعدي.
يبدو هكذا، قال حليم، وغاص ثانية في عالم الذكريات، كمن يريد التخلص من وقعها قبل التأكد من حقيقة الفرج، وربما لاقتناعه بحصوله فعلاً، فجاءت في مخيلته صورة الحارس الذي حضر الى قاطعهم، في اليوم الأخير، والساعة الأخيرة من العام الماضي، الذي فيها الناس تحتفل بانتهاء سنة ومقدم أخرى، ماسكاً بيده سلماً معدنياً، وضعه في الباحة ، ومن خلفه آخر وضع على كتفه حزمة حطب، وسعف نخيل زهدي كدسه تحت السلم، يسير من بعدهم چاسب، يزعق بصوته المنفر، من أجل اكتمال العدد لابد وأن يموت واحد.
لقد قارب الشهر على الانتهاء ولم يمت إلا واحد.
تجمعوا هنا، أولاد الزنا في هذا المكان، لنختار منكم واحداً.
عندها ترك الباقون على قيد الحياة مهاجعهم هرولة، تعوَدّوا التجمع هكذا سريعاً، عند سماع الصافرة الآتية مميزة، من چاسب على وجه الخصوص، تفادياً لعقاب يضاف الى العقاب المقرر في المنهج، كأنهم يقبلون هذا النوع من العقاب، يتحاشون المَ ذاك الآتي من خارجه.
أمعنَ چاسب في التعذيب النفسي، عمل قرعة لمن يختاره القدر، ميتاً لإكمال العدد المطلوب اثنان في الشهر.
أعاد القرعة بعد ابتعادها عن المطلوب اماتته، حسب القصاصة التي وردت من أمن الجهاز مساء أمس، أعادها ثالثة ورابعة، وعندما لم تأت كما هو وارد، أوقَفها سبيلاً للاختيار.
سدد بعصاه الى صدر لؤي عبد العزيز طالباً صعوده، مستهزئاً بالقول، أنا من يقرر وليس القدر... أنا شخصياً لا أثق بالقدر.
يصعد لؤي درجات السلم متباطئاً بشكل واضح، وكأن عضلات ساقيه قد شلت من جذورها. دفعه حارس متخم قوي الى الأعلى، في محاولة التعجيل بصعوده، كان يرافق چاسب في بعض غزواته المثيرة.
لم يكن لؤي لحظتها يفكر بصعودٍ الى هذا الأعلى، طالما تمنى الأعلى، ترقية أعلى ومنصب عسكري أعلى، ابان دراسته في الكلية العسكرية، وعمله آمراً، وتخرجه متفوقاً في دراسة الأركان.
أدرك أن صعوده الآن الى الأعلى، نزول نحو قاع تخيله سحيقاً، ليس صعباً تفسيره، لقد فسره چاسب قبل قليل، لكن الصعب في مجاله تَصورُ الموت صعوداً على سلم، حيث لا مجال الى النزول قبل تسليم الروح، ولا معجزة قد تحصل في هذا العصر البائس، وفي هذا المكان المعزول عن الإحساس بالحياة.
تخيل عزرائيل متربصاً أعلى السلم، ينتظر صعوده، فأبطأ لا إرادياً، فاستعجله الحارس بوخز عصا، في أعلاها مسمار يستخدمه، عند اشتهاء سيل الدم قبل تناول الطعام.
تعجب لؤي وهو في طريق الصعود، من التقاء الرغبات في عقل چاسب، ونوايا عزرائيل في مسألة الاستعجال، تساءل في أجزاء من اللحظة، هل يعقل أن عزرائيل لا يعرف چاسب، واحداً من أوحش أهل الأرض وأكثرهم ظلماً؟.
كيف يلبي رغبته في قبض الروح، بهذه الطريقة البشعة؟.
تعجب من هذا الابطاء المحكوم بغريزة البقاء، وقد تمنى الموت على يد عزرائيل في جميع نوبات التعذيب.
سأل نفسه ثانية كم هي عزيزة هذه الروح؟.
أسفَ لموت جاء بهذه الطريقة الرخيصة، عكس تمنياته موتاً في ساحة قتال، يحسب فيها شهيداً.
تأوه من الموت وهذا الصعود، وعالم يتحكم به الغل المجنون.
تخيل نفسه إذا ما عَدِل عزرائيل عن الأمر، وأجل قبض الروح احتجاجاً على الطريقة، التي أرادها چاسب أو عناداً به، سينزلونه غصباً كما فعلوا في الصعود، جسداً مشوهاً بلا روح، سيدفنوه حياً مع باقي المعذبين في قبورٍ مجهولة، أو يرمونه جثة عفنة في مياه دجلة مثل باقي القاذورات.
شعرَ وكأن رأسه في دوامة يدور، يمكن أن يهرب منه بعيداً عن الجسد، وكرد فعل استجابي، حاول تثبيت قدميه على احدى درجات السلم بإ رادة العاجز، وبحث بكلتا يديه عن شيء يمسكه لتأكيد التثبيت. لكن عصا الحارس لم تمهله وخزاً باتجاه الصعود.
يربط چاسب اليدين متعامدتين، على خشبة ثبتّها على السلم، فبات الجسد المربوط، وكأنه الصليب الذي ربط عليه السيد المسيح، قبل ما يقارب الألفي عام.
أوقد ناراً في الحطب المكدس، وعاد جالساً على كرسي جلبه الحراس من مكتبه القريب.
يتصاعد الدخان عالياً، وتصاعد معه الهتاف بحياة الرئيس، أمراً أصدره چاسب ومعه الرقص دائرة حول المغدور.
ضغط لؤي على ذاته المشتتة، في محاولة الإبقاء على قدر من التركيز، كأنه يريد التأكد من مشهد الموت، حاول حرف التركيز، ولو بقليل من هواء يدخل رئتيه بعد امتلائهما بالدخان حد الانفجار، أخرج لسانه من بين شفتيه، كمن يحاول ترطيبها بلسان يبس هو أيضاً.
تصاعدت نحوه النار، وأشتد معها اليباس، مثل سنوات جفاف حلت على هذه الأرض التي هم فيها الآن.
صرخَ من اعماقه، طالباً الرحمة من الله، ومن عزرائيل الاستعجال في قبض الروح، فأزاد الحارس ناره حطباً، لترتفع الى أعلى.
بقيَّ على حاله يصرخ، وقبل فقدان تحسسه الألم جراء احتراق النهايات الحسية في الجلد، جال في خاطره أنهم في هذه البلاد القاسية على أهلها، ليسوا بشراً مثل غيرهم يختارون حاضرهم، ولا طريقة موتهم.
ولما اشتدت في داخله الحسرة، وأحس قبضة عزرائيل تحيط رقبته التي تضخمت أوردتها من اشتداد تلك الحسرة، بصق بوجه چاسب، واستمرت عيناه تتحركان من دون ألم، عندها تعالى الهتاف بحياة الرئيس، تفادياً لردة الفعل غير المتوقعة.
انزلوه، قالها جاسب، إنه لا يستحق موتاً بلا ألم، سأميته بطريقة يبقى فيها متألماً، أنا من يقرر نهايته وليس عزرائيل، أتحدى عزرائيل أن يقبض روحه الآن.
رائحة الشواء، تملأ أقبية الزنازين.
لهيب النار طال العظام.
أنتهى حفل الشواء، فأخذه المشاركون الى زنزانته الرقم (8)، رموه على أرضها الباردة، فاقد الإحساس بالمكان، وكذلك بالمحيط اذ لم يعد يعرف أحداً فيه، كذلك لم يكلم أحداً الا كلاماً غريباً، وعندما يتكلم يشتم من يكون منه قريب، لم يخرج الى الحمام، قضى حاجاته في المكان على نفسه، ولما لم يمت في اليوم الثاني، مُنع الزملاء من إطعامه ومن تزويده بالماء، لثلاثة أيام سلم فيها الروح بعد استغاثة إحساس أطلقها بصحوة موت "اعطوني ماء إكراماً لوجه الله".
أكتئب لميتته المؤلمة جميع النزلاء، أحسوا انتظار الدور، اماتة مماثلة وربما أتعس بكثير، قرابين تقدم شهرياً الى الرئيس، واثقين جميعاً من انه يسأل كل مساء، وقبل النوم تحديداً عن أشكال عذابات الرفاق، وما يفعله الرجال التابعين لجهازه المخابراتي بالتحديد... انه يتابع بلهفة شديدة قصصهم، خاصة المثيرة منها لأنها تسره. تذكر كل هذا والسيارة في شوارع بغداد تسير، نزلت من عينيه دمعة أحس حرارتها، خاف من چاسب القريب، فمسحها بيده، وأدار وجهه صوب الشباك.
............
توقفت السيارة التي أقلتهم في علاوي الحلة، لينزل منها أحد السجانين. ابتسم چاسب، ابتسامة قد تكون الأولى، غير المنقوعة بعجين التشفي والعداء المكبوت. هنأهم بالإفراج مكرمة من السيد الرئيس، وقال، ها قد وصلتم نهاية المشوار، التعليمات التي لديّ، التزامكم الصمت عما جرى خلال سني سجنكم، أنصحكم أن تصمتوا فحيطان بيوتكم لها آذان تُسمع.
أصابهم الذهول، الفرج المشكوك فيه من ساعة مغادرتهم سجن أبو غريب، بات حقيقة ملموسة.
لحظات صمت، قال بعدها شكري، "يعني يمكنني النزول من السيارة والذهاب بسيارة تكسي الى البيت".
يمكنك، والأمر متروك لك، لكن من أين لك النقود، واذا لم تجد أحد في البيت أين ستذهب، لك الخيار، قال جاسب، فنزل شكري، مسرعاً حتى لم يودع من بقيَّ في السيارة، مثل طير الكناري المحبوس وقد فتحت له باب القفص.
اتجهت السيارة، من علاوي الحلة الى حي اليرموك أولاً، كما قال چاسب، فتمثلت المسافة القريبة الى هذا الحي الراقي، بالنسبة الى طارق وكأنها ألف كيلو متر، وكأن الدقائق التي لا تزيد عن العشرة، ألف ساعة مسير، جعلته يهرب من وقعها الثقيل على نفسه المتلهفة لأهل البيت، انشغل بالتفكير، مرت من أمامه خيالات صور مرتضى وحامد وصالح وآخرين، وكذلك محمد صبري الحديثي، مسجى ميتاً على أرض الممر، بضربة جاءت قوية من أبو حديدة، هشمت نصف جمجمته، جالس عند رأسه، شقيقه السفير شكري، ومن فوقه ابو حديدة يصدر الأوامر:
على الجميع الحضور الى هنا.
شكلوا دائرة حول هذا الخائن.
اريد منكم فرقة غناء، سنحتفل بموت الخائن.
قائد الفرقة ومغنيها سيكون "النذل"، هل أنت جاهز؟.
أجاب شكري ونوبة البكاء تخنقه، نعم سيدي.
كان لشكري صوت جميل يدندن به في بعض أوقات الانفراج ترويحاً عن نفسه. حاول التملص من الموقف، فالمغدور شقيقه، فجاءته ضربة من عمود أبو حديدة على كتفه أوقعته جانباً، وبعد أن عدّلَ من وضعه، أحس الحزن في داخله يتورم، وهو يرى عيون الآخرين من حوله تريد أن تقول شيئاً، ومع هذا بدأ الشجو حزيناً لهذه الأبيات كمن يقرأ وأقعة كربلاء:
يا نائمين الليل
كيف المنام يطيب
الموت حق
والفراق صعيب
تمنيت الكفن عند الأهل
وتمنيت الوالدة من تجمع الكافور والطيب
يا نائمين الليل.... كيف المنام يطيب
بكى من حوله الجميع، وهم يرددون آخر كلمة من شطر البيت المغنى "يطيب" بكاءً ليس على السيد محمد الذي تخلص من جحيم العذاب، بل على شكري الذي أقحِمَ في موقف يراد فيه انتزاع الروح من جسدها ببطء.
مازالت السيارة في طريقها الى حي اليرموك، ومازال ركابها صامتون، خائفين من أن يكونوا في موقف حلم عابر، ألتفت اليهم طارق، جال في وجوههم التي لم تستوعب الحدث بعد، وعاد الى نفسه، خصها بالقول، ما أكثر لحظات الصمت التي مرت في سنوات السجن الرهيب، لو جاز حساب الصمت فيها لفاق لحظات، كان الوعي خلالها صاحٍ يستجيب، لكن لحظة الصمت في هذه السيارة مختلفة، عن تلك التي تحصل في السجن، هذه فيها أمل تمتد جذوره في لهفة لمن فارقناهم، واشتقنا اليهم طوال الوقت الذي كان فيه العقل واعٍ يفكر.
أطلقَ زفرة كانت تكتمها الأنفاس العطشى، وتمتم خلالها القلب مرتعشاً، كأنه ينبض في كومة أحزان. قائلاً:
هل تشفى الأحزان؟،
وهل ينتهي التيه، وآهات هذا الزمان، وأعود مثلما كنت أقرب للإنسان.
لا، لا أريد العود الى حضائر فيها نفس الانسان.
أريد الهروب من نفسي، من وطني، سأبقى غارقاً في دموعي، الدمع لي وطن، عيون حبيبتي الدامعة هي الوطن، الذي سيطفئ النار التي توقدها دوماً هذه الأحزان.
هل تنتهي الأحزان؟.
كيف تنتهي الأحزان، وصورة چاسب هذا الجالس قريباً مني لا تفارقني.
أفعاله الشائنة لن تغادر مخيلتي، سوف لن تنهيها الأيام.
طارق، هل هذا هو بيتكم؟ سأل چاسب.
نعم ســـــ...لم يكمل، تذكر أنه قد يعود الى سالف الزمن انسان، فتعمد عدم قول كلمة "سيدي"، كان يخنقه قولها من الداخل، يشعره بالخذلان. فأدرك چاسب الموقف، وعندما هم بالنزول معه والتوجه الى باب البيت قال له، اسمعني جيداً، نحن مأمورين، ننفذ ما يطلب منا، يقولون لنا اضربوا فنظرب، مَوُتّوا فنميت، أقبلوا التحية نقبلها، أدوا التحية نؤديها، هكذا نحن وسنبقى هكذا مأمورين.
طرق على الباب بقوة، إذ أن الجرس لا يعمل، والكهرباء مقطوعة. أعاد الطرق ثانية وثالثة، فخرجت الزوجة ومن بعدها أربع بنات، سألها هل تعرفين هذا الرجل؟.
نظرت "أم نداء" ملياً، صرخت من فرط شوقها، رمت نفسها عليه، وكذلك فعلن الأربع بنات.
للراغبين بالأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/40026-2019-05-09-11-30-00.html
........ انتهت.......
1123 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع