مجلس الثلاثاء من عطا عبد الوهاب ... إلى شوقي الساعاتي

  

 مجلس الثلاثاء ،من عطا عبد الوهاب ... إلى شوقي الساعاتي

             عشر سنوات من الثقافة والعطاء

   

     

قبل خمسة أيام من مرور الذكرى العاشرة لتأسيسه، هاتفني الصديق الدكتور شوقي ناجي جواد الساعاتي، مدير مجلس الثلاثاء، ودعاني شخصيًا لحضور جلسة المجلس القادمة لأنها ستكون خاصة واستثنائية، للاحتفال بالعيد العاشر على تأسيس ذلك المجلس...! أثارت هذه الدعوة الكريمة والمميّزة شجوني وعواطفي، وحفّزت مشاعري وقلمي في حينها، فشرعتُ على الفور بكتابة هذه المقالة عن هذا المجلس للاحتفاء به ونشرها في إحدى الجرائد، وبعد أن حرّرت المقالة كاملةً، عاودتُ الاتصال بالدكتور الساعاتي، لأخبره بما أنجزته، فطلب مني أن أتلو بعضًا من سطورها في الاحتفال قبل نشرها، مشاركةً مع أربعة آخرين أجلاء من أعضاء المجلس.

في صباح يوم الحفل، أمتلأ صالون منزل الدكتور شوقي عن بكرة أبيه بروّاده وضيوفهم الكرام. وكان الضيف الأكرم الدكتور زيد حمزة وزير الصحة الأردني الأسبق. وبدأ الحفل بكلمة افتتاحية تشريفية من راعيه، أثنى من خلالها على جهود أعضاءه وتفاعلهم وتفانيهم في الحضور والمشاركة. بعدها اُسترسلت الكلمات الاستذكارية والتقديرية بالمناسبة، كما اُستعرضت في الحفل أيضًا فكرة تأسيس هذا المنتدى من قبل الراحل عطا عبد الوهاب، وسيرته، والمنجزات المتحققة من يومه الأول وحتى اليوم، ولاقت الكلمات استحسان وتقدير المحتفيين.

      

بعدها قطع عميد الحاضرين وأقدمهم، التربوي العريق الأستاذ نجيب محي الدين، كعكة الاحتفالية بهذه المناسبة، والتقطت الصور التذكارية وبارك وهنّأ الحضور بعضهم البعض وقَرّة أعينهم، داعين لمجلسهم دوام الاستمرار والمثابرة بعطائه الثّر، وشاكرين صاحب المنزل ومدير الجلسة، على حفاة الاستقبال والاحتفاء. ومترحمين على صاحب فكرته ومؤسسه.

وكل عام ... وكل أسبوع ... وكل ثلاثاء ... ومجلس الثلاثاء بألف خير.

وهكذا كان يا ما كان، ففي التاسع من نيسان من عام 2019، أطفأ مجلس الثلاثاء الثقافي شمعته العاشرة بسكون ونجاح منقطع، لا نظير له بين المجالس، واستمرارية لم تثلمها عثرات السنين وسَقَطاتها، وواظب روّاده منذ تأسيسه وحتى اليوم على ديمومة حواراتهم الهادئة والوديعة التي كان لها بداية ولم نعرف لها نهاية.

       

هذا المجلس الذي ولِد في عمان في السابع من نيسان من عام 2009، والتأم وشبَّ في صالون مسكن الدبلوماسي السابق والأديب الحاذق المرحوم عطا عبد الوهاب، بعد تقاعده عن العمل واستقراره في الأردن، وبدعم ومناصرة زوجته الراحلة بتول النائب.

آزرَ ولادة هذا المجلس الظافر أيضًا نخبةً خيّرة من رجال الفكر والدبلوماسيين، والأدباء والمثقفين، والكُتّاب والفنانين، مّمن أبعدتهم العقول المريضة، والنفوس الغافلة، والطبقة المتأخرة، عن بلدهم العراق. فهذه النّخب النيّرة لم تجد إلا الكلمة الطيبة لتجمعهم والرؤيا الثاقبة لتوحدهم والمواضيع الهادفة هدفهم، والرائحة العطرة تفوح منهم، فكانت الثقافة الأدبية هي سمتهم الأولى في هذا التجمع وسرمدهم الدائم، أما عنوانهم اللازم فهو الوطن الأم العراق.

هذا المجلس الدوري واللقاء الأسبوعي من كل يوم ثلاثاء والذي بموجبه أُطلق عليه (مجلس الثلاثاء) أصبح على مرّ الأيام بالنسبة لمرتاديه نبراسًا لعقولهن، ومتنفسًا لمداركهم، ومرتعًا لمؤنسهم. وهو امتداد طبيعي للمجالس الأدبية والثقافية والاجتماعية التي عُرفت بها، مدينة العلم والثقافة مدينة بغداد، منذ بدايات القرن الماضي، ناهيك عن مجالس العصر العباسي الزاهر وخلفاءه، أمثال هارون الرشيد والمأمون.

هذه المجالس أو ما يطلق عليها في ذلك الوقت (القَبول) هي بمثابة أسواق ثقافية تُقام في البيوتات والمقاهي ومن ثمَّ تطورت إلى النوادي والمنتديات، حيث استهلّها الشاعر الكبير معروف الرصافي، بمجلسه الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر. وكان يحضر تلك المجالس وفي عمومها، جمعٌ من الأدباء والشعراء وعلماء الدين ورجال الفكر من سياسيين وفنانين وكبار التجار. وفيها يناقش المجتمعون مختلف القضايا العامة ومتنوع فنون المعرفة، تعقبها نقاشات ومداولات. ولا تخلوا هذه المجالس من استذكار عبق الماضي والملاحم الخالدة، تتخللها فيما بينهم روح الدعابة والفكاهة والنوادر الطريفة. استمرّت هذه المجالس المتنوعة في صفاتها وحضورها مُشعّة ومشرقة بلا انقطاع طيلة سنوات القرن الماضي حتى انطفأت كاسفة مع بدأ العدوان الأمريكي على العراق عام 2003.

لكن مع لجوء أعداد غفيرة من العراقيين إلى الأردن، ومنها طبقة كبيرة، مثقّفة وراقية، عاد حنينهم لهذه المجالس وأعادَ بعضًا منهم، الروح لها، وانعشوها، وألهبوا شعلتها الوهاجة مرة أخرى فكان (مجلس الثلاثاء) أحد تلك المجالس وأولها.

وبعد أكثر من سنة ثريّة على إلتئام ذلك المجلس وزاخرة بمواضيعه، حرص السيد عطا عبد الوهاب، وبتشجيع من رواده، على جمع المحاضرات الأسبوعية وتبويبها ووضعها في كتاب شامل حملَ عنوان (أحاديث الثلاثاء ... أحاديث لمثقفين عراقيين) وصدر بطبعة أنيقة، تصدّر رفوف المكتبات العراقية والعربية، وأصبح ذلك تقليدًا سنويًا متسلسلًا للمجلس، حتى وصل عددها إلى تسعة أجزاء، والعاشر قيد الطبع، هي حصيلة ما يقارب 400 ندوة أو محاضرة ثقافية أقامها المجلس منذ تأسيسه وحتى الآن.

ومن دواعي سعادتي واعتزازي أن خالي، الأديب والدبلوماسي نجدة فتحي صفوة (رحمه الله)، وهو الزميل والصديق والقريب للمرحوم عطا، كان من أوائل رواد هذا المجلس إن لم يكن من داعمي ومساندي تأسيسه، حيث قدّم في بدايات سفره الخالد العديد من المحاضرات الفكرية والأدبية والتاريخية، طرّزت صفحات الأجزاء الأولى من تلك الكتب.

ومن دواعي الفخر أيضًا إن هذه المجلدات أصبحت موسوعة معلوماتية غزيرة، ستكون لاحقًا مصدرًا مهمًّا ومتنوّعًا للباحثين وطلاب العلم وعشّاق المعرفة.

  

من جهة ثانية، واقتداءً بالسيدة سُكينة بنت الحسين -أول امرأة عربية أنشئت بمفهومنا المعاصر (الصالون الأدبي النسوي) -قررت السيدة بتول النائب، بعد أشهر من بداية مجلس الرجال، إقامة مجلس ثقافي نسوي مرادف لــ (مجلس الثلاثاء) وعلى غراره، وفي نفس الصالة ولكن بلقاء دوري نصف شهري،

       

واختير يوم الأحد موعدا لذلك، يرتاده عدد غير قليل من سيدات المجتمع العراقي المقيمات في الأردن وصديقاتهنَّ. وتُقدّم المحاضرات الثقافية والعلمية من قبل عضوات المجلس أنفسهنَّ، وأحينًا تدعى ضيفة أو يدعى ضيف من خارجه لإلقاء محاضرة مختصّة لتنويع المادة المعطاة. وفي ختام المحاضرة ينتقلنَ السيدات لتناول الشاي والقهوة والمعجنات والحلويات، ويتبادلنَ الهمسات الجانبية وأطراف الحديث المعتادة بين النساء إلى أن يودّعن بعضهنَّ بالابتسامة والكلمات الطّيبة، وتنتهي الأحاديث مثلما بدأت على أمل اللقاء بعد أسبوعين.

وفي السنوات الثلاثة الأخيرة، حَرصْنَ عضوات المجلس على تكريم السيدة بتول لأكثر من مرة في صالون بيتها مرة وفي غيرها مرة أخرى بما تستحقه من تعظيم، تقديرًا لدورها الرائد واحترامًا لمكانتها الاجتماعية والتربوية وتاريخها الجهادي الحافل. وكأنّهنَّ يودّْعنها الوداع الأخير من حيث لا يعلمون ...!

بعد سنوات طوال وفي منتصف شهر كانون الثاني من عام 2017، أصيبت السيدة النائب، بجلطة دماغية أقعدتها عن استقبال وإدارة مجلسها. وفي يوم 24/2/2017، انتقلت هذه السيدة الفاضلة إلى بارئها، بعد مسيرة حافلة بالكفاح العائلي والعطاء الأبوي، فكانت صدمة أليمة في الوسط الثقافي والاجتماعي. وتوقف مجلس النساء بكل أسف.

في نهاية نفس الشهر توقف مجلس الرجال أيضًا، لأسباب صحية ونفسية ألمّت برائده السيد عطا عبد الوهاب، وبذلك انطفأت شمعتيّ المجلس في هذا البيت المُنير وغابَت عنه الشمس والقمر وتشظّا وارتحل إلى مكانين جديدين لكل منهما، فمجلس النساء انتقل إلى قاعة الأورفلي للفنون، ليلتئم من جديد في موعد جديد هو أول يوم أحد من كل شهر وتحت مُسمى (مجلس بتول النائب الثقافي) عرفانًا لدورها في تأسيسه، ووفاءً لها ولتاريخها النبيل. وما زال المجلس يعقد ندواته الشهرية بانتظام وبحيويّة كاملة من عضواته وحضور وافر وبإدارة ناجحة من قِبل التربوية القديرة السيدة آمال صدّيق.

   

أما مجلس الرجال فقد عزِمَ الأستاذ الجامعي الدكتور شوقي ناجي جواد الساعاتي -والذي كان يدير ندواته بنجاح منذ عام 2010-على استضافته في صالون منزله العامر، والعامر بنفس رواده وبنفس رونقه وأدائه دون أن يتوارى دائمًا عن ذِكر صاحبه ومؤسسه، الغائب الحاضر عطا عبد الوهاب، الذي أنتقل إلى الرفيق الأعلى في 24/1/2019، عن عمرٍ ناهز الخامسة والتسعين عامًا بعد عقود سحيقة من العمل الدؤوب والمعاناة والألم والصبر الجميل. وسيظلَّ اسمه مطرّزا على غلاف كل كتاب يصدر باسم هذا المجلس، ولا غرابة في ذلك ... فخيرِ خلف لخيرِ سلف.

لا يقتصر المجلس تقديم ندواته ومحاضراته على رواده النشطاء فقط بل يسعى دائمًا إلى استضافة شخصيات أدبية وثقافية قادمة من العراق أو من العراقيين في الشَتات، أو مقيمة في الأردن، تسعى لتقديم معلومة مفيدة وحديثة لم يتطرّق إليها أحد في السابق. حيث يتطلّع أعضاء المجلس باستمرار إلى تنوّع مادته الثقافية كجزء من التعبير عن التجديد في منهاج سياقه ومسيرته الثقافية.

خلال عقد زاهر من عمره المديد، كان لا بد من عجلة الزمن أن تدور دورتها الطبيعية في الحياة، ليجمع من رَكَبَ هذا المجلس منذ بداياته وبقيَّ مواظبًا وفيًّا له وما زال لحد الآن، ومنهم من رحل إلى بلادٍ أقصى وغاب واغترب وفي قلبه غصّة، ومنهم من قضى نحبه ورحل، ومنهم من ينتظر أن يترحل، وآخرين مّمن أنظموا حديثًا إلى مركب الثلاثاء.

سيبقى هذا المجلس المتجدّد بدمائه والمتدفّق بمغانمه، منبرًا حرًا ورمزًا للثقافة العراقية في المهجر، وستظل أبوابه مفتوحة لاستقبال النخب ولجميع الناس ولمن يرغب.

وصدق الشاعر حين قال:

 إذا استفدتٌ بشيءٍ كنت أقرأه

 ففي المجالس شيءٌ ليس في الكُتبِ

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

713 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع