قصص واقعية ...دقة بدقة

        

قصص واقعية من كتاب (عدالة السماء)للمرحوم أللواء محمود شيت خطاب

            

     

                إعداد: سعد هزاع عمر

   

دقة بدقة
كان تاجراً كبيرا، وكانت تجارته بين العراق وسورية(2) يبيع الحبوب في سورية،ويستورد منها الصابون والأقمشة.

                

وكان رجلاً مستقيما في خلقه، قوي التدين، يزكي ماله ويغدق على الفقراء مما أفاء الله به عليه من خير.
وكان يقضي حاجات الناس، لا يكاد يرد سائلاً، وكان يقول:
((زكاة المال من المال وزكاة الجاه قضاء الحاجات)).
وكان يعود مرضى محلته ويتفقدهم كل يوم تقريبا، وكان يصلي المغرب والعشاء في مسجدا قرب داره ن فلا يتخلف عن الصلاة أحد من جيرانه الإ ويسأل عنه، فإذا كان مريضاً عاده، وإذا كان محتاجا إلى المال أعطاه من ماله، وإذا كان مسافراً خلفه في عياله.
وكان له ولدُ وابنة واحدة، بلغا عمر الشباب.
وفي يوم من الأيام، سأل ولده الوحيد أن يسافر الى سورية بتجارته قائلاً له:
((لقد كبرت يا ولدي، فلا أقوى على السفر. وقد أصبحت رجلاً والحمد لله فسافر على بركة الله مع قافلة الحبوب الى حلب فبع ما معك، وأشتر بها صابوناً وقماشا ثم عد الينا، ولكنني أوصيك بتقوى الله، وأطلب منك أن تحافظ على شرف أختك)).
وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى، يوم لم يكن حينئذ قطارات ولا سيارات... وسافر الشاب بتجارة أبيه من مرحلة إلى مرحلة:
يسهر على إدارة القافلة، ويحرص على حماية ماله، ويقوم على شـؤون رجاله.
وفي حلب الشهباء، باع حبوبه، واشترى بثمنها من صابونها الممتاز وقماشها الفاخر، ثم تجهز للعودة أدراجه إلى الموصل الحدباء.
وفي يوم من الأيام قبيل عودته من حلب، رأى شابة جميلة تخطر بغلالة من اللاذ (3) في طريق مقفر بعد غروب الشمس، أختطف منها قبلة ثم هرب على وجهه وهربت الفتاة.

وما كاد يستقر به المقام في مستقره إلا وأخذ يؤنب نفسه وندم على فعلته ولا ساعة مندم.
وكتـم أمره عن أصحابه، ولم يبح بسره لأحد، وبعد أيام عاد إلى بلده.
وكان والده الشيخ في غرفته يطل منها على حوش (4) الدار، حين طرق الباب السٌقاء، فهرعت ابنته الى الباب تفتحه له، وحمل السقاء قربته وصبها في اُلحب (5)، وأخت الفتى تنتظره على الباب لتغلقه بعد مغادرة السقاء الدار.
وعاد السقاء بقربته الفارغة، فلما مر بالفتاة قبلها، ثم هرب لا يلوي على شيء.
ولمح أبوها من نافذة غـرفته ما حدث، فردد من صميم قلبه:
((لاحول ولا قـوة الا بالله)).
ولم يقل الأب شيئاً، ولم تقل الفتاة شيئاً.
وعاد السقاء في اليوم الثاني إلى دار الرجل كالمعتاد، وكان مطأطئ الرأس خجلاُ، وفتحت له الفتاة الباب، ولكنه لم يعد الى فعلته مرة أخرى.
لقد كان السقاء يزود الدار بالماء منذ سنين، كما كان يزود دور المحلة كلها بالماء،ولم يكن في يوم من الأيام موضع ريبة، ولم يحدث له أن ينظر إلى محارم الناس نظرة سوء، وكان في العقد الخامس من عمرة وقد ولٌى عنه عهد الشباب وما قد يصحبه من تهـور وطيش وغـرور...
وقدم الفتى الموصل، موفور الصحة، وافر المال.
ولم يفرح والده بالصحة ولا بالمال، لم يسأل ولده عن تجارته ولا عن سفره،
ولا عن أصحابه التجار في حلب.
لقد سأل ولده أول ما سأله: ماذا فعلت منذ غادرت الموصل إلى أن عدت اليها؟
وابتدأ الفتى يسرد قصة تجارته، فقاطعه أبوه متسائلا:
((هل قبلت فتاة، ومن متى وأين؟)) فسقط (6) في يد الشاب، ثم أنكر. ..
واحمرُ وجه الفتى وتلعثم، وأطرق برأسه إلى الأرض في صمت مطبق كأنه صخرة من صخور الجبال لا يتحرك ولا يريـم ( 7 ).
وكان الصمت فترة قصيرة من عمر الزمن، ولكنه كان كأنه الدهر.
وأخيراً قال له أبوه: لقد أوصيتك أن تصون عرض أختك في سفرك، ولكنك لم تفعل.
وقص عليه قصة أخته وكيف قبلها السقاء، فلا بد ان تلك بتلك القبلة وفاء لدين عليك.
وانهار الفتى، واعترف بالحقيقة.
وقال له أبوه مشفقا عليه وعلى أخته وعلى نفسه:
((أنني لم أكشف ذيلي في حرام، وكنت أصون عرضي حين كنت أصون اعراض الناس)) ولا أذكر أن لي خيانة في عرض أو سقطة من فاحشة، أرجو ألا اكون مدينا لله بشيء من ذلك.
وحين قبل السقاء أختك تيقنت أنك قبلت فتاة ما، فأدت أختك عنك دينك، لقد كانت دقة بدقة، وإن زدت زاد السقا !!.
وكانت يمامة تتغـنى فوق الــدار، ومما ردًدتـه:
من خاف على عقبه وعقب عقبه، فليتـق الله ...
ومن تعقب عـورات الناس، تعقب الله عـورته.
ومن تعقب الله عـورته، فضحه ولو كان في جوف رحــم.
ومن كان يحرص على عـرضه، فليحـرص على أعـراض الناس ...
ومن أراد أن يهتك عـرضه، فليهتك أعـراض الناس ...
لـذة ساعة غصة إلى قيام الساعة.
وكل دين لابد له من وفـاء.
ودين الأعـراض وفـاؤه بالأعـراض ...
والمرء يهتـك عـرضه، حين يهتك أعـراض الناس.
والذين يفرحون باللـذة الحـرام قليلاً، سيبكون على ماجنت أيديهم كثيرا.
والذين يخونون حـرمات الناس، يخونون حـرماتهم أولا.
ولكنهم غافـلـون عن أمرهم، لأنهم آخـر من يعلمون ...
ولوعلموا الحق، لتـواروا عن البشر خجلا وعـارا ...
إن ربك لبالمرصاد، وإنه أعـدل العادلين
قال تعالى:
فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
سورة (يونس)
معاني الكلمات:
(1) ـ دقة بدقة: هو مثل عامي شائع يقول
((دقة بدقة وإن زدت زاد السقا))
 (2) ـ سورية: هي الصحيح لا سوريا
(3) ـ اللاذ: ثياب حرير حمر تنسج بالصين واحدتها: لاذة. ويقول العامة: لاسة
 (4) ـ حوش الدار: فناؤها.
(5) ـ حب العماء: وعاء الماء كالزير والجرة
(جمع): أحباب، وحبيبة، وحباب.
(6) ـ سقط في يده: ندم وتحير ، قال تعالى: ((ولما سقط في أيديهم))
(7) ـ لا يريم: لا يبرح

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

856 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع