ميسون نعيم الرومي
حروب متلاحقة،خطفت ارواح آلاف الشباب ، خلفت الاف الأرامل والأيتام ، نزيف دم لاينضب ولا ينتهي ، فناء وموت يحصد الأرواح كل يوم ،. مصائب وكوارث متلاحقة ، مرض وعوز، حاجة وتشرد ، حيرة وضياع ، دمار ومآسى ، الم وعذاب ، منذ عقود وعقود ، في بلد منكوب اسمه العراق..
ذكريات قاسية مؤلمة حزينة ، تراكمت فوق الذكريات لاتهدأ ولا تنام ، تتوسلها الروح ، ان لا تنتفض ، فتلكأ الجراح التي تقيحت من فرط ما تراكمت ، جراح فوق جراح
كتب احد الأصدقاء ذكرياته عن حرب الخليج ، فانتفضت تلك الذكرى المرة الحزينة ، مخترقة السنين ، نافضة عنها غبارالزمن ، لتعلن عن ايام ملؤها الدم والدموع
في ذلك الوقت القريب البعيد ، كنت احد القلة من العراقيين المهاجرين الى السويد ، الذين غادروا الوطن مرغمين !!! كل يحمل شوقه ، وحنينه ، وجمرات الامه ، ليخفيها بين الضلوع ، لتحرق الروح والوجدان ، في صمت ، ومرارة ، وفي خشوع .
غزا صدام حسين الكويت البلد الجار ، فجر 2 / آب / 1990 كانت صدمة مروعة لنا ، نحن العراقيون المغتربون ، أفقنا على هذا الخبر المفزع ، الذي احال ايامنا الى معاناة وخوف على بلدنا واهلنا ، الذين وضعهم فيه ذلك الطاغية ، الدموي ، المغرور .
توقعنا من خلال متابعة الأخبار العالمية الأحداث المأساوية التي ستحل على بلدنا العزيز
بقينا ملتصقين بالأجهزة المسموعة والمرئية ، نترقب الأحداث الجسام بصمت ، وبعيون متحجرة حائرة .
في ليلة 17 كانون الثاني 1991، بدأ الهجوم الجوي على بغداد من قبل قوات التحالف ، المكونة من 34 دولة ، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، تحت إسـم حرب تحرير الكويت او( عاصفة الصحراء ) ، استمرت الى يوم 28 شباط 1991
أيام قاسية مرت علينا ، امتزجت فيها المشاعر الأنسانية المتضاربة ، بوجوم
وصمت في قلوبنا ، من امتعاض ...هلع ...فرح حزين .. تنتظر ( لعل ذلك الكابوس الأسود ، الحزب الفاشي ورئيسه الدموي ، الذي خيم على العراق واحرق الأخضر واليابس ينتهي إلى غير رجعـة ، وبتنا نرى التسلسل العائلي لحكم العراق حتى احفاد (حلا) أبنة المقبور صدام الصغرى ) - بعد أن اصابنا اليأس من رحيله دون حـرب.
عشنا الخوف ، وانتابنا القلق على اهلنا ، من المصير المجهول الذي ينتظرهم ، والبلد قد تحول الى شعلة من نار ، وهام اهل بغدادنا على وجوههم كل في طريق ...الى مصيره المجهول ، لم يكن بيدنا الا الجلوس وكلنا عيون جفت دموعها ، شاخصة الى التلفزيون ، الذي كان يبث الأحداث بصوره مباشرة من بغداد في ليلة الهجوم ، بعد ان يئسنا من التلفون الذي لايرد هناك في بيوت اهلنا واحبتنا .
لن انسى كلام المذيع وهو يصف بغداد التي تحولت الى مدينة اشباح وقوله ان سماء بغداد تشبه سماء الدول الأوربيه يوم كرسمس ( يقصد اطلاق الألعاب الناريه احتفالا ) ، ولكنه يعقب انها على سماء بغداد قنابل حية
كنا قد شاهدنا القنابل وهي تمطر وبالا على بغداد الحبيبة ، وكان البث حيا في تلك الليلة المشؤومة ، وفي اليوم الثاني انقطع البث الحي ، واخذوا يبثون لقطات متفرقة في نشرات الأخبار ، اضافة الى التحليل السياسي والتصريحات ...الخ
استمر القصف وازداد الخراب والدمار ، وفي كل مرة يقصف فيها مكان ، نطمع ان فيه نهاية ذلك المجرم ، لكي تنتهي مأساتنا ومآسي بلدنا ، دون جدوى حتى كان ذلك اليوم الرهيب ، هو اليوم الذي امر فيه القائد الضرورة الجيش العراقي بمغادة الكويت ، والرجوع الى العراق . حيث أن الطريق الوحيد بين الكويت وصفوان هو الطريق السريع رقم 80 و من صفوان الى البصرة
انسحب الجيش العراقي من الكويت بآلياته العسكرية ، وكان عددهم وحسب ما صُرح في الأخبار حوالي مائة الف عسكري ، مائة الف ... أكثرهم شباباً بعمر الزهور ، وصل الجيش المنكوب الى هذا الطريق واصبحت فلول الجيش المنسحب من الكويت مكشوفة كليا ، عندها بدأ طيران التحالف بالقاء القنابل على طول الطريق وعرضه ، فقصف حتى آخره .
في ذلك اليوم المروع ، وبعد انتهاء القصف الجوي بث التلفزيون السويدي مشاهد حيه عن ذلك الشارع المشؤوم ، الذي سمي بشارع الموت ، نعم مائة الف شاب عراقي ذبح لتمتزج دمائهم بتراب ذلك الشارع.
كانت المشاهد التي بُثت بعد ان اخلي شارع الموت تماما من الجثث ، شاهدنا بقايا مبعثرة لحافلات محطمه بالكامل ، احذية كانت في ارجل المنكوبين ... هنا وهناك ، بقايا دماء كالوشم على البقايا الباقية ، اوراق مصبوغة بالدماء مبعثرة بين الأنقاض المتبقية ، التقط المذيع احدها وبدأ بقراءة ماسطرته انامل احد العائدين ، كلمات اخيرة قليلة سريعة خطتها انامل عريس لعروسه لم يستطع اكمالها وبقى اسمه مجهولا كتب لقد قتلونا .. سوف لن اراك ثانية .. انا احبك
شاهدنا الأكياس البلاستيكية ذات السحّاب ، التي جلبت من امريكا مباشرة ، قبل قصف الشارع ، لقد كان كل شيْ مدروسا ومحسوبة نتائجه مسبقا ، حتى عدد الأكياس التي أعدّوها لوضع اشلاء خيرة شباب العراق ، ( ترى اين هي القبور الجماعية التي اودعوا فيها كل هذا العدد من المغضوب عليهم ( أولاد الخايبة ) ، الذين لم يشاهدوا في حياتهم القصيرة الا طواحين الحروب الهوجاء يدورون بها من حرب الى اخرى ، يشعلها ويديرها طاغية عميل مجرم ، جاؤوا به من الشارع ، وأعدّوه لتنفيذ مخطط اجرامي لعين ، يراد به تدمير العراق ، وإبادة خيرة اهله وشبابه الذين يمثلون الحاضر والمستقبل ، وتشريد القسم الآخر ، واذلال من تبقى..
لقد اغتال ذلك المجرم ، بسلوكه الدموي وحزبه المشؤوم واسياده مستقبل العراق .
الحديث ذو شجون ، والذكرى موجعه ، والحقيقة مؤلمة ، لا تطاق ، والمستقبل يدور في دوامة ، الرجاء ، والضياع ، والعذاب ، والأمل المفقود.
اما عن الأنتفاضة.. بعد تلك الأحداث , بث التلفزيون مشاهد عن بداياتها.. احدها لجندي عائد من شارع الموت
بحالة مروعه ( احد المحضوضين القلائل الناجين ) وهو يمزق صورة الطاغية المكشر عن انيابة المتعطشة الى الدماء..
ومشهد اخر لقلة وهم يهتفون بسقوط النظام ، برعب ، وبعدها اعلن البث ان هناك انتفاضة في الجنوب..
في البداية رحب الغرب بهذه الانتفاضة وهلل لها ، وبدون مقدمات انقلب المشهد ومن خلال بث حي قال المذيع هناك طائرات تقصف الثوار ولا نعرف هويتها ، بعد قليل ، اعلن ان الطائرات التي تقصف هي امريكية قادمة من جهة الكويت ، ... والنهاية الحزينة يعرفها الجميع ..
هذه الذكريات المؤلمه حقائق وشمت في الذاكرة.. ولكل عراقي قصص وذكريات ملؤها الأحزان ، والدموع
توالت الاحداث الجسام والمحن ، على بلدنا المنكوب ، وشعبنا ، لازال يئن ، وينوح ، و يسبح في بحر من الدماء ..
ويسير نحو المجهول ... عرفنا البدايه
ترى متى وكيف هي النهاية...؟
ستوكهولم
940 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع